الخرطوم – يشير إرجاء قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) حسم ملف العدالة الانتقالية إلى ما بعد التوقيع على اتفاق إلى أنه أحد أبرز الملفات التي قد تعرقل إنهاء الأزمة السياسية الراهنة، في ظل الإصرار على محاسبة متورطين في جرائم ارتكبت منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير.
ونددت تظاهرات اندلعت الخميس، تزامنًا مع ذكرى سقوط عدد من القتلى في مسيرات سابقة، بموقف التحالف الحكومي السابق واعتبرته القوى التي شاركت في التظاهرات بأنه يحقق أهداف “اللجنة الأمنية التابعة لنظام البشير”.
وحققت محادثات التسوية تقدما بعد أن جرى التوافق بين المدنيين والعسكريين على تشكيل سلطة تتكون من أربعة هياكل لإدارة الفترة الانتقالية، تشمل مجلس سيادة مدني ومجلسا للوزراء ومجلسا تشريعيا وآخر للأمن والدفاع يرأسه رئيس مجلس الوزراء.
وتشكل هذه البنود إحدى أبرز النقاط التي انطلق بموجبها التفاوض بين المجلس المركزي للحرية والتغيير والمكون العسكري منذ حوالي شهرين، ولم تظهر ملامح لكيفية التعامل معها، وفي مقدمتها ملف العدالة الانتقالية.
وتشير النقاط المتفق عليها إلى أن المؤسسة العسكرية بقيادتها الحالية حاضرة على مستوى تمهيد البيئة لإجراء انتخابات مع الابتعاد عن التواجد مباشرة على رأس السلطة.
وحددت مبادئ الدستور الانتقالي مهام المؤسسة العسكرية في الدفاع عن سيادة وحماية حدود البلاد، وحماية الدستور الانتقالي، وتنفيذ السياسات العسكرية والأمنية للدولة، والسياسات المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري وفق خطة متفق عليها من جميع الأطراف، وتبعية جهازي الشرطة والأمن للسلطة التنفيذية، على أن يكون رئيس الوزراء هو القائد الأعلى لها.
وقالت مصادر مطلعة لـ”العرب” إن المؤسسة العسكرية ليس لديها مانع في الاتجاه بشكل فاعل نحو تفكيك نظام الإخوان واسترداد الأموال المنهوبة وإفساح المجال أمام محاكمة رموز نظام الرئيس السابق، بما في ذلك تسهيل مهمة المحكمة الجنائية الدولية، وترى أن أدوارها في المرحلة الانتقالية استوجبت الحفاظ على أمن الدولة، وأن استخدام القوة العسكرية في بعض الأحيان ارتبط بتنفيذ مهامها.
وأكدت المصادر ذاتها أن المكون العسكري قدم وعوداً بتفكيك بنية الشركات التابعة لحزب المؤتمر الوطني، وهي قوة اقتصادية لا يستهان بها وإعادة تبعيتها إلى وزارة المالية، ما يشير إلى رغبتها في التأكيد على عدم السماح بعودة الفلول، مقابل التراجع عن فكرة المحاسبة التي تؤدي إلى إفشال التسوية برمتها.
ولدى السودان تجربة بشأن محاسبة العسكريين يحاول الجيش إعادة تنفيذها بصيغة تتوافق مع التطورات الحالية، حيث يبحث العودة إلى ستينات القرن الماضي عندما نصت وثيقة الدستور الانتقالي عقب الثورة التي أطاحت بالانقلاب على توفير حصانة للأجهزة الأمنية التي كانت على رأس السلطة منذ انقلاب 1958 وحتى العام 1964.
ونص الدستور في ذلك الحين على “عدم جواز الطعن أو اتخاذ أي إجراءات قانونية ضد أي حكم أو أمر صدر من أي شخص خلال فترة الانقلاب وحتى التوقيع على وثيقة الدستور الانتقالي ما دام قد صدر ذلك الحكم أو الأمر أو الفعل من ذلك الشخص أو تلك الهيئة أثناء تأدية الواجب أو بغرض حماية القانون والنظام أو حفظ الأمن”.
وأشار المحلل السياسي خالد الفكي إلى أن التسريبات حول المباحثات المغلقة تؤكد عدم ملاحقة شاغلي المناصب الدستورية منذ أبريل من العام 2019 وحتى التوقيع على الاتفاق الجديد، والأقرب أن تسمح الجهات الأمنية والعسكرية بالتحقيق المباشر مع مطلقي النار على المتظاهرين مقابل التعرف على من تسببوا في تطور الأحداث ووصولها إلى استخدام العنف.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن التوافق بين الطرفين يتمثل في ضرورة الذهاب إلى ملف العدالة الانتقالية بشكل عام وتقديم المتورطين في جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السابق إلى الجنائية الدولية، مع تقديم الأجهزة الأمنية والعسكرية تعهدات بإلقاء القبض على أي شخص يثبت تورطه في ارتكاب انتهاكات حقوقية في السنوات الماضية.
وشدد الفكي على أن التسوية بصيغتها الحالية تلقى قبولاً دوليًا وإقليميًا بجانب الجزء الأكبر من القوى السياسية، والتحدي يتمثل في المواقف المناوئة من بعض الحركات المسلحة والقوى القابعة تحت مظلة “الكتلة الديمقراطية” داخل تحالف الحرية والتغيير، والحزب الشيوعي، وبعض لجان المقاومة وتجمع المهنيين ورموز النظام السابق.
◙ المجلس المركزي للحرية والتغيير يعول على إقناع لجان المقاومة بوجهة نظره غير أن مسيرات التي شاركت فيها تنسيقيات لجان المقاومة تضع المزيد من العراقيل
وهناك قناعة لدى أحزاب لها ثقل في الشارع وخبرات تاريخية في التعامل مع العسكريين بأنه لا يمكن الاستغناء أو معاداة الجيش بشكل كامل، وأن فكرة المحاسبة قد تؤثر سلبًا على وحدة البلاد في غياب جهات أمنية تستطيع الحفاظ على السيادة الوطنية وصولاً إلى إجراء الانتخابات، وإعادة بناء هياكل السلطة الانتقالية.
ويعول المجلس المركزي للحرية والتغيير على إقناع لجان المقاومة بوجهة نظره، غير أن مسيرات الخميس التي شاركت فيها تنسيقيات لجان المقاومة ووجهت اتهامات إلى القوى المدنية بالسعي لتسوية منقوصة مع الجيش تضع المزيد من العراقيل.
وذكر أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية بجامعة النيلين اللواء محمد خليل الصائم أن وثيقة نقابة المحامين التي تشكل قاعدة انطلقت منها التفاهمات الأولية حتى الآن لم تتطرق إلى مسألة محاسبة المكون العسكري، غير أن الشارع لديه رأي آخر، وهو يتم النظر إليه باعتباره الفيصل في نجاح التسوية من عدمها.
ولفت في تصريح لـ”العرب” إلى أن القوى السياسية الحاضرة في الشارع، حال تجاوزت عن هذا البند قد تكون حقنت الكثير من الدماء وتسهم في انتقال السودان إلى مرحلة سياسية جديدة، ومن الأفضل عدم الاصطدام بالجيش، ومراعاة حساسية المرحلة الانتقالية مع إدخال تعديلات على القيادات الموجودة على رأسه حاليا، والاستعانة بطاقم آخر مع وجود ضمانات للوصول إلى الانتخابات.
وقسمت الحرية والتغيير العملية السياسية إلى مرحلتين، أولاهما اتفاق إطاري يقوم على تفاهمات جرت بينها وبين المكون العسكري وأطراف قوى الانتقال الديمقراطي، تشمل ملاحظات الجيش حول الدستور الانتقالي، والثانية نقاش حول قضايا رئيسية عالقة لبناء جيش مهني قومي موحد وفق ترتيبات أمنية متفق عليها.
العرب