القاهرة- كلما اقتربت الحكومة المصرية من بيع أحد الأصول المهمة التابعة لها أو التفكير في استثمارها لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، اصطدمت بممانعات مختلفة، ما جعلها تفرمل الاندفاع أو تبدي ترددا في المضي قدما في هذا الطريق.
وفي الفترة الماضية أثير لغط كبير حول بيع شركات متعددة ليست ذات أهمية إستراتيجية، لكن منذ الاثنين بدأت الممانعات تشتدّ أكثر فأكثر بعد أن وافق مجلس النواب على مشروع قدمته الحكومة لتعديل قانون هيئة قناة السويس من أجل إنشاء صندوق خاص بها، ما اعتبرته دوائر معارضة بمثابة “تمهيد لبيع أو تأجير القناة”، واصفة القانون بأنه فضفاض وينطوي على معان متباينة.
وأكد رئيس مجلس النواب حنفي جبالي الثلاثاء أن المشروع “لا يتضمن أية أحكام تمس بها (قناة السويس) لكونها من أموال الدولة العامة، لا يجوز التصرف فيها أو بيعها، والدولة ملزمة وفق المادة 43 من الدستور بحمايتها وتنميتها والحفاظ عليها بصفتها ممرا مائيا دوليا مملوكا لها، كما تلتزم بتنمية قطاع القناة باعتباره مركزا اقتصاديا متميزا”.
ويستهدف إنشاء الصندوق الجديد زيادة قدرة القناة على المساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة لمرافقها من خلال “شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها”، وكلها عبارات أثارت الارتياب في الغرض من القانون.
وحسب تقرير لجنة الشؤون الاقتصادية بمجلس النواب تريد الحكومة تعديل بعض أحكام القانون رقم 30 لسنة 1975 الخاص بنظام هيئة قناة السويس “لتمكين الهيئة من مجابهة الأزمات والحالات الطارئة التي تحدث نتيجة أية ظروف استثنائية أو قوة قاهرة أو سوء في الأحوال الاقتصادية”.
وأحدث طرح المشروع والموافقة المبدئية عليه ردود فعل عنيفة ضد الحكومة، وتحميل النظام مسؤولية ما وصفه البعض بـ”العبث بمقدرات الدولة الحيوية” لأن المشروع في الأصل فكرة اقترحها الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ ثلاثة أعوام ولم تر النور سوى أخيرا بعد أن قامت الحكومة بدراسة المشروع.
وقال الأمين العام لمجلس السياسات في حزب المحافظين (معارض) باسل عادل إنه في ظل غياب الشفافية تبقى انعكاسات أيّ قرارات اقتصادية ذات مدلول سياسي في مسألة خصخصة الشركات ومبادلة الديون بالأصول.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن إدخال تعديلات على قانون نظام هيئة قناة السويس في وقت تعدّ فيه هيئة القناة أكثر الجهات الاقتصادية المصرية استقراراً فذلك يدفع الجميع إلى الشك، كما أن تفريعَ مادة واحدة من القانون (المادة 15) إلى تسعة بنود عمليةٌ غريبة عن التشريع المصري وتشي بأن الهدف هو إقرار قانون جديد وليس تعديل مادة.
وشدد على أن استحداث لفظ “فوائض القناة” في تلك الفترة يدفع إلى السؤال عما إذا كانت تلك الفوائض غير موجودة من قبل، كما أن إنشاء صندوق خاص لإدارتها يعني السماح بوجود دخيل على الهيئة التي تدير قناة السويس والمستقرة في أعمالها، ويوحي بوجود مساع لبيع أو تأجير جزء من ملكية أصلية.
◄ الحكومة تختار توقيتات خاطئة لتمرير ملفات مهمة بلا دراسة لعواقبها، ما جعلها عرضة لضغوط شعبية وفئوية
وتعدّ هذه من المرات النادرة التي يخرج فيها نواب معارضون في البرلمان وإعلاميون قريبون من السلطة لانتقاد القانون ورفضه لأنه يتضمّن إيحاءات خطيرة تتعلق بمستقبل أحد أهم المرافق الإستراتيجية في الدولة، والتي يعتبرها مصريون كثيرون “خطا أحمر” حتى وإن استُفيد منها في التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية.
وتسبب ارتباك الحكومة المصرية في معالجة التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية خلال الأسابيع الماضية في تبني قرارات واتخاذ إجراءات اضطرت إلى التراجع عنها أو تأجيلها أو تجميدها بعد تنامي الغضب بسبب تأثيرها في زيادة الأعباء على كاهل المواطنين.
وتختار الحكومة توقيتات خاطئة لتمرير ملفات مهمة بلا دراسة لعواقبها، ما جعلها عرضة لضغوط شعبية وفئوية قد لا تمكنها من بيع عدد من المؤسسات والشركات التي تملكها لإفساح المجال أمام القطاع الخاص من أجل العمل في أجواء اقتصادية مناسبة.
وجاء طرح تعديل مشروع قانون هيئة قناة السويس ليضاعف المأزق الذي تواجهه الحكومة، فهي ملزمة بتمرير مشروع الخصخصة وفقا لضوابط وضعها صندوق النقد الدولي قبل أيام عقب موافقته على قرض جديد للقاهرة بمبلغ 3 مليارات دولار، ووعد بمساعدات من شركاء إقليميين ودوليين تصل إلى 14 مليار دولار.
ورهن الصندوق استكمال المراحل التالية للقرض ووصول المساعدات بإتاحة الفرصة أمام القطاع الخاص للمنافسة الحرة، وبيع عدد من المؤسسات التابعة للدولة، وفي مقدمتها شركات تابعة للجيش المصري.
ويحاول النظام المصري تجاوز العديد من الإشكاليات الاقتصادية بطرق مختلفة، لكنه أصبح مطالبا الآن بتجاوز العقبات السياسية أيضا التي يمكن أن تتزايد مع تنامي الانتقادات، بل والاتهامات أحيانا، بشأن الطريقة التي يدار بها دولاب الدولة، بما أفضى إلى أزمات مركبة تقود إلى بيع عدد من أصول الدولة.
وبالغت السلطات المصرية في الإنفاق على المشروعات القومية التنموية دون أن تراعي الأزمات الاقتصادية المفاجئة التي نجمت عن انتشار فايروس كورونا ثم الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث أرخيا بظلال قاتمة على استمرار البرنامج الذي كان يخطط له الرئيس السيسي، وأربكا الخطوات التي تبنتها السلطات لمجابهة التحديات.
ويواجه السعي الحثيث نحو البيع باعتراضات سياسية بعد أن بدأت بعض المحرمات أو “التابوهات” التي أوجدتها الأجهزة الأمنية تتحطم تدريجيا، وكانت الانتقادات التي تعرض لها تعديل قانون هيئة قناة السويس “بروفة” للمزيد من التصعيد.
وفشلت تفسيرات جهات حكومية في إقناع الرأي العام المصري بمبررات القانون وأنه لن يتعرض لقناة السويس ببيع أو تأجير أو نيل من المرافق الرئيسية التابعة لها باعتبارها مرفقا إستراتيجيا تاريخيا، وأن القانون يستهدف فقط تعظيم الاستفادة من عوائد القناة التي يُتوقع أن تبلغ 8 مليارات دولار هذا العام.
ويقول مراقبون إن قناة السويس لن يوافق الجيش المصري على رهن مصيرها بأي جهة أجنبية أو استثمارات تؤثر على وضعيتها، والكثير من القادة العسكريين مسؤولون عن إدارتها حاليا، ولن يوافق هؤلاء على مشروع قانون ينال من المكانة التي تمثلها في الوجدان العام المصري والتضحيات التي قدمت من أجلها خلال عقود طويلة.
ويضيف المراقبون أن الطريقة التي تخرج بها بعض القوانين تثير الشكوك في أهدافها وتمس بهيبة الدولة وتضعها في موقف الدفاع عن النفس، ما يؤثر على تمرير عمليات بيع شركات حكومية عديدة، والتي باتت مرتبطة بالحصول على المزيد من القروض والمساعدات وتقليل المشكلات الاجتماعية التي أفضت إليها الأزمة الاقتصادية.
وطالب مثقفون وكتاب الرئيس السيسي أخيرا بمصارحة الرأي العام بحقيقة ما يجري على الصعيد الاقتصادي في مصر، ووضع خطة علاج عاجلة تعيد الثقة بالنظام الحاكم الذي أصبح مرتبكا في سعيه لإيجاد الحلول المناسبة للأزمات المتعاظمة.
العرب