تضرر قطاع الزراعة في مصر بشدة في السنوات الماضية نتيجة إهمال الجهات المسؤولة عنه المحافظة عليه وتنميته، وتجاهل أنه أحد المصادر الرئيسية للدخل، ومع ذلك بات من أبرز المجالات التي شهدت نموا في الصادرات مؤخرا عقب التركيز على المزايا النسبية التي تمثلها بعض المحاصيل.
القاهرة – يجمع الخبراء على أن القاهرة تحتاج إلى التركيز على الزراعة باعتبارها طوق نجاة للملايين من المصريين من حيث تأمين الغذاء، خاصة أن القطاع يستوعب حصة كبيرة من العمالة.
وزادت المعاناة مع غياب المؤسسية عن القطاع العقود الماضية، وما ترتب عليها من عشوائية في إنتاج المحاصيل، بما أدخل البلد في أزمة من الواجب الإسراع بوضع حلول مناسبة لها.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن القطاع يسهم بنحو 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، و17 في المئة من إجمالي الصادرات السلعية غير النفطية، ويضم ربع القوة العاملة النشيطة بالبلاد.
وتعاني البلاد من أزمة زراعية نتيجة عدم الاستغلال الأمثل للموارد وعدم وجود تنظيم حقيقي، فالعائد على مورد الأرض مرتفع، بينما هو منخفض في العمالة الزراعية والمياه، وهذا يعني عدم الكفاءة في استخدام الموارد.
يتطلب النهوض بالقطاع وجود هياكل منظمة على شكل نقابات أو جمعيات تعاونيات أو روابط واتحادات تعبر عن وجهة نظر المزارعين كعنصر أساسي في المنظومة.
ومرد الأزمات غياب الأدوار الخدمية، كالإرشاد الزراعي الذي يلعب دورا أساسيا في توفير المعلومة بشكل علمي وسليم للمنتجين، ويمثل حلقة الوصل مع المسؤولين، حال عدم القدرة على حل المشاكل.
ومازالت السياسات الزراعية بعيدة عن مصلحة المزارعين، وما يبرهن على ذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار البيع، التي لا تتلاءم مع الأعباء التي تقع على كاهل المنتجين، ولذلك شهدت البلاد مشكلة نقص في محصول الأرز مؤخرا.
ورغم تسعير طن الأرز رفيع الحبة بنحو 6600 جنيه (230 دولارا)، وطن الأرز عريض الحبة بنحو 250 دولارا، ولكن المزارعين يقومون ببيعه إلى القطاع الخاص والتجار بنحو 280 دولارا لارتفاع تكاليف الإنتاج وزيادة أعباء المعيشة.
ولم تنجح الحكومة في تحصيل المستهدف خلال الموسم الماضي من محصول القمح، إذ لم يتم الإقبال على زراعة المساحات المأمولة لغياب الرقابة وعدم وجود دور ملموس للإرشاد الرسمي.
وتتجدد أزمة الخضروات والفواكه والبطاطا من فترة إلى أخرى، ويكشف ارتفاعها الملحوظ عن خلل تعاني منه المنظومة وغياب ضبط السوق.
ويتحكم التجار في الأسعار رغم عدم تحملهم مصروفات الزراعة وتكاليف الإنتاج، في وقت تغيب فيه التنظيمات الفلاحية والنقابات القوية التي تدافع عن المزارعين.
كما أن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة يكمن في تهميش المزارع، فلا يزال بعيدا عن أولويات الحكومة رغم السعي لتوفير مسكن ومرافق عبر مبادرات أبرزها “حياة كريمة”، ولا توجد تنمية بشرية للأفراد، كالتعليم الملائم، فضلا عن غياب ثقافة الحفاظ على المهنة وتطويرها.
يصعب اعتبار الزيادة السكانية سببا هيكليا وحيدا للأزمة لأن العنصر البشري حال تدريبه وتأهيله سترتفع إنتاجيته بالزراعة أو غيرها من المجالات، بشرط وجود التعليم الجيد في هذا المجال.
وكانت آخر الفترات التي شهدت فيها مصر اكتفاء ذاتيا من القمح والأرز في ستينات القرن الماضي، والعائد على عنصر العمل والمياه مرتفعا، وشهدت تلك الفترة اهتماما لافتا بالمزارعين، وجرى وضعهم في مقدمة الفئات الأولى بالرعاية.
ومع أول قرض لصندوق النقد الدولي في أواخر السبعينات ومرورا بثمانينات القرن الماضي وحتى الوقت الراهن، بدأت السلطات تخرج من المنظومة الزراعية عبر خفض الدعم عن المزارعين.
وانعكس ذلك على ضعف الجمعيات التعاونية وإهمال التسويق للمنتجات الزراعية، ورفع الحكومة يدها تماما عن العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر، ووجد المزارع نفسه وحيدا في مهب عواصف تأتيه من جوانب مختلفة.
وطالب شريف فياض أستاذ الزراعة بمركز بحوث الصحراء في القاهرة بإعادة النظر في عودة الدورة الزراعية التي تعني عدم زراعة نفس المحصول في موسمين متتاليين.
ورأى أن على الحكومة تحديد المحاصيل التي تُزرع في كل منطقة، لأن هذه الدورة تحافظ على الأرض والمياه من خلال ضوابط معينة يضعها المتخصصون، ما يسهم في رفع المعدلات الإنتاجية.
وقال فياض لـ”العرب” إن “حل الأزمة يتطلب وجود مشاركة أكبر للمزارع عبر وجود قانون للتعاونيات يراعي حقوقه ويشارك في إعداده مع السماح بتكوين تنظيمات تتيح الفرصة للتعبير عن رأيهم في السياسة المتبعة بالقطاع”.
10 ملايين فدان من الراضي الزراعية المتوفرة ولكن تتم زراعة نحو 3.5 فدان من القمح
وتمثل عودة الدعم للمزارعين في مستلزمات الإنتاج، مثل التقاوي (البذور التي تلائم البيئة المحلية) والمبيدات، عنصرا مهما، تزداد أهميته مع شراء السماد المدعوم من قبل المزارع وليس المالك، لأن الملاك يقومون بشراء الأسمدة المدعومة ثم بيعها في السوق السوداء.
ويمكن حل المشكلة التي تفشت في أوساط المزارعين مؤخرا بوجود عقد يحكم العلاقة بين المالك والمستأجر، تحصل عليه الجمعية الزراعية التابعة للحيازة الزراعية وتمنح بموجبه الأسمدة للمستأجر.
وأشار فياض إلى بعض الحلول الناجزة للأزمة والتشجيع على زراعة المحاصيل الإستراتيجية، ومن بينها حتمية تفعيل الزراعة التعاقدية لمحاصيل مثل القمح والبنجر ودوار الشمس والزيوت والقطن، والتي تضمن تسويق وبيع منتجات الفلاحين.
ومن الأمور المهمة التي يجب أن تسعى إليها الحكومة لإعادة الاعتبار للزراعة عدم تحديد سعر المحاصيل الأساسية إلا بناء على السعر العالمي.
كما يجب أن تأخذ في الحسبان تكاليف الإنتاج الحقيقية، خاصة في الفترة الأخيرة التي شهدت انخفاضا كبيرا في سعر الجنيه، وأن يتم ذلك بالتنسيق مع المزارعين أو الممثلين لهم.
ولفت الخبير المصري إلى أنه لا يمكن الاعتماد على الأراضي الزراعية المستصلحة لحل الأزمة وتحقيق الأمن الغذائي، لأنها أرض هشة وتعتمد على مياه ضعيفة يمكن أن تنضب في أي وقت، وتتطلب تكنولوجيا عالية.
وعلاوة على ذلك، فإن المحاصيل التي تُزرع فيها صالحة للتصنيع أو التصدير، عكس الأراضي الزراعية القديمة.
سجلت صادرات مصر الزراعية خلال الأشهر العشرة الأولى من هذا العام قرابة 5.3 مليون طن من المنتجات بزيادة تتجاوز نحو 335.6 ألف طن بمقارنة سنوية.
وأوضح حسين أبوصدام نقيب الفلاحين (نقابة مستقلة) أن مصر لديها أزمة بسبب محدودية الرقعة الزراعية، وأن عدد السكان ليس نقمة ويمكن اتجاه العديد من الأفراد للتصنيع القائم على الزراعة، ما يتطلب عمالة كثيرة.
ويمكن استغلال عدد كبير من السكان في العمل التجاري بالقطاع ويكون هؤلاء وسطاء بين المزارعين والزبائن الراغبين في شراء المنتجات المحلية بالخارج.
وهذا الوضع يحتاج إلى زيادة عدد المصانع العاملة في الأغذية وزراعة محاصيل التصدير، وقبل ذلك تدريب الأفراد على كيفية التسويق والتصدير ومن ثم الاهتمام بالتنمية البشرية كعامل أساسي لمواجهة سلبيات زيادة عدد السكان.
وذكر أبوصدام لـ”العرب” أن الأزمة سببها إهمال القطاع نتيجة ندرة المياه، وهذا يتطلب التوسع الرأسي بزيادة معدلات الإنتاج للأراضي الحالية، كما أن استخدام التكنولوجيا العالية باهظة الثمن لن يستطيع المزارع توفيره.
وحال اللجوء إلى التكنولوجيا بدعم من الحكومة سينخفض عدد العمالة بالقطاع، ما يستوجب تنويع الأعمال والوظائف بالمجالات المرتبطة به، وفي مقدمتها التسويق والتصدير.
وتصاعدت المخاوف طيلة الأعوام الماضية خشية أن يقلل بناء سد النهضة الإثيوبي من حصة مصر من مياه نهر النيل، والذي يعد مصدر المياه الرئيسي في البلاد.
وتتاح المحاصيل الأكثر ربحية مثل النباتات الطبية والعطرية، لكن لم تنتشر بقوة في الأراضي التي تستصلحها الحكومة، لأنها تسعى إلى توفير الخضروات والمحاصيل الإستراتيجية مثل القمح والأرز وبدأت تتجه نحو استعادة بريق إنتاج القطن.
وأعلنت الحكومة في مارس الماضي تجهيز مشاريع الأراضي الجاري استصلاحها في الدلتا الجديدة وشمال سيناء ومناطق توشكى وغرب العوينات وغرب المنيا والضبعة الجديدة لتكون جاهزة لزراعة القمح الفترة المقبلة.
وستضيف الخطوة نحو 1.5 مليون طن قمح للإنتاج الحالي في غضون ثلاث سنوات، بمعدل نصف مليون فدان سنويا. وتستورد مصر أكثر من نصف حاجتها من القمح ونحو 95 في المئة من الزيوت و400 ألف طن من السكر. ويتطلب حل الأزمة أيضا الاهتمام بعلماء الزراعة ومراكز البحوث لاستنباط أصناف تكون إنتاجيتها أعلى وأقل استهلاكا للمياه، كوسيلة مهمة قد تكون أفضل من دعم المزارعين بشكل تقليدي في السولار والأسمدة.
ويؤكد أبوصدام صعوبة زراعة مساحات من الأراضي تغطي العجز في المحاصيل الإستراتيجية أو تحقيق الاكتفاء من محصول القمح مع محدودية الرقعة التي تصل إلى نحو 10 ملايين فدان، وتتم زراعة نحو 3.5 فدان قمحا.
وحال تركيز الحكومة على زيادة تلك المساحة من القمح سيؤثر ذلك سلبا على محاصيل مهمة أخرى مثل البرسيم كعلف أساسي للحيوانات التي يعتمد عليها المزارع، خاصة أن مصر لا تضم مراعي طبيعية. وإلى جانب ذلك يمكن إنتاج محاصيل أخرى مثل البنجر وقصب السكر، ولذلك يقوض ضيق الرقعة الزراعية تحقيق الوفرة في المحاصيل الزراعية.
العرب