مركز الثقل الاستراتيجي الذي لا جدال فيه لأوكرانيا هو ممراتها الغربية إلى الحدود البولندية، المكان الذي تدخل منه الغالبية العظمى من الدعم الحربي الغربي إلى البلد. ومركز ثقلها التشغيلي هو خطوط إعادة الإمداد التي تتوزع شرقًا من كييف إلى مواقع الخطوط الأمامية المختلفة في أوكرانيا. ومن دون هذين الممرين، سيكون من المستحيل تقريبًا على كييف مواصلة العمليات في وقت الحرب لأكثر من بضعة أسابيع. لذلك، قد يحسب بوتين أن أفضل استخدام لتلك القوات الإضافية البالغ عددها 218 ألف جندي سيكون إطلاق عملية ثلاثية المحاور لقطع طريقي الإمداد هذين”.
(المقدم دانيال ل. ديفيس، زميل أول أولويات الدفاع والمحرر المساهم في موقع “19 فورتي فايف”).
“أريد أن أؤكد مرة أخرى أن جميع مهام العملية العسكرية الخاصة… سيتم الوفاء بها من دون قيد أو شرط”. (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين).
* *
أدى يوم آخر من الهجمات الصاروخية الروسية واسعة النطاق على البنية التحتية للطاقة المتعثرة أصلاً في أوكرانيا إلى إغراق الكثير من أجزاء البلد في الظلام. وتكثفت الهجمات التي لا هوادة فيها -التي استمرت طوال الليل وحتى ساعات الصباح الباكر- بشكل كبير، مع استمرار القوات القتالية الروسية في الانضمام إلى وحداتها على طول محيط الجبهة استعدادًا لهجوم شتوي كبير.
وقد انتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بصبر حتى يدرك نظام زيلينسكي خطورة وضع بلده ويضغط من أجل إجراء مفاوضات ثنائية. لكن الرئيس الأوكراني رفض بعناد مسار الدبلوماسية عند كل منعطف، واختار بدلاً من ذلك القتال حتى النهاية المريرة.
وهو مدعوم بالكامل في هذا القرار من مؤيديه في واشنطن، الذين يرون في الصراع فرصة لإضعاف روسيا حتى لا تتمكن من عرقلة خطط الولايات المتحدة “لإعادة التمحور” إلى آسيا. وسيكون تحول أوكرانيا إلى أرض قاحلة متجمدة وغير صالحة للسكن إلى حد كبير نتيجة لطموحات واشنطن الجيوسياسية الشرهة. وفي ما يلي ما جاء في منشور على موقع “قمر ألاباما” Moon of Alabama:
“كانت الهجمات السابقة قد حدت من قدرة التوزيع إلى نحو 50 % من الطلب. وسمح انقطاع التيار الكهربائي الخاضع للسيطرة والتقنين لساعات عدة في اليوم بتوزيع بعض الكهرباء لبضع ساعات في معظم أنحاء البلاد. لكن الهجوم اليوم خلق مشكلة أكبر بكثير.
لم تتعرض شبكات التوزيع للهجوم فحسب، بل تعرضت أيضا للعناصر التي تربط مرافق إنتاج الكهرباء في أوكرانيا بشبكة التوزيع. والآن، أصبحت جميع محطات الطاقة النووية الأربع في أوكرانيا، مع مفاعلاتها الـ15، في وضع الإغلاق. ولم تعد لدى كييف، إلى جانب معظم المدن الأخرى في أوكرانيا، كهرباء”. (أوكرانيا -الأنوار انطفأت، لا ماء وقريبًا لا دفء”، “قمر ألاباما”).
وتصاحب انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع درجات حرارة مجمِّدة ستؤدي حتما إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة. وسيضطر ملايين الأوكرانيين إلى الفرار عبر الحدود بحثًا عن ملجأ في أوروبا. وسيُترك آخرون للاختباء في ملاجئ الطوارئ المؤقتة التي تتم تدفئتها بشكل متقطع بواسطة مولدات تعمل بالديزل.
وليس هناك أي احتمال لأن يتم إصلاح نظام الطاقة المتهالك في أوكرانيا بسرعة. وحتى لو كان من الممكن إعادة تجميعه معًا ببعض القدرة المرتجلة، فلن يكون ذلك سوى إصلاح قصير الأجل. الحقيقة هي أن الروس حددوا المحطات الفرعية الرئيسية والمحطات والمحولات الآلية في جميع أنحاء أوكرانيا وهم يصطادونها واحدة تلو الأخرى. وبينما تجد نفسها غير قادرة على الدفاع عن نفسها ضد وابل يومي من الصواريخ الموجهة بدقة، يجري قصف أوكرانيا لإعادتها تدريجيًا إلى العصر الحجري.
الهدف من العملية الروسية هو تقويض قدرة أوكرانيا على خوض الحرب. وليست الهجمات على شبكة الكهرباء الأوكرانية، ومراكز السكك الحديدية، ومستودعات الوقود، والجسور ومراكز القيادة والتحكم، سوى المرحلة الأولى من عملية من مرحلتين تم تصميمها لهزيمة العدو وإنهاء الحرب بسرعة.
وقد جمعت روسيا ما يقرب من 500.000 جندي في قوة ضاربة قتالية ستعبر البلاد على طول ثلاثة محاور رئيسية، وتقضي على القوات الأوكرانية أينما واجهتها وتستولي على المدن الرئيسية على طول الطريق. وسيتم إغلاق خطوط الإمداد الحيوية من بولندا، مما يترك القوات الأوكرانية في الجبهة معزولة ومكشوفة أمام الهجوم. وفي نهاية المطاف، سيتم قتل أعضاء النظام وقوات الأمن التابعة للكتلة اليمينية أو القبض عليهم. لن تسمح موسكو لحكومة معادية علنًا لروسيا بأن تحكم في البلاد. وفي ما يلي جزء مما ورد في مقابلة مع العقيد دوغلاس ماكغريغور (1):
“يوجد الآن 540.000 جندي روسي يتمركزون حول أطراف أوكرانيا ويستعدون لشن هجوم كبير أعتقد أنه من المحتمل أن ينهي الحرب في أوكرانيا. 540.000 جندي روسي، و1000 نظام مدفعية صاروخية، و5.000 مركبة قتالية مدرعة بما في ذلك ما لا يقل عن 1.500 دبابة، ومئات ومئات الصواريخ الباليستية التكتيكية. ستشهد أوكرانيا الآن حربًا على نطاق لم نشهده منذ العام 1945”. العقيد دوغلاس ماكغريغور، “رامبل”.
ويقول ماكغريغور مرة أخرى -”لقد تغير كل شيء الآن… الاحتمال الكبير هو أن تبدأ الهجمات في الأسابيع القليلة المقبلة، عندما تتجمد الأرض تمامًا ويَحكم الروس على قواتهم بأنها جاهزة. سوف يتحركون وسيقضون على هذه الدولة الأوكرانية، دعونا لا نخدع أنفسنا، من المرجح أن يتم القضاء على النظام في كييف مع ما تبقى من قواته المسلحة…”.
“أكبر خطأ يمكن أن نرتكبه في الغرب هو أن نورط أنفسنا في هذا. لقد ألحقنا ما يكفي من الضرر… وأعتقد أن ما سنراه… هو التدمير الكامل لهذه الدولة الأوكرانية الرديفة. الآن، ما الذي سيحدث بعد ذلك، لا أعرف. أنا واثق تمامًا من أن الروس لا يريدون البقاء في غرب أوكرانيا… الآن تتعامل روسيا مع أوكرانيا كعدو حقيقي.
في السابق لم يكونوا يفعلون، وهذا غير مفهوم في الغرب”. إن “أوكرانيا على وشك التعرض للإبادة”، (العقيد دوغلاس ماكنغريغور، “يوتيوب”).
(سؤال: هل هناك أي فرصة لإرسال قوات قتالية أميركية للقتال في أوكرانيا؟).
ماكغريغور: “نحن لسنا في وضع يسمح لنا بالدخول في حرب مع روسيا، وأي شيء سنفعله على الأرض سيفشل فشلاً ذريعًا وسيتسبب لنا بالحرج. لكن من الواضح أنه لا أحد في واشنطن يستمع… لا يوجد فهم حقيقي لكم هو الوضع يائس في غرب أوكرانيا.
ولذلك، فإن ما يمكن أن ننتظره مع هذا الهجوم (الروسي) الهائل هو هجرة ملايين الأوكرانيين إلى أوروبا لأنه ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه… الأوكرانيون يعرفون ما سيأتي. وليس هناك الكثير مما يمكن أن يفعلوه حيال ذلك في هذه المرحلة، ولكن بدلاً من من إلقاء حبل الحياة لهم، أخبرناهم بشكل أساسي بأن يغرقوا مع السفينة التي هم عليها”. (العقيد دوغلاس ماكغريغور، “أوكرانيا على وشك التعرض للإبادة”، “يوتيوب”).
وإذن، عندما تنتهي الضربات الصاروخية وتتجمد الأرض، سيبدأ الهجوم الروسي. ولكن ما الخطة؟ كيف سينشر الروس قواتهم وما الأهداف التكتيكية التي سيسعون إلى تحقيقها؟
في حين أنه لا يمكن لأحد أن يقول على وجه اليقين كيف سيتطور الهجوم، فإن منشورَين حديثين على الموقع العسكري “1945” يقدمان شرحًا مقنعًا ومفصلاً لما قد يحدث إذا قرر بوتين توجيه الضربة القاضية إلى القوات المسلحة الأوكرانية والقيادة السياسية في كييف. كتب المقالين المحرر المساهم في “1945” دانيال إل ديفيس، وهو زميل رفيع لأولويات الدفاع ومقدم سابق في الجيش الأميركي سبق وأن كان ضمن القوات التي انتشرت في مناطق القتال خارج اللايات المتحدة أربع مرات”. وفيما يلي بعض المقتطفات من المقالين:
“إذا أمر بوتين بشن هجوم شامل، فمن المرجح أن يبدأ بهجوم جوي وصاروخي وبالطائرات من دون طيار لاستكمال تدمير الشبكات الكهربائية الأوكرانية، والمحطات الفرعية، ومرافق تخزين الوقود، وساحات السكك الحديدية، وقاطرات الديزل، ومرافق الاتصالات. وسيكون الهدف هو جعل دعم القوات المسلحة الأوكرانية صعبًا للغاية، وتعقيد الاتصالات، وجعل حركة القوات داخل البلاد أكثر صعوبة، وتقليل القدرة على إيصال الدعم اللوجستي للقوات في الجبهات المختلفة بالغذاء والماء والدواء والذخيرة وقطع الغيار”.
“من خلال زيادة العبء على كييف وتحميلها مسؤولية العناية بالسكان المدنيين في جميع أنحاء البلاد، سيكون هناك قدر أقل من الموارد التي يمكن تخصيصها لدعم الحرب. وإذا أعطت كييف الأولوية لتزويد الوحدات القتالية، فقد يتجمد المدنيون حتى الموت أو يتضورون جوعًا نتيجة لذلك، مما يضع الحكومة في وضع رهيب لا يمكن الفوز فيه…”.
“سيكون المفتاح لفهم أهداف بوتين هو تقييم ما يمكن أن يفعله 200.000 جندي إضافي منطقيًا في أوكرانيا: تقدم ثلاثي المحاور مصمم لقطع شرايين دماء الحياة في أوكرانيا -ممر الإمداد من الحدود البولندية الذي تدخل من خلاله جميع إمدادات ومعدات ’الناتو‘ إلى أوكرانيا”. (عنوان المقال: “يمكن لبوتين أن يشن هجومًا شاملاً على أوكرانيا، لكن ذلك قد يكون سقطته”، دانيال ديفيس، “1945”).
لكن الكثير مما يتوقعه ديفيس حدث بالفعل، ولذلك سننتقل إلى سيناريوهاته الأكثر ترويعًا. وقد نُشر المقال أدناه بعد يوم واحد فقط من نشر المقال أعلاه. وإليكم ما يقوله:
“في هذه النسخة الأخيرة، سأعرض ما أزعم أنه أخطر مسار عمل يمكن أن تواجهه أوكرانيا: حملة برية لحرمان أوكرانيا من شريان حياتها من الغرب. وما أقدمه في هذا التحليل…. يمثل الخطر الأكبر على أوكرانيا…”.
“في هذا السيناريو، يدرك بوتن أن عدد القوات التي يمتلكها للمهمة ما يزال غير كاف للاستيلاء على المدن الكبيرة -وأنه لا يحتاج إلى الاستيلاء على المدن الكبرى لتحقيق النجاح. بدلاً من ذلك، ربما يكون ما يسعى إلى القيام به هو تحديد، ثم استئصال مركز الثقل الأوكراني. (الذي) يعرِّفه المنظر العسكري الشهير، كارل فون كلاوزفيتز، بأنه.. “محور كل قوة (العدو) وحركته، الذي يعتمد عليه كل شيء”.
ومعنى هذا أنه في الحرب، يجب أن يكون الهدف العام هو حرمان العدو من الشيء الوحيد الذي يجب عليه أن يحافظ عليه لكسب الحرب…”.
“في تقديري، فإن مركز الثقل الاستراتيجي لأوكرانيا بلا منازع هو ممراتها الغربية إلى الحدود البولندية حيث تدخل الغالبية العظمى من الدعم الحربي إلى البلاد. أما مركز ثقلها التشغيلي فهو خطوط إعادة الإمداد المنبثقة شرقًا من كييف إلى مواقع الخطوط الأمامية المختلفة في أوكرانيا. ومن دون هذين الممرين، سيكون من المستحيل تقريبًا على كييف مواصلة العمليات في وقت الحرب لأكثر من بضعة أسابيع”.
“لذلك، قد يحسب بوتين أن أفضل استخدام لهؤلاء الجنود الإضافيين البالغ عددهم 218.000 سيكون إطلاق هجوم ثلاثي المحاور لقطع كل من طرق الإمداد هذه: الجهد الذي له الأولوية في الغرب انطلاقًا من بيلاروسيا ويستهدف لفيف؛ وجهد داعم إلى الشمال الشرقي في اتجاه سومي؛ ودعم المحور من الشرق لتعزيز الهجوم الحالي في دونباس”.
“يشكل هجوم روسي ينطلق من جنوب شرق بيلاروسيا ويستهدف لفيف أكبر تهديد استراتيجي للقوات المسلحة الأوكرانية. تدخل جميع أسلحة القوات المسلحة الأوكرانية وذخائرها وقطع الغيار البلاد تقريبًا من بولندا عبر عدة طرق برية نحو كييف. وإذا قامت روسيا بقطع هذه الطرق عن طريق شن هجوم على طول الحدود البولندية/ الأوكرانية وصولاً إلى لفيف، فقد تقطع غالبية شحنات المواد الحربية القادمة من الغرب، التي من دونها لن تتمكن كييف من إدامة قواتها التي تحارب على الخطوط الأمامية في الجزء الشرقي من أوكرانيا لفترة طويلة”.
”إذا نفذت روسيا تقدمًا ثلاثي المحاور بقواتها القتالية التي تم حشدها حديثا، إضافة إلى ما يقرب من 200 ألف جندي منخرطين مسبقاً في القتال -والأهم من ذلك، تجنب محاولة الاستقرار في المدن- فسوف تتاح لها الفرصة لتركيز قوتها القتالية حيث تكون أوكرانيا أضعف ما يكون، وبطرق تعزز بعضها بعضًا مع المحاور الأخرى.
وسوف يكون مسار العمل من هذا النوع خطرًا كبيرًا على قوات زيلينسكي، لكنه لا يخلو من مخاطر كبيرة بالنسبة على الروس أيضًا…” (المقال بعنوان: “يمكن لبوتين شن هجوم شتوي كبير في أوكرانيا لقطع طرق الأسلحة”، دانيال ديفيس، 1945).
لا توجد طريقة، بطبيعة الحال، لمعرفة ما إذا كانت الحرب ستجري بالفعل بما يتماشى مع سيناريو ديفيس. ومع ذلك، يبدو من المرجح أن الاستراتيجيين الروس قد اكتشفوا بالفعل أنه لا يمكن كسب الحرب من دون قطع خطوط الإمداد الحيوية إلى بولندا. هذا هو الشريان الرئيسي الذي يبقى على استمرار الصراع ويسمح لزيلينسكي بتجنب المفاوضات.
بالنسبة لبوتين، سوف تكون محاولة بمثل هذه الخطوة مناورة محفوفة بالمخاطر، ويمكن أن تعجل في سقوطه السياسي، ولكن إذا فشل في اغتنام الفرصة لإجبار كييف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فقد تستمر الحرب إلى الأبد. لا توجد خيارات سهلة
بطبيعة الحال. ولكن -في هذه الحالة- يبدو أن الفوائد تفوق المخاطر بوضوح.
الغد