بعد قرابة 15 شهراً انقضت على تجميد عمله في التحقيق بالانفجار الذي شهده مرفأ بيروت يوم 4 آب/ أغسطس 2020، عاد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار إلى مزاولة عمله بعد أن رفض القضاء اللبناني الدفعة الأخيرة من دعاوى عديدة متلاحقة رفعها مسؤولون سابقون وحاليون ضد القاضي وطالبوا فيها بكف يده عن التحقيق. وقد بدأ البيطار بإصدار قرارات إخلاء سبيل موقوفين على ذمة التحقيق تتراوح علاقتهم بالتفجير بين عامل بسيط ومتعهد ومدير جمارك سابق ومدير عمليات، وأتخذ في المقابل قراراً بالادعاء على ثمانية أشخاص جدد أصحاب مسؤوليات من العيار الثقيل بينهم مدير الأمن العام اللواء عباس ابراهيم ومدير عام جهاز أمن الدولة اللواء انطوان صليبا اللذين سبق لادعائه عليهما أن قوبل بالرفض من جانب وزارة الدفاع والمجلس الأعلى للدفاع.
ومن حيث المبدأ يمكن اعتبار الخطوة تطوراً إيجابياً في ملف بالغ التعقيد، أوقفت مساراته عوائق كبرى لم يكن أكثرها تعطيلاً أن غالبية الذين قرر القاضي الادعاء عليهم في الأساس كانوا وزراء ومسؤولين يتمتعون أصلاً بحماية مباشرة من القوى الأمنية والعسكرية والسياسية الأعلى هيمنة في لبنان، ابتداء من «حزب الله» و«حركة أمل» وليس انتهاء بـ«التيار الحر». ولهذا لم تتوقف الضغوط على بيطار عند مستوى إغراقه بالدعاوى المطالبة بكفّ يده، بل سبق له أن تعرض لتهديد صريح من مسؤول الارتباط والتنسيق في «حزب الله» ونُظمت ضده تظاهرة الطيونة الشهيرة، كما علّق وزراء الثنائي الشيعي مشاركتهم في اجتماعات الحكومة مشترطين سحب الملف من القاضي ذاته.
وبهذا المعنى فإن الخطوة الإيجابية المتمثلة في عودة بيطار إلى مزاولة عمله سوف تشهد أكثر من هجوم مضاد يسعى إلى إفراغها من قيمتها الإجرائية وإعادة الملف إلى نقطة الصفر مجدداً، سواء عن طريق رفع المزيد من الدعاوى الهادفة إلى التعطيل، أو الإفشال البيروقراطي المباشر من خلال محاكم أو قضاة تابعين لهذا أو ذاك من الأطراف المناوئة لسير التحقيق، أو افتعال أزمات جديدة فوق المتراكم منها، في بلد تواصل طبقته السياسية تجميد انتخاب رئيس للجمهورية، وتستمرئ الاعتماد على حكومة تصريف الأعمال، وتعهد إلى هيئة أوروبية بملفات التحقيق في قضايا الفساد المالي والمصرفي.
وقبل عودة البيطار إلى مكتبه كانت اللجان الشعبية التي تتابع جريمة المرفأ قد سجلت انتصاراً رمزياً تمثل في الإفراج عن أحد أبرز الناطقين باسم عائلات الضحايا، الذي كانت المديرية العامة للأمن قد اعتقلته، ومن المنتظر أن يتكثف أكثر فأكثر زخم الاحتجاجات على ضوء ردود أفعال قوى الهيمنة في لبنان إزاء قرارات الادعاء التي عاد البيطار إلى تأكيدها. وليس يسيراً إغماض أعين اللبنانيين عن جريمة قوامها الانفجار غير النووي الأضخم على امتداد العالم المعاصر، واشتعال نحو 2750 طناُ من نترات الأمونيوم مخزنة منذ سنة 2014، أسفرت عن مقتل 220 ضحية وجرح أكثر من ستة آلاف، وإلحاق دمار هائل بمرافق المرفأ والعمران المجاور.
ولهذا فإن ساعة الحساب آتية، كيفما تنوعت أشكال التعطيل والتسويف والمماطلة، وطال انتظار الضحايا أم قصر.
القدس العربي