بعد هجمات باريس: الأصوات الفرنسية تجاه التحدي المتمثل بـ تنظيم «داعش» وسوريا والعراق والإرهاب الإسلامي

بعد هجمات باريس: الأصوات الفرنسية تجاه التحدي المتمثل بـ تنظيم «داعش» وسوريا والعراق والإرهاب الإسلامي

FranceNavyFlagCarrierRTS7PYI-639x405

في فرنسا، ينتمي الهجومان الإرهابيان اللذان افتتحا العام 2015 واختتماه، أولهما حادثة إطلاق النار على صحيفة «شارلي إبدو» في كانون الثاني/يناير والثاني الهجمات المنسقة التي وقعت هذا الشهر، إلى الاستراتيجية ذاتها التي شرحها مفصلاً المفكر الجهادي المتطرف أبو مصعب السوري في كتابة الصادر عام 2005 تحت عنوان “الدعوة إلى المقاومة الإسلامية العالمية”. ووفقاً لنظرة السوري، يُعد قرار أسامة بن لادن بالهجوم مباشرة على الولايات المتحدة خطأً ناجماً عن الكبرياء الأمر الذي حث أمريكا على تدمير تنظيم «القاعدة». كما يعتقد أن أوروبا هدفاً مناسباً أكثر من الولايات المتحدة، ليس فقط لكونها أضعف منها بكثير، بل بسبب الأعداد المتنامية لسكانها المسلمين أيضاً. ويطمح السوري إلى استغلال هذه المجتمعات، التي لم يندمج الكثير منها مع محيطه ويشعر بالحرمان، بهدف إشعال حرب أهلية أوروبية بين المسلمين الذين وقعوا في شباك التطرف وغير المسلمين، سعياً وراء الهدف الأخير المتمثل بإنشاء الخلافة على القارة الأوروبية. وللوصول إلى هذا الهدف، يسعى الجهاديون إلى تقسيم المجتمعات الأوروبية من خلال اتباع تكتيكات إرهابية، بينما يستغلون تغيير التركيبة السكانية التي تشهد تراجعاً في عدد السكان الأصليين، في الوقت الذي تتضخم فيه مجتمعات المهاجرين المسلمين. وخشية من هذه العواقب الديمغرافية، بدأ بعض الناخبين بدعم الأحزاب السياسية التابعة لأقصى اليمين مثل “الجبهة الوطنية”، التي يتوقع مستطلعو الآراء أن تحقق فوزاً ساحقاً في الانتخابات الإقليمية الفرنسية الشهر القادم.

ولكن على الصعيد التكتيكي، يختلف هجوما كانون الثاني/يناير وتشرين الثاني/نوفمبر بشكل ملحوظ عن بعضهما البعض. فحادثة إطلاق النار على صحيفة «شارلي إبدو» استهدفت من يعتبرهم الجهاديون «أعداء الله» (مثل رسامي الكاريكاتير والمرتدين واليهود)، إلا أن الهجوم الأخير استهدف الفئة الديمغرافية الشابة في باريس دون تمييز. بيد، لم يكن هذا الهجوم منظماً كما يجب، إذ أن المخططين كانوا يطمحون إلى إسقاط المزيد من الضحايا. على سبيل المثال، لم يتمكن المعتدون الذين يرتدون الأحزمة الناسفة من الدخول إلى الملعب لاستهداف أي من الـ 80 ألف شخص المتواجدين هناك، بمن فيهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند.

وفي حين نجح المعتدون في ترهيب عدوهم، لم تكن العملية استراتيجية فعالة لحشد دعم المتعاطفين معهم. ومنذ الأسبوع الماضي، لم يسجل تضامن ملحوظ مع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» خارج المجموعة الأساسية لداعميه الفرنكوفونيين. وفي الواقع، قد ينفّر الهجوم هؤلاء الداعمين وينذر بهزيمة استراتيجية تنظيم «الدولة الإسلامية»على غرار التراجع الذي عرفه تنظيم «القاعدة» في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر، عندما صب المجتمع الدولي تركيزه على هذا الأخير [بغية القضاء إليه]. وقد تلتقي أخيراً مصالح الدول الأخرى – المعنية حالياً بمحاربة تنظيم «داعش» والمنخرطة في مسرح الأحداث الدامية لهذه الجماعة – بما فيها روسيا وتركيا ودول الخليج، فتعتبر التنظيم كعدوها الألد.

على الرغم من أن الرئيس الفرنسي هولاند قد طلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تركيز ضرباته في سوريا على تنظيم «داعش»، من المرجح أن تكثف موسكو ضرباتها على جماعات أخرى من الثوار إذا اعتبرتها خطراً على نظام الأسد. فبشار الأسد هو حليف الكرملين العربي الأخير، وهذه العلاقة بين الطرفين تساعد على حماية القواعد العسكرية الروسية على ساحل البحر المتوسط. كما أن التدخل في سوريا يسمح لروسيا بالتأثير على أوروبا من خلال تغذية الإرهاب وتدفق اللاجئين، وهما ظاهرتان توسعان الشروخات السياسية في الاتحاد الأوروبي. ويشك كثيرون في أوروبا في صحة أي استراتيجية تهدف إلى إرغام الأسد على الرحيل، إذ يعتبرونه حليفاً ضرورياً (وإن بغيضاً) في وجه تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي النهاية، لم تبدِ الحكومات الأوروبية استعداداً لمراجعة سياستها بشكل علني، بل دعمت روسيا بطريقة تعزز من قوة نظام الأسد بصورة فعالة.

بإمكان روسيا أيضاً تحقيق مكاسب استراتيجية من الجهود الرامية إلى بناء دولة كردية في سوريا. فالأكراد بحاجة إلى دعم خارجي، وتُعتبر المساعدة الغربية محدودة بفعل تناقض عدة أهداف إقليمية. وتستطيع روسيا مساعدة الأكراد في حملاتهم في شمال سوريا، خصوصاً حول جرابلس، علماً أن الأكراد يفضلون هذه الأراضي على عاصمة «داعش» المتمثلة بالرقة. كما أن السيطرة الكردية في شمال البلاد قد تسهل على روسيا والأسد استهداف جماعات الثوار الأخرى. وفي حين يطمح الأسد إلى استعادة هذه الأراضي لنفسه، فإنه مستعد لتقبل السيطرة الكردية عليها إذا كان ذلك يساعده على تحقيق أهداف أكثر إلحاحاً.

وفي الواقع، يعتزم الأسد القيام بكل ما في وسعه للبقاء في السلطة، ولا تهدف مقاربته لمكافحة التمرد إلى كسب القلوب والعقول، بل إلى سحق المعارضة. وهو غالباً ما يسلط الضوء على السنوات الثلاثين التي نعمت خلالها سوريا بالسلام بعد أن قتل والده حافظ الأسد 30 ألف شخص في حماة. واليوم، تستمر قوات الأسد باستهداف جماعات المعارضة المعتدلة أكثر من استهدافها لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، الأمر الذي يعيق الجهود الغربية الرامية إلى إيجاد بديل مناسب عن النظام السوري. وفي حين لم يوجِد الأسد تنظيم «داعش» بنفسه، إلا أنه سرّع من نمو القوى المتطرفة التي تغذي تنظيم «الدولة الإسلامية»، كما أن المقاربة الغربية المتلكّئة تجاه النزاع قد لعبت دوراً في خلق المعضلة الحالية وهي: وجوب الاختيار بين الأسد وتنظيم «داعش».

ولن يُهزَم تنظيم «الدولة الإسلامية» بسهولة. فالتحالف لم يستولِ بعد على أجزاء كبرى من الأراضي الخاضعة لسيطرة الجماعة، وما زالت عناصر «داعش» قادرة على توجيه ضربات للخارج، في أماكن على غرار باريس وبيروت. وتضطلع الأراضي المحيطة بحلب بأهمية استراتيجية خاصة، حيث أنها تسهّل العبور بين سوريا وأوروبا. ولن تطرد روسيا تنظيم «الدولة الإسلامية» من هذه المنطقة إلا إذا كان بإمكان الجيش السوري أو القوات الكردية احتلالها.

وفي حين يشهد النزاع لحظة حاسمة في الوقت الحالي، فمن غير المرجح أن يكون الرئيس هولاند قد اقترح مسار عمل مختلف كثيراً بالنسبة إلى قوات التحالف في سوريا خلال لقائه مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 24 تشرين الثاني/نوفمبر، باستثناء مضاعفة جهود التنسيق بينها. أما في ما يتعلق بروسيا، فإذا قدمت فرنسا تنازلات حول شبه جزيرة القرم، قد تبدي موسكو المزيد من المرونة في سوريا، غير أن إيران لن توافق على ذلك. وبالتالي، تجتمع موسكو وطهران حالياً حول الهدف الموحد القائم على دعم الأسد.

تكثف فرنسا عملياتها العسكرية ضد تنظيم «داعش»، مع وصول حاملة الطائرات “شارل ديغول” إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط في 22 تشرين الثاني/نوفمبر لاستهداف البنى التحتية الأساسية للجماعة في الموصل والرقة. إلا أن الضربات الجوية غير كافية لوحدها، بل تبرز حاجة لوجود قوات برية أيضاً، وليس بالضرورة فرنسية. وفي مقابلة أجريت مع وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان مؤخراً، سلط الوزير الضوء على تحرير جبل سنجار بعد ترافق جهود القوات الكردية مع الضربات الجوية للتحالف. وبالمثل، شدد الرئيس هولاند في خطابه الموجه للبرلمان على الحاجة لتقديم المزيد من الدعم للقوات البرية التي تحارب تنظيم «الدولة الإسلامية».

وقد يعتبر تنظيم «داعش» أن أوروبا هي نقطة ضعف الغرب، ولكن فرنسا ليست نقطة ضعف أوروبا فيما يتعلق بمسائل الدفاع. فقد انخرطت فرنسا في الجهود العسكرية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وجهاديين آخرين في العراق سوريا ومالي وتقوم بعمليات مستمرة لتحقيق الاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى، ممثلة خط الدفاع الأول للاتحاد الأوروبي ضد التطرف. وقد برزت إشارات مشجعة من قبل عدة حكومات لدعم هذه الجهود، بما فيها تقديم بريطانيا الدعم على مستوى العمليات انطلاقاً من قاعدة أكروتيري التابعة لها في قبرص واحتمال قيام ألمانيا بنشر قواتها في مالي. ولكن لا تزال هناك قضايا أخرى عالقة. فالبرلمان البريطاني لم يوافق بعد على شن ضربات في سوريا، بينما تتناقش الصحافة الألمانية حول ما إذا كان يجب تعريف النزاع الحالي كحرب، وقد يضعف الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له مالي مؤخراً من استجابة الاتحاد الأوروبي.

لقد اختارت فرنسا أيضاً عدم اللجوء إلى “منظمة حلف شمال الأطلسي” (حلف «الناتو»)، بل استندت إلى بند الدفاع الجماعي الخاص بالاتحاد الأوروبي. ويكمن هذا القرار في تقييم فرنسا لـ تنظيم «داعش» بأنه يشكل تهديداً لأوروبا برمتها. ففي النهاية، تم شن هجمات باريس على يد شبكة معقدة تشمل عدة دول في الاتحاد الأوروبي، لا سيما بلجيكا. وتطالب فرنسا اليوم باتخاذ تدابير لحماية الحدود الخارجية لأوروبا، ومشاركة بيانات الركاب، وتقاسم الأعباء بالتساوي في مجالات أخرى من أجل مجابهة هذا التهديد.

وتندرج ردة الفعل هذه المتعلقة بالسياسة الخارجية ضمن المقاربة الفرنسية التقليدية، التي تفترض بالتحديد الدبلوماسية النشطة مع الشركاء التقليديين والأمم المتحدة، والقدرة العسكرية المحدودة ولكن القوية، والإرادة في القتال، والالتزام بتعزيز الأمن الفرنسي والأوروبي. ويتمثل الهدف المعلن للرئيس هولاند بإقامة تحالف دولي كبير ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، بمشاركة موسكو. وكانت استجابة الرئيس أوباما القوية في نهاية الأسبوع المنصرم مشجعة حينما أكد على ضرورة إلحاق الهزيمة بـ تنظيم «داعش». وتشكل زيارة هولاند إلى الولايات المتحدة جزءاً من سلسلة اجتماعات يجريها الرئيس الفرنسي مع زعماء بريطانيا وألمانيا وروسيا.

وبما أن معظم الإرهابيين قد وُلدوا وترعرعوا في فرنسا، يقوم جزء كبير من هذ التحدي على عنصر محلي أيضاً، وقد كرس الرئيس هولاند القسم الأكبر من خطابه البرلماني لتدابير الأمن الوطني والحاجة للوحدة الوطنية في ظل الظروف الراهنة. وتلعب السياسة الخارجية الفرنسية في الوقت الحاضر دوراً بارزاً في السياسات المحلية. وكذلك، تؤثر بعض جوانب الصراع المحلي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» على قضايا السياسة الخارجية، مثل محاربة الإتجار بالأسلحة، ومكافحة الفكر المتطرف، والحد من تمويل الإرهاب.

    إعداد

باتريك سمث