في ظل غياب سياسة أميركية ناجعة تجاه النزاع العربي الإسرائيلي، وانهماك واشنطن في قضايا إقليمية أخرى، مثلت نتائج الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأخيرة، التي جرت في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، تحدياً كبيراً لأهداف إدارة جو بايدن في المنطقة، خصوصاً تلك الساعية إلى تهدئة الأوضاع، بأي ثمن، في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، والاستمرار في تفادي أي خطوات جدية وعملية نحو تحقيق الهدف المعلن، الذي تبنته واشنطن منذ أن أصبح جو بايدن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ألا وهو خيار حل الدولتين، الذي ما زال الرئيس بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن يؤكدان عليه في كل مناسبة يتطرقان فيها إلى قضايا الشرق الأوسط.
ماذا توقع بايدن من الناخب الإسرائيلي؟
بدا واضحاً طوال الحملة الانتخابية الإسرائيلية، العام الماضي، تفضيل الإدارة الأميركية بقاء حكومة يائير لبيد، أو استبدالها بحكومة ائتلافية جديدة، تضم عناصر سياسية إسرائيلية متجانسة، وملتزمة بـ”الشراكة الاستراتيجية” بين البلدين كما تعرفها واشنطن.
لكن الناخب الإسرائيلي خذل الرئيس بايدن وإدارته، وأعاد إلى سدة الحكم للمرة السادسة حكومة جديدة بقيادة زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو، الذي تربطه مع بايدن علاقات سياسية متقلبة، غير مستقرة، على الصعيد الشخصي، رغم سجل بايدن الحافل في دعم إسرائيل المطلق والثابت طوال عضويته في مجلس الشيوخ، مدة 36 عاماً، كما خلال شغله منصب نائب الرئيس، في عهد سلفه باراك أوباما بين عامي 2009 و2017. تعتبر حكومة نتنياهو القادمة، التي قد تبدأ فترة حكمها خلال الأيام القليلة القادمة، أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً وتشدداً منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948.
أشار عديد المحللين، في مقالاتهم ومقابلاتهم خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى قلق وحرج الإدارة الأميركية من الوضع السياسي الداخلي الهش في إسرائيل، ومن عدم قدرة النظام هناك على تحقيق قسط كاف من الاستقرار الداخلي والإقليمي خلال السنوات الأربع الأخيرة، لطمأنة وإرضاء واشنطن، التي سعت دوماً إلى التأثير على نتائج الانتخابات، بغرض تحقيق مآربها السياسية، رغم بعض الاحتجاجات الإسرائيلية والأميركية على ما اعتبره بعضهم تدخلاً مباشراً في الشؤون الإسرائيلية الداخلية.
استخدمت الولايات المتحدة أساليبها الحذرة أولاً، غير المباشرة، من أجل إقناع الناخب الإسرائيلي بالتصويت لأحزاب مهيأة لتشكيل حكومة مستقرة وقادرة على إدارة البلاد على المديين المتوسط والبعيد، دون اللجوء إلى انتخابات جديدة، للمرة السادسة خلال فترة زمنية تقل عن أربع سنوات، قد تؤثر سلباً، من وجهة النظر الأميركية، على مصداقية واشنطن نفسها، حليفاً رئيسياً لإسرائيل، وعلى الاستقرار والأمن الإقليميين، وعلى ضمان تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة بأكملها.
كما حاولت واشنطن ثانياً، إقناع المجتمع الإسرائيلي بانتخاب حكومة جديدة تتفهم السياسات الأميركية وتدعمها على الصعيدين الإقليمي والدولي، خصوصاً في ما يتعلق بموضوع العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، ومجابهة المعارضة لهذا الاتفاق داخل إسرائيل وخارجها. من هنا، نشير إلى استمرار التخوف الأميركي من عودة نتنياهو وحلفائه، من اليمين المتطرف والصهيونية الدينية، إلى كرسي الحكم، بسبب معارضتهم المبدئية والمتصلبة لتوقيع أي اتفاق نووي مع إيران، وترجيحهم المصالح القومية الإسرائيلية على حساب المصالح الأميركية، كما تراها إدارة بايدن بالذات.
بالإضافة إلى الموقف من إيران، حاولت إدارة الرئيس بايدن إقناع الناخب الإسرائيلي باختيار حكومة جديدة تتفق معها كلياً، أو تنسق معها على الأقل بخصوص النزاع القائم بين واشنطن وموسكو، الحرب الأوكرانية، وإسقاطاتها السياسية والاقتصادية الدولية. ما زالت الإدارة الأميركية تبدي رغبة ملحة في إقناع الحكومة الإسرائيلية الجديدة بالكف عن التعاون مع موسكو، وعن تقديم المساعدة لها في التحايل على أنظمة المقاطعة والقيود الأخرى، التي فرضها الغرب على التجارة مع روسيا.
كل من يعرف بايدن ومواقفه الشخصية تجاه النزاع العربي – الإسرائيلي يعرف انحيازه المطلق لإسرائيل، التي يعتبرها معصومة عن الخطأ ولا تتحمل مسؤولية الاحتلال وضرورة إنهائه
أخيراً، سعت واشنطن إلى منع انتصار الليكود وأنصاره، من اليمين الديني والقومي اليهودي المتطرف، في الانتخابات الأخيرة، لأسباب تتعلق بموقف إدارة بايدن من القضية الفلسطينية. على الرغم من إدراك الإدارة بأن “الظروف على الأرض غير ناضجة لإحراز تقدم كبير نحو حل الدولتين”، كما أصر وزير الخارجية بلينكن أخيراً، لكنها ما زالت متمسكة بحل الدولتين بديلاً سياسياً، كما تفضل التعامل مع حكومة إسرائيلية تقبل هذه الفكرة، حتى لو كان ذلك مرهوناً بشروط إسرائيلية تعجيزية ومقتصراً على المدى البعيد.
من هنا، نلحظ الترحيب الأميركي بتصريحات رئيس الحكومة المنتهية ولايته يائير لبيد، بهذا الخصوص، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في 22 سبتمبر/ أيلول 2022، رغم عدم وجود أي مصداقية لمثل هذه البيانات من قبل رئيس وزراء رفض طوال فترة حكمه لقاء نظيره الفلسطيني، بغرض بحث إمكانية وفرص التوصل إلى سلام عادل ودائم بين الطرفين.
أسئلة صعبة تثير قلق الحلفاء في واشنطن
أعلن بنيامين نتنياهو، يوم الأربعاء 21 ديسمبر/ كانون الأول 2022، تشكيل حكومته الجديدة، بمشاركة زملائه التقليديين من حزب الليكود وحلفائه الجدد، الذين يمثلون أحزاب اليمين المتطرف، مثل: حزب “الصهيونية الدينية” الذي يتزعمه بتسلئيل سموتريتش، وحزب “المنعة اليهودية” الذي يترأسه إيتمار بن غفير، والأحزاب الدينية مثل حزب “شاس” و”يهدوت هتوراة”، بعد عدة أسابيع من اللقاءات والمفاوضات المستمرة والصعبة حول توزيع الحقائب الوزارية وتقاسم الوظائف الهامة من أجل رسم وتنفيذ سياسات الحكومة الجديدة.
نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية بعض تفاصيل هذه المطالب، التي تشمل حقائب هامة، مثل وزارات الدفاع والخارجية والمالية والأمن الداخلي، إضافة إلى صلاحيات الإدارة المدنية وإدارة مكتب التنسيق الحكومي في الأراضي المحتلة، الذي يشرف على الشؤون الفلسطينية في وزارة الدفاع حالياً، وقيادة حرس الحدود، والإشراف على ترتيبات “الوضع الراهن”، في ما يتعلق بالمسجد الأقصى وسائر الأماكن المقدسة في القدس المحتلة، ومستقبل النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة، وغيرها من المطالب التي سعى كل شريك في الائتلاف الجديد إلى الحصول عليها، من أجل ضمان دوره في رسم سياسات الائتلاف الداخلية والخارجية، بعد أداء اليمين القانوني أمام الكنيست، وتسلم الحكومة مهامها الرسمية خلال بضعة أيام.
بالرغم من عدم نشر تفاصيل توزيع الحقائب الوزارية الكاملة، وجدول أعمال الحكومة الجديدة، تتناقل وسائل الإعلام العبرية ما يكفي من تسريبات لإثارة حفيظة العديد من الأطراف داخل إسرائيل وخارجها، حول مستقبل الكيان الصهيوني كدولة يهودية، كما يسميها بعضهم، أو كدولة ديمقراطية كما يعتقد الآخرون. فهناك الكثير من الأسئلة الوجودية المطروحة هنا في الولايات المتحدة من قبل أنصار إسرائيل وخصومها على حد سواء، تتطلب إجابات سريعة من حكومة نتنياهو ومن الإدارة الأميركية نفسها.
الناخب الإسرائيلي خذل الرئيس بايدن وإدارته، وأعاد إلى سدة الحكم للمرة السادسة حكومة جديدة بقيادة زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو
على سبيل المثال، كيف يمكن لحكومة تضم وزراء متطرفين وعنصريين وفاشيين في مواقفهم وممارساتهم السياسية أن تدعي وتقنع العالم أنها تمثل نظاماً ديمقراطياً؟ كيف يمكن للولايات المتحدة تبرير علاقاتها الاستراتيجية المتينة غير القابلة للكسر، وفق واشنطن، مع كيان مثل إسرائيل، تديره حكومة يشارك فيها وزراء يدعمون سياسة الفصل العنصريوالتمييز الديني والعرقي علناً، والادعاء والاستمرار في تبرير هذه العلاقة المميزة على أساس ما يسمى بـ”القيم الأخلاقية المشتركة”؟
كيف يؤثر انزلاق إسرائيل المتزايد نحو التطرف اليميني الديني على علاقاتها مع الحزب الديمقراطي، ومجلس الشيوخ الديمقراطي، والجالية اليهودية ذات الأغلبية الديمقراطية؟ كيف سيتعامل الرئيس بايدن مع هذا الواقع الجديد؟ هل سيتعاون نتنياهو مع بايدن بخصوص الحرب في أوكرانيا والعودة إلى المفاوضات النووية مع إيران، أم سيعارضه كلياً في هاتين القضيتين، كما هو متوقع؟ ما هو رد الفعل العربي على تركيبة ومواقف حكومة نتنياهو المتطرفة؟ هل ستستمر واشنطن في التعاون مع الحكومة الجديدة في مشروع التطبيع الذي ترعاه الإدارة الأميركية في المنطقة ويرحب به نتنياهو؟ كيف ستتعامل حكومة نتنياهو مع “مواطنيها” الفلسطينيين الذين يشكلون 21% من سكانها، في ظل التهديدات العنصرية ضدهم؟ وأخيراً، ما هي السياسة التي سيتبناها نتنياهو تجاه القضية الفلسطينية، وعدم وجود أفق سياسي لإيجاد حل عادل ودائم لها؟
يبدو للعديد من المحللين أن العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل مقبلة على مرحلة من التحديات، قد تقود إلى بعض الفتور في نواح عدة من الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، التي يعتبرها معظم صناع القرار في واشنطن علاقة متينة ثابتة غير متزعزعة.
لكن على الرغم من خطورة الخطوات والمواقف المتوقع اتخاذها في إسرائيل، لا يعتقد الكاتب أن الإدارة الحالية مهيأة أو قادرة على مواجهة نتنياهو بالجدية المطلوبة، لأسباب شخصية ومؤسساتية. فعلى الصعيد الشخصي، رغم معرفة بادين التامة بخلفية نتنياهو الانتهازية، وفحوى مواقفه السياسية المناهضة لسياسات هذه الإدارة، لا يعتقد الكاتب أن لديه أي استعداد لمواجهة نتنياهو، ولن يسمح بحدوث أي ضرر للعلاقات الثنائية مع إسرائيل.
كل من يعرف بايدن ومواقفه الشخصية تجاه النزاع العربي – الإسرائيلي يعرف انحيازه المطلق لإسرائيل، التي يعتبرها معصومة عن الخطأ ولا تتحمل مسؤولية الاحتلال وضرورة إنهائه، كما أوضح خلال زيارته إلى بيت لحم في 15 يوليو/ تموز 2022 “إن الأرضية غير ناضجة في هذا الوقت للعودة إلى المفاوضات”. لسوء حظ الفلسطينيين، ما زالت الأرضية، في ذهن بايدن، غير مهيأة لإنهاء الاحتلال بعد 55 عاماً.
أما على الصعيد المؤسساتي، فلا يتوقع المحللون نشوب أزمة جدية بين الطرفين، رغم المعرفة التامة لدى المسؤولين، في مجلس الأمن القومي والبيت الأبيض والخارجية الأميركية، تفاصيل الموقف الإسرائيلي، والاتفاقات المعلنة والخفية حول تركيبة حكومة نتنياهو وفحوى أجندتها.
يبدو أن الإدارة الأميركية مصممة على تفادي أي أزمة جدية مع إسرائيل، الحليف الاستراتيجي، رغم هوية أعضاء الحكومة المتطرفين، أو حتى في توجيه أي انتقادات مستقبلية لرئيس الحكومة نتنياهو شخصياً، مع تفاديها التعامل مع الوزراء الإسرائيليين المناوئين للسياسة الأميركية غير المرغوب بهم في واشنطن.
العربي الجديد