هل تستطيع فرنسا أن تتمرد على الناتو؟

هل تستطيع فرنسا أن تتمرد على الناتو؟

المتأمل في حال مؤسسة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، يلاحظ أنهما يعانيان من مشكلات كبيرة، فعلى الرغم من مضي عقود على ولادتهما، إلا أن نجاح مهمة حفظ الأمن الجماعي الأطلسي ما يزال محل تشكيك، وكذلك الحال حينما يتعلق الأمر بضمان التنسيق السياسي والاقتصادي الأوروبي.
تسيطر الدول الأكثر قوة على منابع القرار في الاتحاد الأوروبي، وهذا غير مقلق للدول الأضعف، طالما كان الأمر متعلقاً بالقرارات الخارجية، أو التي لا تمس بشكل مباشر مصالحها، الأمر مشابه في الناتو، الذي تسيطر الولايات المتحدة على قراراته بسبب ما تملكه من وزن. ما سبق يجعل هذه التكتلات، على ما تملكه من صدى ومكانة، شديدة الهشاشة، ويجعلنا ننتبه إلى حقيقة أنها كانت مستمرة طيلة هذا الوقت لسبب وحيد، وهو عدم دخولها في تحديات كبيرة، والذي حدث هو أنه، ومع أول تحدٍ، ما لبث أن بدأ الأعضاء بالتشكيك فيها. كان الحدث الأبرز هو خروج بريطانيا، التي رأت أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يحقق مصالحها، وأنه أصبح يضغط عليها بقوة مادياً واجتماعياً، حتى فاقت الخسائر المكاسب.

لا توجد دولة مستعدة للتضحية بأمنها القومي في سبيل الحفاظ على التزاماتها الجماعية، والدول لا تمانع في الالتزام بتعهداتها بشرط ألا يتعارض ذلك مع مصلحتها

في الشرق الأوروبي حدث تململ مشابه، وتصاعدت الأسئلة حول حدود التوحد الأوروبي، وما إذا كان من الطبيعي أن تتدخل دول في السياسة الداخلية والتشريعات الخاصة بدول أخرى. زادت الأزمة الأوكرانية من حجم التشكك في «التضامن المشترك»، حيث ظلت الدول القريبة من الحدود الروسية، تتعامل بما يحقق مصلحتها الوطنية المحضة، سواء حينما يتعلق الأمر بمجمل العلاقة مع روسيا، أو بالتعاون الاقتصادي و»الطاقوي» معها. تتمتع فرنسا بمكانة جيدة داخل الاتحاد الأوروبي، وتعتبر من الدول المؤثرة فيه، لكن ذلك ليس الحال مع حلف الناتو بوجود الشقيقة الكبرى التي لا تحتمل المنافسة. في نهاية عام 2019 وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتقادات لحلف الناتو، اعتبر فيها أن الحلف «ميت سريريا»، وأنه فقد جدواه بعدما أصبح كل عضو من أعضائه يفكر بشكل منفرد، ويقوم بإجراءات أحادية. لم يكتف ماكرون بذلك، وإنما أشار بشكل صريح لتركيا ولعملياتها العسكرية في شمال سوريا، التي كانت دول أطلسية كثيرة، وما تزال، معترضة عليها. مثلت تركيا تحدياً مهماً لفرنسا، ليس فقط إبان رئاسة إيمانويل ماكرون، وإنما منذ أكثر من عقد، حيث اكتشفت فرنسا أنها لن تستطيع تهميش تركيا، على المستوى الأطلسي، أو إقصاءها بسهولة كما حدث في التجمع الأوروبي، السبب هو أن تركيا تتمتع بعلاقة استراتيجية وغير قابلة للمخاطرة مع الولايات المتحدة، بل إن موقف الأمريكيين إبان تصاعد الخلافات بين البلدين في حقبة الرئيس دونالد ترامب، بدا أقرب لمساندة الأتراك على حساب الفرنسيين، أوصل ذلك رسالة مهمة مفادها أنه يجب عدم تخيير الأمريكيين بين أنقرة وباريس. في زيارته بداية هذا الشهر لواشنطن، ومع حرصه على الاحتفاظ باللغة الدبلوماسية، واستخدام عبارات مثل «أخوة السلاح»، التي تذكر بالعلاقات التاريخية والحروب التي خاضها الجيشان الأمريكي والفرنسي وهما في جانب واحد، إلا أن الرئيس الفرنسي كشف، عدة مواقف بدا فيها مختلفاً مع السياسة الأمريكية. كان أبرز هذه المواقف انتقاد التشريع الأمريكي الجديد الخاص بتوفير الدعم للسيارات الأمريكية الكهربائية، الذي على الرغم من فوائده الوطنية على الصعيد الأمريكي، كتقديم دعم للطبقة الوسطى والمساهمة في الحفاظ على البيئة باستخدام طاقة نظيفة، إلا أنه سوف يؤثر بشكل كبير في المنافسة الدولية، خاصة في الشركات الفرنسية والأوروبية المنتجة لهذه السيارات، التي سوف تخرج من السوق فعلياً لأن ثمنها سيكون غاليا جداً بالمقارنة مع نظيراتها الأمريكيات.
الموقف الثاني الذي عبّر عنه ماكرون تعلق بالحرب الأوكرانية التي تدفع فرنسا، ومن خلفها أوروبا، فواتير عالية مقابل استمرارها. وجهة النظر الفرنسية هي، أنه على الرغم من التضامن مع أوكرانيا كضحية لاعتداء لا يمكن تبريره، إلا أنه يجب فتح فرص للحوار والتفاوض، لأن تشجيع الحرب إلى أمد مفتوح سوف تنجم عنه خسائر ومعاناة كبيرة، لن تكون محصورة في نطاق أوكرانيا. اكتفى بايدن بالتعبير عن استعداده للحوار مع بوتين لأجل إنهاء الصراع، أما بشأن السيارات الكهربائية فقال بحزم إنه لن يعتذر عن ذلك القرار. تبدو الولايات المتحدة في وضع مريح مقارنة بالأوروبيين، فهي بعيدة جغرافياً ومحصنة بشكل تام من الناحية الدفاعية ضد أي هجوم، كما أن تأثرها بأزمة الطاقة أقل، بل ربما تكون من المستفيدين بتصدير مواردها لأوروبا بالسعر الذي تحدده. للفرنسيين سابقة معروفة في محاولة التمرد على الناتو، ففي السابع من آذار/مارس 1966 أرسل الرئيس شارل ديغول رسالة للرئيس الأمريكي جونسون، عبّر فيها عن نية فرنسا تجميد المشاركة ضمن القيادة العسكرية للحلف. كان ديغول متشككا، كما كثير من الرؤساء الفرنسيين، في جدوى الحلف ونسبة الوثوق في القيادة الأمريكية، وفي الضمانات المقدمة لإنقاذ أوروبا. تسببت تلك الرسالة في نقل مقر الحلف من باريس إلى موقعه الحالي في بروكسل.
كان ذلك حدثا فارقا في العلاقة الفرنسية الأطلسية، ومنذ ذلك الحين ظلت فرنسا تعمل في النطاق الدفاعي بشكلٍ مواز لتحركات الحلف، كما صنعت لنفسها استراتيجية نووية شبه مستقلة. على صعيد العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من حديث الطرفين عن «امتزاج الدماء»، إلا أن رفض فرنسا المشاركة في غزو العراق في عام 2003 كان أمرا لافتا أيضا. يمكن تفهم هذه النزعة الفرنسية، لكن المفارقة هي أن فرنسا ظلت تقوم بما تنتقد تركيا بسببه وهو التحرك بما يخدم مصلحتها الوطنية، من دون مراعاة لرؤية الحلف. في الواقع، فإنه لا توجد أي دولة مستعدة للتضحية بأمنها القومي في سبيل الحفاظ على التزاماتها الجماعية، الذي يحدث هو أن الدول لا تمانع في الالتزام بتعهداتها والحرص على القيام بإجراءات متوافقة مع الإجماع بشرط ألا يتعارض ذلك مع مصلحتها.
في مقابل التحكم الأمريكي في أمن القارة الأوروبية كان لفرنسا وجهة نظر حرصت على إقناع شركائها بها، وهي أن تعمل الدول الأوروبية على زيادة الإنفاق الدفاعي، الذي ظل في أدنى مستوياته، وأن تسعى لبناء حلف إقليمي خاص يضمن الأمن الجماعي ويقلل الاعتماد على الناتو. واجهت هذه النظرة مشكلتان: الأولى أنها لم تكن مقنعة للجميع، حيث فضلت دول كثيرة الاستمرار في تخفيض النفقات الدفاعية وتوجيه فائض المال لبنود أخرى، أما المشكلة الثانية فهي أن مثل هذه الرؤية الطموحة تتطلب إدماج تركيا، التي سوف تشكل إضافة وازنة بعتادها الكبير وجيشها المتمرس، وهو أمر مقلق بالنسبة لفرنسا وربما لغيرها من الدول التي ترى أن خطة بهذا الشكل تعني أن تكون تركيا صاحبة الصوت الأعلى، حينما يتعلق الأمر بالأمن الأوروبي. سوف يستمر الطموح الفرنسي بالاستقلال عن المظلة الأمريكية، ولكنه طموح لا يستند إلى قوة كافية، فحتى لو كان لفرنسا بعض الثقل السياسي والعسكري على الصعيد الدولي، إلا أنها تظل مصنفة كـ»قوة متوسطة»، وأوضح دليل على ذلك هو أن تنفيذ عمليات كبيرة مثل التدخل في مالي، لم يكن لينجح لولا الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي قدمه الأمريكيون.

القدس العربي