مسيرة القوات المسلحة العراقية: من الاحتلال إلى الدولة الإسلامية

مسيرة القوات المسلحة العراقية: من الاحتلال إلى الدولة الإسلامية

2015112610216784734_19

مقدمة

طوال عقود كانت الوطنية العراقية تدور حول الشخصية الأسطورية للجندي الذي يحارب من أجل الحرية والسيادة. وكان معظم العراقيين يعتبرون الجيش بمثابة رمز وضمان لاستمرار الأمة.

لعب الجيش العراقي الذي تأسَّس في 1921 دورًا جوهريًّا عبر التاريخ المضطرب للبلاد؛ فقبل أن تقوم الولايات المتحدة بتسريحه في 2003، كان الجيش يجد نفسه في قلب العديد من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وطوال عقود كانت الوطنية العراقية تدور حول الشخصية الأسطورية للجندي الذي يحارب من أجل الحرية والسيادة. وكان معظم العراقيين يعتبرون الجيش بمثابة رمز وضمان لاستمرار الأمة. ومع ذلك، كانت القوات المسلحة العراقية منذ البداية عاملًا رئيسًا في الاضطراب المحلي، وتتدخل في كل شأن، وتشكِّل علاقة تكافلية بين المجالين السياسي والعسكري، وهو ما دفع بالعراق حتمًا نحو الاستبداد. ولذلك تظل عملية إعادة الأمن في العراق تمثِّل تحديًا جوهريًّا، خاصة في السياق الراهن. على هذا النحو نجد أنه في الوقت الذي يحقِّق فيه تنظيم “الدولة الإسلامية” تقدمًا، لا تزال القوات المسلحة العراقية معرضة للمخاطر بعيد. فهل ستستطيع إخراج نفسها من دائرة العنف والطائفية والفساد، لتصبح أداة فعالة في الاستقرار والسلام؟

 مرحلة السيطرة الاستعمارية وتكوين الجيش (1921-1936)

منذ القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية تعمل على ترسيخ الإدارة في الولايات التي تحت سيطرتها. وفي ذلك الوقت، كانت نواة الجيش العراقي تتكون غالبًا من ضباط من الطبقة الوسطى العربية السنِّية، ومن الأكراد بدرجة أقل (1). وكان التعليم العسكري يمثِّل الطريق الوحيد للارتقاء اجتماعيًّا، ولكنه كان يثير عداء المجتمع الشيعي الذي كان يعتبره كيانًا طائفيًّا يخضع لمصالح أجنبية(2). وخلال الحرب العالمية الأولى، انشقَّ العديد من الضباط العراقيين للانضمام إلى الثورة بقيادة الشريف حسين شريف مكة بدعم بريطاني(3)، بينما ظلوا منقسمين حول رؤيتهم للقومية العربية الوليدة؛ فكان بعضهم يقاوم الاستعمار ويفضِّل تأييد العثمانيين. وفي أوائل العشرينات، قام البريطانيون -الذين ورثوا ولايات بغداد والموصل والبصرة الثلاث في ظل انتداب عصبة الأمم- بتحديث الهياكل القائمة وشكَّلوا في العراق 1921 أول جيش “متعدد الأعراق”(4). وتحرَّك النظام الملَكي الذي طرده الفرنسيون من سوريا إلى بغداد بقيادة الملك فيصل.

على هذا النحو لم يكن الجيش العراقي منذ مراحله الأولى مؤسسة وطنية تحولت إلى الاستقلال، بقدر ما كان قوة أمنية من المتطوعين الطيعين(5). وقد حرَّر هذا الوضع البريطانيين من مشقة الحفاظ على الأمن، وخاصة ضد التمردات الشيعية والقبلية والكردية. فقد كانت لندن أكثر اهتمامًا بحماية الحدود ضد العدوان الخارجي والحفاظ على مصالحها، وخاصة الوصول إلى النفط؛ فلم تشمل الاستراتيجية الاستعمارية أبدًا تدريب جيش محترف يمكن أن يوحِّد المجموعات العِرقية والدينية المتعددة. بل على العكس، فقد كانت تهدف إلى استمرار السيطرة على قوة صغيرة وخاضعة لا يمكنها أن توجه أسلحتها ضد التاج(6)؛ وقد أدَّت هذه الرؤية -التي كانت ضد التطلعات الوطنية- إلى ظهور استياء عميق ومزمن بين سكان العراق(7).

عسكرة الدولة ونظام الحزب الواحد (1936-1968)

عندما حصل العراق على استقلاله الرسمي في 1932، لم يكن جيشه منظمًا، ولكنه كان يتمتع بشعبية قوية لأنه فصل نفسه تدريجيًّا عن الحكم البريطاني وأصبح مستقلا عن المجال المدني ولديه إشارات واضحة إلى عسكرة الدولة، وكان يتصف بتدخله المسلح المتكرر في السياسة الداخلية ووقوع عدد من المحاولات الانقلابية(8). وكانت هذه المحاولات ترتبط بظهور الاستبداد مع بداية تعميم الدولة لاستخدام القوة والتجنيد الموسع، وأصبح الجيش العراقي بوتقة لأيديولوجيات جديدة مثل الاشتراكية والعروبة.

وحاول الضباط العراقيون -وهم غالبًا من العرب السنًّة ومعروفون بتطلعاتهم الشخصية- أن يفرضوا رؤيتهم على الدولة والأمة(9)، واستغلُّوا مزايا البيئة المواتية، أي مناهضة الاستعمار وتشويه الملكية، ولكن ذلك لم يستطع الحفاظ على السلام الاجتماعي؛ ففي 1936، حدث أول انقلاب عسكري عراقي، بقيادة الجنرال بكر صدقي. وبالرغم من أنه لم يستمر طويلًا، إلا أن هذه السابقة أدت إلى بداية فترة تضاعفت فيها التعديلات الحكومية. ومع وقوع انقلاب مؤيد للنازية في 1941 عاد البريطانيون إلى احتلال العراق. وفي 1958، وبقيادة عبد الكريم قاسم، قامت حركة “الضباط الأحرار” -التي تأثرت بالانقلاب العسكري في مصر في 1952- بالإطاحة بالملكية، واستولت زمرة عسكرية على الحكم وأعلنت “جمهورية العراق”.

وكان قاسم القريب من الشيوعيين يهدف إلى تجسيد نموذج الأمة العراقية الذي يضم الشيعة والأكراد، الذين كانوا مهمَّشين كثيرًا(10). ومع ذلك، أدى صعود الجيش إلى إثارة التوترات فقط؛ فبدلًا من أن يصبح “حَكَمًا”، أصبح مصدرًا لتوتر كبير في الواقع؛ حيث انقسمت الحركة الوطنية، وفضَّل عدد من الضباط اليسارَ، وحاول حزب البعث القيام بأول انقلاب في 1959 في الموصل، ولكنه سُحق بوحشية؛ مما دفع بأعضائه إلى المنفى. وواجهت جمهورية العراق الوليدة ثورات كردية أيضًا، ولكن الجيش استطاع احتواءها بالكاد(11). وطالب الأكراد والشيعة والشيوعيون بمزيد من الحريات، واستنكروا ميول قاسم الاستبدادية المتزايدة. وفيما كان الضباط الأحرار ملتزمين في البداية بإقامة نظام مدني، إلا أن السيطرة العسكرية كانت صارخة. وبالإضافة إلى ذلك، عيَّن قاسم أقاربه وحلفاءه في المناصب القيادية، وطوَّر عبادة الذات عمليًّا(12).

وأعاد البعثيون تنظيم صفوفهم في الخفاء ونشروا نفوذهم، وفي 1963، وبقيادة الجنرال أحمد حسن البكر، بدأوا انقلابًا جديدًا ناجحًا. وحُكم على قاسم بالإعدام، وتأسس “مجلس قيادة ثوري”، وأصبح العقيد عبد السلام عارف -عدو قاسم اللدود- رئيسًا للجمهورية، بينما قاد البكر حكومة طردت الشيوعيين(13). ومع ذلك، كان حزب البعث ذاته منقسمًا في أعقاب الانفصال الذي وقع بين جناحيه العراقي والسوري في نفس السنة، وفرض عارف نفسه بعد التطهير الداخلي وتم حل كل التيارات المعارضة؛ مما أدى إلى تأسيس نظام شبه ديكتاتوري. وكان عارف مثل قاسم معجبًا بعبد الناصر، وكان يرأس “الاتحاد الاشتراكي العربي” الذي كان يضم كل القوى السياسية العراقية(14). ومع ذلك، كان التحالف مع مصر بطيئًا، مما دفع الناصريين إلى التآمر على عارف، ولكن عبد الرحمن -وهو شقيق عارف- أحبط انقلابهم في 1965، وبعد مصرع عارف في حادث طائرة في 1966، خلَفَه عبد الرحمن. وكان على البعثيين ثانية إعادة تنظيم صفوفهم سرًّا، وقاموا بانقلاب آخر في 1968، وتمت الإطاحة بعبد الرحمن عارف، وتولى البكر الرئاسة، بمساعدة صدام حسين الذي استولى على الحزب والمهام الأمنية(15).

البعثيون في السلطة: المجد والتدهور والهزيمة (1968-1990)

أدَّى وصول كل من البكر ثم صدام إلى السلطة إلى زيادة اندفاع العراق نحو الاستبداد الذي تبلور حول التوجه العسكري والإضعاف الواضح للمجتمع المدني. وفقد الجيش سريعًا كل مظاهر الاستقلال، لأن الدولة أصبحت شديدة المركزية(16)، وتمكنت الميلشيات شبه العسكرية، والشرطة السرية والاستخبارات من إخضاع القوات النظامية. وكذلك عيَّن صدام حسين أقاربه في المناصب العليا في القيادة العسكرية والأجهزة الأمنية(17). ومن خلال شبكات منظمة للمخبرين السريين، ضمن النظام ولاء الجيش لإحباط أي انقلاب، وصار الجيش مجرد امتداد للحزب الحاكم(18).

وبعد سنوات طويلة في المنفى، صمَّم البعثيون على عدم تقديم أية تنازلات، واستهدفوا التمردات الكردية، التي كانت مصمِّمة أيضًا على إعلان دولة مستقلة في الشمال، والحزب الشيوعي الذي كان راسخًا بقوة في اتحادات العمال العراقية. وكان معارضو البعثيين الآخرون يتمثلون في الإسلام السياسي الشيعي، الذي كان مؤثِّرًا في الجنوب والمدن الفقيرة، وجماعة الإخوان المسلمين(19). وفي أواخر السبعينات، قام صدام حسين بتهميش البكر وجعل من نفسه القائد الوحيد، وعندما أصبح على رأس الدولة، جعل القمع منهجيًّا، ليس ضد معارضيه الأيديولوجيين فحسب، ولكن حتى ضد أعضاء الحزب الذين اتهمهم بالخيانة وأعدمهم بأعداد كبيرة. وحلَّت الشخصنة المطلقة للسلطة محل العلاقات التقليدية بين الدولة والمجتمع، وحافظ النظام على تماسكه “بالصبغة القبلية” لهياكله، وبالتالي تجاهل أي تضامن وطني(20). واستكمل صدام حسين استقطاب أهل قبيلته الذين زودوه بدورهم بشبكة أوسع من التحالفات(21).

وارتبطت هذه السيطرة الداخلية بالسعي نحو الهيمنة خارج حدود العراق. وفي الواقع، فإنه بينما كان وصول البعثيين إلى السلطة يشير مبدئيًّا إلى حدوث انفراجة إقليمية، خاصة بعد إبرام اتفاقية الجزائر مع إيران في 1975، والتي كان يفترض أنها ستضع نهاية حاسمة للنزاع على ممر شط العرب، إلا أن صدام حسين اختار بمجرد وصوله إلى السلطة أن يتحدى الوضع القائم(22)، ومحاولة فرض نفسه باعتباره القائد الجديد للشرق الأوسط. وشهدت السنوات 1975-1980 جهودًا لتحسين القدرات العسكرية للعراق، وخاصة بعد حرب 1973 مع إسرائيل، واعتبار صدام حسين إيرانَ العدو الأول للعراق. ووفر تأميم قطاع النفط في 1972، وتزايد العوائد النفطية، ثروة مالية هائلة لم تقتصر على السماح لبغداد بزياد القمع المحلي فحسب، ولكنها سمحت أيضًا بتحقيق برامج تسليحها(23).

العقوبات، والمعارضة، وتسريح الجيش (1990-2003)

كان العراق في ذروة قوته في 1980، ومن خلال “شعبوية المحارب” طوَّر النظام استراتيجية لضمان ولاء وطاعة القوات المسلحة وكبح المعارضة(24). وكان صدام يرتاب كثيرا في الجمهورية الإسلامية التي تأسست في طهران قبل ذلك بسنة، لأنها كانت تهدد بإثارة الولايات الجنوبية الشيعية في العراق؛ حيث اتهمت بغداد إيران بانتهاكات إقليمية وأعلنت الحرب. ومع ذلك، أثبتت المقاومة الإيرانية للعلميات العسكرية العراقية أنها أكثر صلابة مما كان متوقعًا، وتحوَّل الصراع الذي كان متوقعًا أن يكون قصيرًا إلى حرب استنزاف طويلة بصورة غير متوقعة. ولم يكن النظام البعثي مستعدًّا لمثل هذا المجهود، وكان يبالغ في قدراته بصوة واضحة. وبعد ثماني سنوات من الصراع، وفشل العديد من الوساطات، تم توقيع اتفاقية سلام أخيرًا.

وكانت الحرب ضد إيران مدمِّرة للعراق؛ حيث يُقدَّر عدد القتلى بأكثر من مليون قتيل، كان نصفهم على الجانب العراقي. وتحمل الجيش العراقي خسائر فادحة. ومع ذلك، أعلن صدَّام النصر، بل وأقام النصب للاحتفال “بأم المعارك”(25) وأنكر أية إشارة إلى الضعف. وقام صدَّام بصورة منهجية بطرد معظم الضباط الذين اعتبرهم مصدر خطر على النظام(26). وقبل مرور أقل من سنتين على نهاية الحرب مع طهران (وقريبًا من توقيت توقيع معاهدة السلام) قام صدام بغزو الكويت وأعلن أن هذه الإمارة “ولاية” عراقية. ومع ذلك، لم تحسب بغداد حسابًا لردِّ فعل الولايات المتحدة، التي حشدت تحالفًا دوليًّا وقادت حملة قصف جوي أنهكت البنية التحتية العسكرية والنفطية والصناعية العراقية بدرجة كبيرة، وتحررت الكويت بعد غزو بري توقف قبل غزو التحالف للعراق.

وكانت العقوبات الدولية التي فُرضت على العراق بعد هذه الحرب الجديدة شديدة للغاية(27). وبسبب حملة حظر التسليح والحظر الصارم، حدثت كارثة إنسانية أودت بحياة نصف مليون مدني خلال عشر سنوات. وعندما اندلع اضطراب في الولايات الشيعية، وحظي بتأييد مساندي المعارضة في المنفى والجنود المتمردين، قمعه النظام العراقي بصورة دموية(28). وحين انتشر التمرد من البصرة إلى مختلف أنحاء العراق حتى كردستان، ارتُكبت مذابح بحق السكان في 1988، وفرضت الأمم المتحدة منطقة حظر جوي مما دفع القوات العراقية إلى الانسحاب من المناطق الكردية. ونظرًا لفقدان السيطرة على الأرض ومواجهة محاولات الانشقاق والانقلاب داخل صفوف القوات المسلحة(29)، كان على النظام منذ ذلك الوقت فصاعدًا أن يعتمد على ميليشياته ليستمر في الوجود.

تسريح الجيش والفوضى التي أعقبته (2003-2011)

ضعف الجيش العراقي بسبب الحظر والحروب السابقة، وتم تسريح جنوده، ولم يعد هذا الجيش يمثِّل قوة مقاتلة متماسكة، وهذا ما يفسِّر الغزو الأميركي السريع في 2003؛ حيث أبدى عدد قليل من الوحدات شبه العسكرية فقط مقاومة  للقوات الأجنبية. فبعد حرب خاطفة، سقط النظام وتم تسريح الجيش بقرار من سلطة الاحتلال المؤقتة(30)، وقد استُكمل هذا الإجراء بحلِّ حزب البعث، وهي إجراءات مستوحاة من إقصاء النازيين من الدولة الألمانية عقب هزيمتها في 1945(31)؛ حيث تم حرمان ما بين 350 ألف و400 ألف جندي عراقي من العمل لصالح الدولة الجديدة، وتم تعليق التجنيد الإجباري. وكان التحالف يهدف إلى إعادة تشكيل جيش يستطيع ضمان “التحول الديمقراطي” للعراق، والحدَّ من مخاطر العودة إلى الديكتاتورية. ولكي يتحقق ذلك، كان يجب وضع القوات المسلحة تحت قيادة مدنية غير منحازة سياسيًّا وتمثِّل كل التكتلات التي تعارض مفهوم هيمنة العرب السنَّة على الجيش. وفي غضون أسابيع قليلة، ثبت أن هذه القرارات كارثية؛ حيث خلقت وضعًا تصعب إدارته وأدَّت إلى التمرد على نطاق واسع؛ فقد دُمِّر الجيش العراقي الذي كان الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، واختار العديد من جنوده المفصولين الجهاد المسلح؛ حيث اعتبر العرب السنَّة أن تسريح هذا الجيش يعني أيضًا حلَّ الكيان السنِّي(32).

وإجمالًا، كان لهذه الأخطاء آثار خطيرة على الوضع السياسي والأمني في العراق؛ مما زاد من تعقيد المهمة الصعبة أصلًا لإعادة بناء جيش حيوي. وهكذا كانت القوات الجديدة -كما كانت في ظل البريطانيين- تعتمد على المحتل في تسليحها وتدريبها، بل إن العديد من القواعد السابقة ومخازن الأسلحة نُهبت خلال الغزو ووقعت في أيدي المتمردين(33). ولم يكن الجيش الجديد معتادًا على الأسلحة التي قدَّمتها الولايات المتحدة، والتي لم يكن التدريب عليها كافيًا. وسرعان ما أصبح شريكًا كاملًا في الصراع، وأصبح مثقلًا بالانشقاقات العِرقية والطائفية والأيديولوجية، وتسلَّل إليه عناصر من حروب العصابات ( الحُريب) (34). ولم تتحقق مطالب العرب السنَّة بإعادة تأهيل آلاف الضباط السابقين. وبدلًا من ذلك، قام رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي بعد اختياره في 2006 بتأجيل إعادة اندماجهم إلى ما لا نهاية على أساس أن هذا يعني عودة حزب البعث في العراق(35).

وقد حاول المالكي أن يركِّز السلطات في يده، مثلما فعل صدَّام حسين من قبله؛ حيث حدَّد دوره بأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة لتعيين مئات من القادة والضباط شخصيًّا، بالإضافة إلى أعضاء الشرطة والخدمات الأمنية. ونتيجة لذلك، تزايد القمع الذي طرحته الحكومة المركزية كضرورة لمواجهة “الإرهابيين” وإنقاذ “الوحدة” العراقية. ومنذ 2008 فصاعدًا، أطلق المالكي عدة هجمات ضد “إخوته” الشيعة أولًا في معاقل بغداد والبصرة، ثم ضد القبائل السنِّيَّة والمقاتلين الأكراد؛ حيث طال القمع المعارضين من كل الأطياف.

وفي 2011، وقبل انسحاب آخر القوات الأميركية بشهور قليلة، وصل الموقف إلى منحنى أكثر خطورة عندما سحق المالكي احتجاجات مناهضة للحكومة تطالب بإصلاحات لتلافي الفقر والفوضى(36). ثم أصدر في ديسمبر/كانون الأول أمرًا بالقبض على نائب الرئيس السنِّي طارق الهاشمي، الذي حُكم عليه بالإعدام غيابيًّا بعد ذلك بسنة(37). وتجسيدًا للانفصال بين العراقيين ونخبهم، اندلعت حركة احتجاج في ولاية الأنبار السنِّيَّة عقب إلقاء القبض على حرَّاس وزير المالية السنِّي “رافع العيساوي”. وهنا أيضًا استخدمت الحكومة القوة لقمع الاحتجاج(38). ولكن التحول النهائي الخطير حدث في إبريل/نيسان 2013، عندما قتل مسلحون جنديًّا قرب مخيم احتجاج في الحويجة في ولاية كركوك، وهنا طوَّق الجيش والقوات الخاصة المنطقة وقتلوا عشرات المتظاهرين غير المسلحين.

عودة الاستبداد والفوضى الجهادية (2012-2015)

ظهرت الآثار المهلكة لتسريح القوات المسلحة العراقية تمامًا خلال هجمات “الدولة الإسلامية” (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المسمى اختصارًا باسم “داعش”) التي أدَّت إلى سقوط الموصل في يونيو/حزيران 2014. ومن المعروف أن طليعة هذه الجماعة الجهادية تكوَّنت من كبار ضباط الجيش السابق، والذين لعبوا دورًا بارزًا في التمرد؛ إذ إن الجيش الجديد -الذي كوَّنته الولايات المتحدة بصعوبة، والذي تنتشر به الميليشيات والفساد والعنف- لا يزال العرب السنَّة المهمَّشون يعتبرونه قوات “احتلال”. وبينما كانت الاحتجاجات السنِّيَّة سلمية في البداية، تمشيًا مع الانتفاضات في دول عربية أخرى، إلا أنها أصبحت ثورية لصالح الجهاديين الذين استطاعوا هزيمة قوات الجيش النظامية التي أُرسلت لقمع الاضطراب. وفي مثل هذه الظروف، كانت الإصلاحات العسكرية التي بدأها رئيس الوزراء حيدر العبادي تمثِّل مهمة صعبة؛ ففي خضم الصيف الخانق، وافق هذه السنة على إجراء محاكمة عسكرية ضد عدد من قادة الجيش الذين تخلَّوا عن مواقعهم، وسمحوا لمقاتلي الدولة الإسلامية بالاستيلاء على مدينة الرمادي. وعلى خلفية القتال العنيف، والآليات المعقَّدة بصورة متزايدة، والقلق الواضح لدى الغرب بشأن أفضل استراتيجية يجب اتباعها، أصبح هذا القرار يذكِّرنا بسوء الأداء الواضح للجيش العراقي الذي ظل مرتبكًا جدًّا لأكثر من سنة بعد بداية الهجمات الجهادية.

وبينما كان سقوط الرمادي يشكِّل أخطر تطور، بالإضافة إلى موجة التظاهرات التي تتهم الحكومة المركزية بالفشل في حماية المدنيين، بالإضافة إلى اتهامات أخرى، أصبح الجدل أكثر تركيزًا على إهمال الجيش. وفي الواقع، كان الفرار من القوات النظامية، بالإضافة إلى الاستياء من ضعف عملياتها، والانتهاكات المعروفة والتوجه نحو المجال السياسي، والطائفية والقمع والفساد، هو الذي سهَّل التقدم الكبير والمذهل للدولة الإسلامية في الشهور الأخيرة، وأصبحت قدرة السلطات العراقية على مواجهة هذا التهديد الوجودي موضع تساؤل، مع اعتبار رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مسؤولًا صراحةً عن دوره المدمِّر خلال السنوات الثماني التي قضاها في الحكم (2006-2014). ففي الوقت الذي يحتاج فيه العراق إلى الجيش كثيرًا، كان هذا الجيش منهكًا وعاجزًا تمامًا عن القيام بدوره بصورة صحيحة. ومما أثار استياء “الشركاء” العراقيين أن وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، أكَّد في مايو/أيار 2015 على أن الجنود العراقيين لم يُظهروا أية رغبة في قتال العدو في الرمادي أو في مناطق أخرى. وكانت هذه الملاحظة جريئة سياسيًّا، ولكنها دقيقة، وتمثِّل اعترافًا صريحًا من مسؤول أميركي رفيع المستوى بعد سقوط نظام صدام حسين باثني عشر عامًا.

وبوضع هذه الأحداث في سياقها التاريخي، يتضح تمامًا أن قرار إدارة بوش بتسريح الجيش العراقي في 2003 أسهم كثيرًا في ظهور هذه الحالة من التدهور الكبير، وربما سيستمر الوضع على ذلك. فمن الناحية الرسمية، يوجد لدى العراق حوالي 271.500 فرد في القوات المسلحة، موزعين بين القوات النظامية، والأمنية، والوحدات الخاصة. ومع مواجهة التحديات التي تفرضها هجمات الدولة الإسلامية، يظل الجيش يعاني بشدة من نقص المعدات والتدريب والقيادة، بل وحتى أقل القدرات اللوجستية المطلوبة لشن المعارك وضمان التنسيق، والأسوأ من ذلك أن القوات المسلحة العراقية تفتقد الطاقة بعد شهور من الانتكاسات في مواجهة تنظيم جهادي منظم ومحترف وحاسم.

وقد أجبر هذا الوضع الجيشَ العراقيَّ والأجهزة الأمنية على طلب الدعم من مقاتلين غير رسميين آخرين ، وخاصة البشمركة الكردية، والميليشيات الشيعية، وبعض القبائل بدرجة أقل. ولكن كل هذه الأطراف لا تستطيع حشد الموارد الكافية، والتي غالبًا ما تأتي من مصادر خارجية (إيران، والسعودية، وتركيا، وقطر)، وتعتبر أطرافًا مباشرة ونشطة في الصراع. وقد طلب البعض -مثل القبائل العربية السنِّيَّة- التسليح والدعم الجوي، وهو ما تجاهلته كل من بغداد والتحالف المناهض للدولة الإسلامية. ولن يستطيع الجيش العراقي استعادة شرعيته إلا عندما يظهر كيف سيتعاون في الأجل الطويل مع العرب السنَّة المستعدين للانضمام إلى صفوفه، بمن في ذلك الضباط السابقون وآلاف المدنيين الذين يطلبون الأسلحة الآن للانضمام للمعركة ضد الدولة الإسلامية، بعد أن ساندوه، من قبل، في معارضته لبغداد. ولكن الجيش ووحدات الأمن الحكومية النخبوية يتأثرون بخلافات داخلية عميقة تتعلق بأساليب العمل، وهو ما يتعارض مع الوحدة النسبية للبشمركة والميليشيات؛ حيث ينتشر انعدام الثقة المتبادل بين صفوف الجيش المثقلة بالطائفية المنتشرة والمرتبطة بالولاءات الحزبية.

وعندما وصل العبادي إلى السلطة في أواخر 2004، التزم بتحقيق إصلاحات جذرية في القوات المسلحة، وكرَّر التزامه هذا في أغسطس/آب 2015 في بداية حملة تهدف إلى الحسم في الحرب ضد الدولة الإسلامية. وحظي رئيس الوزراء بدعم متجدد من الولايات المتحدة، وذلك بشأن إعادة بناء جيش وطني واحتواء الفوضى. وكذلك حظي بمساندة آية الله على السيستاني، التي تمثِّل ضمانًا للشرعية والسلطة. ويعتبر هذا التعبير عن التضامن أمرًا جوهريًّا، لأن العبادي يحتاج بصورة ملحَّة إلى وجود قوى موالية حوله، وإلى تسلسل قيادي قوي ومستقل؛ حيث يُعتبر التحسن الملحوظ في الحالة الأمنية أمرًا حيويًّا في الوقت الذي تندلع فيه الاحتجاجات الشعبية، والمطالب الشعبية بالقضاء على الفساد، والامتيازات السياسية، ونظام المحسوبية، والطائفية الموروثة غالبًا من حقبة المالكي. وبينما يعارض العديد من الأطراف التغيير -بداية من قادة الميلشيات الذين يريد العبادي جمعهم في “الحرس الوطني” تحت سيطرة الحكومة- يجب على الجيش العراقي أن يستعيد دوره لتحقيق هدف التوافق في الأجل الطويل. وفي هذا الصدد، يمكنه الاستفادة من إحياء الوطنية والحشد الدولي.

أمَّا الآن، فإنه بالرغم من حدوث قدر من إعادة الترتيب الداخلي وتسريح البعض على أعلى مستوى، إلا أن الكثيرين من الضباط والجنود لا يزالون مفقودين؛ حيث غادر بعضهم البلاد نتيجة خيبة أملهم في دعم بغداد لهم. فنظرًا لنقص التسليح المناسب والموارد، لم يستطيعوا بذل الجهد المطلوب لاستعادة الأمن وحماية الشعب. ونظرًا لترك الناس تدافع عن نفسها، بما في ذلك ما يسمى “المناطق المحررة”، فقد اضطروا إلى الخروج الجماعي؛ ففي ظل غياب الخطط المتسقة والاستراتيجية المنقحة، يحتمل أن يستمر الجيش والقوات الأمنية في إبداء مقاومة يائسة للجهاديين المسلحين والمدرَّبين جيدًا الذين يشنُّون حربُا تتحدى الأساليب التقليدية. وفي النهاية، يبدو أن استعداد الجيش العراقي لإعادة بناء نفسه سيؤدي إلى ترك تأثير كبير يتخطى حدود المستوى العسكري؛ إذ إنه سيؤثِّر أيضًا على استمرار وجود الدولة داخل حدودها المعترف بها.
______________________________
مريام بن رعد – مركز الجزيرة للدراسات

الهوامش
(1) Isam al-Khafaji, “In Search of Legitimacy: The Post-Rentier Iraqi State,” Social Science Research Council / Contemporary Conflicts, March 2004.
(2) Peter Sluglett and Marion Farouk-Sluglett, Iraq since 1958, from Revolution to Dictatorship, London: Kegan Paul International, 1987, p. 7.
(3) Hanna Batatu, The Old Social Classes and the Revolutionary Movements of Iraq: a Study of Iraq’s Old Landed and Commercial Classes and of its Communists and Baathists and Free Officers, Princeton: Princeton University Press, 1979, p. 319.
(4) Toby Dodge, Inventing Iraq: the Failure of Nation Building and a History Denied, London: Hurst, 2003.
(5) Mohammad A. Tarbush, The Role of the Military in Politics: a Case Study of Iraq to 1941, London: Kegan Paul International, 1982, p. 76.
(6) Peter Sluglett and Marion Farouk-Sluglett, “Some reflections on the Sunni/Shi’i question in Iraq,” Bulletin of the British Society for Middle Eastern Studies, Vol. 5, No. 2, 1978, p. 83.
(7) Mohammad A. Tarbush, op. cit., p. 40.
(8) Amos Perlmutter, “The praetorian state and praetorian army,” Comparative Politics, Vol. 1, No. 3, 1969, pp. 382-404.
(9) Morris Janowitz, Military Institutions and Coercion in the Developing Nations, Chicago: Chicago University Press, 1977, p. 90.
(10) Adeed Dawisha, Iraq: A Political History from Independence to Occupation, Princeton: Princeton University Press, 2011, p. 201.
(11) Peter Sluglett and Marion Farouk-Sluglett, op. cit., 1987, p. 81.
(12) George M. Haddad, Revolutions and Military Rule in the Middle East: the Arab States, New York: Robert Speller and Sons, 1971, p. 119.
(13) Hanna Batatu, op. cit., p. 982.
(14) René Berthier, L’Occident et la guerre contre les Arabes, réflexions sur la guerre du Golfe et le nouvel ordre mondial, Paris: L’Harmattan, 2000, p. 47.
(15) Hanna Batatu, op. cit., p. 1085.
(16) Eric A. Nordlinger, Soldiers in Politics, Military Coups and Governments, Englewood Cliff: Prentice-Hall, 1977.
(17) Amatzia Baram, “The Ruling Political Elite in Bathi Iraq, 1968-1986: The Changing Features of a Collective Profile,” International Journal of Middle East Studies, Vol. 21, No. 4, 1989, pp. 447-493.
(18) Amos Perlmutter, The Military and Politics in Modern Times: On Professionals, Praetorians, and Revolutionary Soldiers, New Haven: Yale University Press, 1977, p. 136.
(19) Faleh A. Jabar, The Shi’ite Movement in Iraq, London: Saqi Books, 2003, pp. 95-109.
(20) Amatzia Baram, “Neotribalism in Iraq: Saddam Hussein’s tribal policies, 1991-1996,” International Journal of Middle East Studies, Vol. 29, No. 1, 1997, pp. 1-31.
(21) Amatzia Baram, “Saddam’s power structure: the Tikritis before, during and after the war,” in Toby Dodge and Steven Simon (eds.), Iraq at the Crossroads: State and Society in the Shadow of Regime Change, Oxford: Oxford University Press, 2003, p. 94.
(22) Jean-Michel Cadiot, Quand l’Irak entra en guerre, la Qadissayah de Saddam, Paris: L’Harmattan, 1989, pp. 143-145.
(23) Pierre Pinta, L’Irak, Paris: Karthala, 2003, pp. 78-80.
(24) W. Thom Workman, The Social Origins of the Iran-Iraq War, Boulder: Lynne Reiner, 1994, p. 2; Hanna Batatu, “Iraq’s underground Shi’i movements,” Middle East Report, No. 102, January 1982, p. 7.
(25) Peter Harling, “Saddam Husayn et la débâcle triomphante. Ressources insoupçonnées de Umm al-Ma‘arik,” L’Irak en perspective, Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée (REMMM), No. 117-118, 2007, pp. 157-178.
(26) Lawrence Freedman and Efraim Karsh, The Gulf Conflict, 1990-1991: Diplomacy and War in the New World Order, Princeton: Princeton University Press, 1993, p. 29; Amatzia Baram, “Saddam Husayn, the Ba’th regime and the Iraqi officer corps,” in Barry Rubin and Thomas A. Keaney (eds.), Armed Forces in the Middle East, London: Frank Cass, 2002, p. 222; Charles Tripp, A History of Iraq, Cambridge: Cambridge University Press, 2000, p. 249.
(27) Sarah Graham-Brown, Sanctionning Saddam. The Politics of Intervention in Iraq, London, New York: I.B. Tauris, 1999.
(28) “Soulèvement chiite contre Saddam ?” Associated Press; Agence France-Presse, 4 March 1991.
(29) Amatzia Baram, “An Iraqi General Defects,” Middle East Quarterly, 1995, pp. 25-32.
(30) Charles H. Ferguson, No End in Sight: Iraq’s Descent into Chaos, New York: PublicAffairs, 2008, pp. 164-167.
(31) Hazem Saghieh, “The Life and Death of de-Baathification,” L’Irak en perspective, Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée (REMMM), No. 117-118, 2007, pp. 203-223.
(32) L. Paul Bremer III, “How I Didn’t Dismantle Iraq’s Army,” The New York Times, 6 September 2007.
(33) Myriam Benraad, “Du phénomène arabe sunnite irakien : recompositions sociales, paradoxes identitaires et bouleversements géopolitiques sous occupation (2003-2008),” Hérodote, No. 131, 2008, pp. 59-75.
(34) James Glanz and William J. Broad, “Looting at Weapons Plants Was Systematic, Iraqi Says,” The New York Times, 13 March 2005.
(35) Sharon Otterman, “Iraq: Infiltration of Iraqi Forces,” Backgrounder, Council on Foreign Relations, 28 February 2005.
(36) Miranda Sissons and Abdulrazzaq Al-Saiedi, A Bitter Legacy: Lessons of De-Baathification in Iraq, International Center for Transitional Justice (ICTJ), March 2013.
(37) Myriam Benraad, “Irak : la révolution en attente ?,” Moyen-Orient, No. 11, 2011, pp. 57-61.
(38) Id., “Irak : les oripeaux de la dictature,” Revue internationale et stratégique, No. 88, 2012, pp. 36-3