الباحثة شذى خليل*
يعد الملف الاقتصادي في العراق واحدا من أكثر الملفات تعقيدا وغموضا وفسادا، والكثير من الدراسات تكشف أرقاما صادمة وما يترتب عليها من ردود فعل حكومية وإجراءات، فمنذ عام 2003 والعراق يشهد وضعا سياسيا متقلبا ومتأزما مما ينعكس وبشكل واضح وكبير على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، ولا سيما مع اعتماده بنسبة تزيد على 95% في موازناته العامة على مبيعات النفط، ورغم أن موازناته شهدت طفرة متزايدة منذ الغزو الأميركي للبلاد، لكن هذه الموازنات المليارية لم تنعكس إيجابا على الوضع العام في البلاد.
ازدادت معابر تصدير النفط أقصى جنوب البلاد المطلة على الخليج العربي، وزيادة الكميات المنتجة منه حتى وصلت إلى ما يزيد على أربعة ملايين برميل يومياً، وأعلنت وزارة النفط العراقية أخيراً أنها تمكنت من تصدير 100 مليون و564 ألف برميل خلال شهر مارس (آذار) الماضي، لتحقق أعلى إيرادات في تاريخ العراق منذ خمسين عاماً، بحيث بلغت خلال شهر واحد 11.7 مليار دولار، بمعدل سعر بيع البرميل الواحد بـ(110.090) دولارات، لكن دون تخطيط ولا تنظيم لتلك الموارد. تلك الأرقام أوردتها شركة تسويق النفط العراقية الحكومية “سومو”، إذ أصبح العراق نفطياً ثاني أكبر منتج للنفط في “أوبك” بعد السعودية، ومع ذلك يُصنف بين الدول السبع الأشد جوعاً في العالم.
وكما هو معروف أن الاقتصاد العراقي يستمد ديمومته من إيرادات قطاع النفط، وتصل لما يزيد على 90 في المئة من موارده، وهي جديرة بأن تكفل استمرارية الحياة لعموم المجتمع، وتؤمّن الأموال اللازمة لموازنات الدولة، وتوفر الإمكانات المعيشية والحياتية في اقتصاد يوصف بـ”الريعي”، بحيث يعتمد كلياً على الصادرات والموارد النفطية في اقتصاده، ويتأثر مباشرة بالتغيرات التي تحدث فيه.
يؤكد وزير النفط العراقي السابق جبار اللعيبي، أن هناك هدراً في عائدات الثروة النفطية، الذي تعتمد عليه الموازنات العراقية، وقال إنه نبّه لوقف منافذ الهدر وتغييرها عاجلاً، ومنها استيراد مشتقات نفطية بمعدل (3-4) مليارات دولار سنوياً، وحرق غاز طبيعي في الحقول بمعدل (6-7) مليارات دولار سنوياً، ونقل نفط خام بمعدل 2 مليار دولار سنوياً، وتفاصيل أخرى بمعدل 2 مليار دولار سنوياً، فيكون مجموع الهدر السنوي 15 مليار دولار وربما أكثر.
يصنف العراق ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، حيث يغرق في بحر من الفساد استنزف معظم إيراداته، ما دفع المواطنين نحو بئر عميق من الفقر، رغم امتلاك بلادهم ثروات هائلة. إذ حصل العراق على المرتبة 157 عالميا بين 180 دولة ضمن مؤشرات مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية للعام الماضي، مما يؤكد أن البلاد تعاني من مشكلة متفاقمة دون أن تحدد المنظمة أرقاما دقيقة لحجم الفساد في البلاد.
أصبح الفساد في العراق سياسة وثقافة وأسلوب حياة ترسخ له الأحزاب، وتحميه قواعد اللعبة. وبإلقاء نظرة على أرقام النفط، يتضح إلى أي مدى عاث الفساد في بلاد الرافدين.
المحاصصة السياسية فتحت نافذة للفساد، بسبب قدرتها على توفير حالة عرفية من الانسجام والتعادل في تحجيم دور الجهاز الرقابي، عن طريق إضعاف حوكمة نظام الدولة، عبر الأسلوب “المحاصصاتي” في التعاطي مع مراكز القرارات، إذ يبيح هذا التشكيل السياسي التوفيقي قدراً من الانسجام في اختراق القانون وانحراف المال العام في مسالك تسوّغها الحصانات المتبادلة.
بعض الاقتصاديين أكدوا دور الدولة الموازية وتأثيراتها مع قوى المحاصصة السياسية في التصرف أو الهدر أو الاستيلاء على المال العام، وهو الدور الأخطر والمهدد لسلامة العقد الاجتماعي، فالدولة اليوم تعاني من قوى اللا دولة التي يتحدث عنها المثقفون العراقيون والمتخصصون في العلوم السلوكية، والتي هي وسائل متشابكة من الأدوات، تنخر في جسد الدولة وتنهب موازناتها لمصلحة قوى سياسية خارج السيطرة الحكومية.
هيئة النزاهة الاتحادية أعلنت في تقريرها السنوي لعام 2021 عن تورط أكثر من 11 ألف مسؤول حكومي في قضايا فساد، من بينهم 54 وزيرا. وأضافت الهيئة (التي ترتبط بالبرلمان) أن جميع هؤلاء متهمون بقضايا فساد (لم تحدد طبيعتها) وأشارت إلى أنها وجهت إليهم أكثر من 15 ألف تهمة، إلا أن التحقيقات أسفرت عن إصدار 632 حكم إدانة لهؤلاء، من بينها حكم واحد بحق وزير، و42 حكما بحق 23 من ذوي الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومن هم بدرجتهم، مع استمرار التحقيق في بقية القضايا.
ونشرت هيئة النزاهة وتتسرب من وثائق تتوفر لدى مجلس النواب، إضافة إلى تقارير تؤكد بأن حجم الأموال التي خسرها العراق جراء الفساد، يزيد عن 450 مليار دولار، منذ عام 2003 و الى اليوم 2022، لا سيما أن الأحزاب المسيطرة على الحكومة ووزاراتها توجد عبر مسؤوليها وأعضائها في كل الأبنية الحكومية. وتكون عملية الفساد عن طريق صفقات استيراد وتصدير، أو عن طريق توفير الأغطية المالية للمشاريع الوهمية، واستخدام الفواتير والصكوك المزورة، إضافة إلى السرقة الواضحة، التي تجري عبر نقل المبالغ المالية الضخمة من الدوائر والبنوك الرسمية إلى حسابات بنكية خارج العراق، أو تحويلها إلى كتل نقدية كبيرة ويجري نقلها الى إيران .
يعد مزاد العملة من أكثر المنافذ الخطرة التي تدمر الاقتصاد العراقي ، وهو الملف الشائك الذي نستطيع تصنيفه “فساد ضمن القانون”، كونه يوفر المساحة الكافية للأحزاب والتجار النافذين لتهريب الدولار إلى الخارج، بأوراق رسمية وبحسب بيانات رسمية، فإن البنك المركزي العراقي باع منذ عام 2003 ولغاية الآن، أكثر من 400 مليار دولار عبر مزاده، وأن “أكثر من 85 بالمائة من المبالغ المباعة لا تبقى في العراق، بل إنها تتهرب إلى خارجه، أو تتحول إلى عقارات ومطاعم وفنادق داخله.
ختاما الفساد في العراق، من المواضيع الشائكة والمعقدة، لأنه يرتبط بأحزاب وفصائل مسلحة وجهات خارجية ودول جوار، وهناك تواطؤ حكومي وسياسي فيه، وكل ذلك يحصل على حساب المواطن العراقي الذي ينتظر أن تتحسن ظروف معيشته ومستوى الخدمات التي يطمح إليها، وأن محاربة الفساد تحتاج إلى إرادة سياسية، وهي غير متوفرة لحد الآن، كما أنه يحتاج إلى تعاون دولي وتشديد الرقابة على المصارف الأهلية والمنافذ الحدودية.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية