تستعد تركيا للبدء باستخراج الغاز المكتشف في البحر الأسود، في أوسع محاولة لدخول نادي مستخرجي الغاز الطبيعي، لتحقيق حلم تاريخي يتمثل في التحول من مستورد إلى مستخرج ومنتج للطاقة، وتقليل الاعتماد على الخارج من ناحية استراتيجية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تقليص عجز الميزان التجاري، الذي تعاني منه تركيا رغم وصول صادراتها إلى مستويات قياسية تاريخية، وذلك بسبب التكاليف الباهظة لفاتورة الطاقة على ميزانية الدولة.
ففي آب/أغسطس من العام الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن سفينة التنقيب “الفاتح”، اكتشفت أكبر حقل للغاز الطبيعي في تاريخ البلاد في موقع “تونا 1” بحقل صقاريا (البحر الأسود)، باحتياطي 320 مليار متر مكعب قبالة سواحل ولاية زونغولداق، ليعلن لاحقا ارتفاع التقديرات بعد اكتشاف 85 مليار متر مكعب إضافي من الغاز.
وعقب أشهر من ذلك، أعلن أردوغان اكتشاف احتياطي جديد للغاز يبلغ 135 مليار متر مكعب في حقل “أماسرا 1” قبالة ولاية زونغولداك على البحر الأسود، ليصل بذلك احتياطي الغاز الطبيعي الذي أعلنت تركيا اكتشافه مؤخراً إلى 540 مليار متر مكعب، وهو ما اعتبر أضخم اكتشاف غاز في تاريخ تركيا.
وعلى الرغم من أن هذه الكميات لا تعتبر “ضخمة” مقارنة بالدول المنتجة للغاز الطبيعي، إلا أنها تعتبر الأهم لتركيا وتقدر قيمتها السوقية بقرابة 100 مليار دولار. وتقول تقديرات حكومية إن هذه الكمية قادرة على تغطية احتياجات تركيا من الغاز الطبيعي لأكثر من 10 سنوات.
وتستود تركيا معظم احتياجاتها من الغاز والبترول من الخارج، وهو ما يشكل أكبر عبء على خزينة الدولة والميزان التجاري بالبلاد، لا سيما وأن فاتورة الطاقة السنوية بلغت أكثر من 50 مليار دولار. ويقول أردوغان إن هذه الاكتشافات سوف تشكل رافداً مهماً للاقتصاد التركي وستساعد في تعديل الميزان التجاري المنهك من واردات الطاقة بالعملات الصعبة.
وفي إطار الاستعدادات لاستخراج غاز شرق المتوسط، افتتح ميناء “فيليوس” على البحر الأسود، الذي سيكون قاعدة تركيا لاستخراج وتخزين الغاز المكتشف، وقال الرئيس التركي آنذاك: “ميناء فيليوس أحد أهم مشاريع البنية التحتية التي ستجعل بلدنا بين أفضل 10 اقتصادات في العالم وهو جزء من أهدافنا للعام 2023″، وأضاف: “الميناء أحد أهم مشاريع البنية التحتية التي ستجعل بلدنا بين أفضل 10 اقتصادات في العالم وهو جزء من أهدافنا للعام 2023″، لافتاً إلى أنه كان حلم السلطان عبد الحميد الثاني منذ 150 عاماً.
ومؤخراً، أعلنت وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية إنزال أول خزان توزيع للغاز الطبيعي إلى قاع البحر الأسود في حقل “صقاريا”، وبحسب الوزارة يبلغ وزن الخزان المسمى “بجناك” 280 طنًا، وتم إنزاله إلى عمق 2200 متر تحت سطح البحر، موضحةً أن خزان توزيع الغاز الطبيعي نُقل من ميناء فيليوس المطل على ساحل ولاية زونغولداق (شمال) إلى حقل صقاريا في عرض البحر. وتتمثل مهمة الخزان في تجميع غاز البحر الأسود من الآبار ومن ثم ربطه بخط الأنابيب الرئيسي الواصل إلى المرافق المخصصة في البر.
كما كشف وزير الطاقة والموارد الطبيعية، فاتح دونماز، عن انتهاء 85 بالمئة من أعمال بناء منشأة فيليوس لمعالجة الغاز الطبيعي، مشيراً إلى انتهاء 65 بالمئة من الأعمال المستمرة في مياه البحر ضمن نطاق حقل صقاريا بمشاركة العديد من السفن، وهو ما يعني قرب إتمام تركيا لاستعداداتها لكي تكون جاهزة لاستخراج ونقل ومعاجلة الغاز الطبيعي المكتشف في البحر الأسود لتحقيق وعد أردوغان بأن يكون جاهزاً للاستخدام بحلول عام 2023.
كما انتهت تركيا من تركيب 170 كيلومترا من الأنابيب التي ستنقل الغاز المكتشف إلى البر، تحت سطح البحر الأسود، وتشير التقديرات إلى أن انتاج الغاز المكتشف في البحر الأسود سيبدأ بـ 10 ملايين متر مكعب في اليوم، ومن ثم سيرتفع هذا الرقم إلى 40 مليون متر مكعب لاحقا.
والأحد، أكد أردوغان أنه سيتم البدء باستخدام الغاز المكتشف في البحر الأسود والبالغ حجمه 540 مليار متر مكعب في المنازل بحلول “الربع الأول” من عام 2023. والسبت، قال: “نعمل ليلا ونهارا لربط الغاز المكتشف في البحر الأسود بنظامنا الوطني، والإثنين سنزف بشائر جديدة لشعبنا بهذا الصدد”، مضيفاً: “سنزف أيضا بشائر جديدة لشعبنا بعد وضع الغاز المكتشف في البحر الأسود قيد الاستخدام”.
وبالتوازي مع خطط التنقيب واستخراج الغاز الطبيعي، تواصل تركيا مساعيها لكي تصبح ممراً استراتيجياً لخطوط الطاقة في المنطقة إلى جانب مساعيها، التي كثفتها مؤخراً لكي تصبح مخزناً للطاقة بحيث تتحول إلى سوق دولي لبيع الغاز الطبيعي عبر إنشاء خزانات ضخمة على أراضيها، وهو مقترح يعمل عليه أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي سعى لتقديم حلول للدول الأوروبية، التي امتنعت عن شراء الغاز الروسي بفعل العقوبات التي فرضتها أوروبا على روسيا عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وقبل أيام، قال أردوغان إن حكومته تهدف لجعل تركيا مركزا عالميا يتحدد فيه السعر المرجعي للغاز الطبيعي في أقرب وقت، وذلك خلال مشاركته في حفل زيادة سعة محطة تخزين الغاز في ضاحية سيليفري بولاية إسطنبول، والتي تقول تركيا إنها أصبحت تحتوي على أضخم خزانات للغاز الطبيعي تحت الأرض في أوروبا.
وأضاف الرئيس التركي: “لقد حددنا رؤيتنا للطاقة لتقليل اعتمادنا الخارجي على الموارد الأولية من 71 في المئة إلى 13 في المئة عام 2053، ونضع أهدافنا ونخطط لاستثماراتنا وفقا لذلك”، مشيراً إلى أن محطة تخزين الغاز الطبيعي تحت الأرض في سيليفري يمكنها وحدها تلبية ربع الطلب المحلي حتى في أعلى استهلاك للبلاد، ووعد بالاستمرار في الاستثمار حتى تصبح تركيا “الأكثر أمانا في مجال اكتشاف الغاز الطبيعي، وتشغيله، فضلا عن تخزينه”.
وفي الوقت الحالي، لا تزال العديد من سفن التنقيب التركية تواصل أعمالها في البحرين الأبيض المتوسط والأسود حيث تواصل سفينة الفاتح أنشطتها في بئر “تورك علي – 11” وسفينة “ياووز” في بئر “تورك علي – 12” وسفينة “القانوني” في “تورك علي – 10” في البحر الأسود، فيما تواصل سفينة “عبد الحميد خان” أعمال التنقيب في بئر “تاشوجو-1” بالبحر الأبيض المتوسط.
ولا يزال عجز الميزان التجاري يشكل أكبر عائق أمام استقرار الاقتصاد التركي بسبب زيادة حجم واردات البلاد على حجم الصادرات، التي لم تنجح حتى اليوم في تقليص العجز على الرغم من أنها تنمو بسرعة كبيرة وحطمت في السنوات الأخيرة أرقاماً تاريخية، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام النقاش حول أنجع السبل للاستفادة من النمو التاريخي في الصادرات التركية للعالم.
وتعاني تركيا من عجز يتراوح بين 30 إلى 40 مليار دولار سنوياً في الميزان التجاري، وضمن مساعي تقليص هذا الفارق سعت لرفع صادراتها في قطاعات مختلفة وتقليل اعتمادها على الخارج في قطاعات أخرى، وهو ما ساهم في تعديل طفيف بهذه الأرقام، إلا أن الفجوة ما زالت قائمة وهو ما دفع نحو تقليل واردات الطاقة من الغاز، وهو ما يؤمل أن تظهر نتائجه عقب البدء فعلياً في استخراج واستخدام غاز البحر الأسود.
القدس العربي