هبطت طائرة أذربيجانية في مطار باكو مساء الأحد المنصرم، وعلى متنها جثة رئيس جهاز أمن سفارة أذربيجان، الملازم أول أورهان عسكروف، الذي قُتل في هجومٍ على مبنى البعثة في طهران. يقول مساعد وزير الخارجية الأذري، خلف خليفوف، الذي كان في استقبال القادمين، إن بلاده لم تعد تثق بقدرة إيران على توفير الحصانة والحماية لموظفي السفارة في طهران، ولذلك تم تجميد نشاطاتها حتى إشعار آخر.
غضب مواطن إيراني لغياب زوجته الأذرية عدة أشهر. يكتشف أنها تختبئ داخل سفارة بلادها في طهران، فقرّر اقتحام المبنى برشّاش حربي، ليطلق النار على كل من استطاع الوصول إليه. ثم تتناقل محطّات التلفزة الإيرانية تصريحاته مباشرة على الهواء، ليحدّد هو ما جرى، وهذا من النادر أن يحدث في حالات مشابهة. هذه هي الرواية الإيرانية الرسمية عن استهداف السفارة الأذربيجانية في إيران، فلماذا تصفها باكو بالعمل الإرهابي، وتوقف عمل السفارة وتستدعي السفير الإيراني للاحتجاج، وتطالب طهران بتحمّل المسؤولية الكاملة عن الاعتداء؟
تعلن أذربيجان أن الهجوم عمل إرهابي تتحمّل طهران مسؤوليته المادية والقانونية والسياسية، حسب نصوص معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961، فتردّ إيران بأن ما جرى حادث شخصي منفرد، ستتعامل معه على هذا الأساس، وعلى باكو ألا تضخّم الأمور أكثر من ذلك استجابة لرغبة أطراف ثالثة، يهمها توتير العلاقات بين البلدين. تريد إيران إخلاء مسؤوليتها السياسية والدبلوماسية والقانونية، ورمي الكرة في ملعب السفارة الأذرية والمهاجم لتصفية حساباتهما فيما بينهما.
تعرّضت السفارات الأذربيجانية أخيرا لأكثر من اعتداء في أكثر من عاصمة، بينها باريس وبيروت ولندن وواشنطن، نفذتها مجموعات إيرانية وأرمينية متشدّدة
تعرّضت السفارات الأذربيجانية في الأشهر الأخيرة لأكثر من اعتداء في أكثر من عاصمة، بينها باريس وبيروت ولندن وواشنطن، نفذتها مجموعات إيرانية وأرمينية متشدّدة لأسباب سياسية، لكنها لم تشهد حالات إطلاق نار وسقوط قتلى وجرحى، كما حدث خلال اقتحام سفارة أذربيجان في طهران. لذلك، هناك أسئلة كثيرة تنتظر إجاباتٍ بشأن ما جرى في العاصمة الإيرانية. وتعكس الحادثة في طهران، وما واكبها من مواقف وردود فعل سياسية، حجم تداخل ملفات الخلاف والتباعد بين البلدين، فلماذا يُطلب إلينا أن نتجاهل الحرب الدائرة بينهما على أكثر من جبهة، والتي تحولت إلى اصطفاف إقليمي قابل لإشعال القوقاز في كل لحظة؟
يعود التوتر الإيراني الأذري لأسباب تاريخية عرقية ومذهبية وسياسية وجغرافية لا تعد ولا تحصى. اختارت أذربيجان، بعد استقلالها عن روسيا السوفييتية في مطلع التسعينيات، الانفتاح على تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى لعوامل تقارب وتشابه كثيرة، بعكس الحالة مع الجار الإيراني الذي يرفع شعار أذربيجان أرض إيرانية فارسية في الأساس. تحوّل التباعد بين البلدين في ملفاتٍ خلافيةٍ ثنائيةٍ متشعّبةٍ ومتداخلةٍ إلى اصطفاف إقليمي فتح الطريق أمام مزيد من تضارب المصالح والأهداف. رأينا ذلك في سياسة طهران الأرمينية، وفي سياسة باكو التركية، من الموقف المتباعد في قره باخ، إلى الرؤية المتضاربة في ممرّ زنغزور الاستراتيجي الذي يستبعد إيران، ويقرب تجاريا بين تركيا وإقليم نهشفان وأذربيجان، بالتناغم مع خط الحرير الصيني الجديد الذي يجمع بين آسيا وأوروبا. والتطور الذي أغضب إيران أخيرا أكثر كان المقايضة التركية الروسية وإشراك موسكو في المعادلة الجديدة، مقابل دمج معبر لاشين الأرميني في خطّة تفتح الأبواب أمام دخول إسرائيلي إقليمي على الخط، مع إبقاء طهران بعيدة عن كل ما يجري. تريد إيران الانتقام من أذربيجان إذا بسبب الدور الإقليمي الجديد الذي تلعبه بدعم تركي إسرائيلي. هناك من يذكّر بما فعلته القوات الإيرانية عام 2006 في أجواء بحر قزوين فوق آبار الطاقة الأذربيجانية، في رسالة استفزازٍ وتحدّ.
تسير أذربيجان في نهج علماني ليبرالي ديمقراطي منفتح على الغرب ودول المنطقة بعيدا عن التطلّعات والأهداف الإيرانية
تمكّنت طهران من استغلال الخلاف والحرب في قره باخ بين أذربيجان وأرمينيا سنوات طويلة. سيطرت على المعابر الحدودية التي قرّبت بين أراضيها والمناطق التي كانت تسيطر عليها القوات الأرمينية حتى ما قبل عامين. راجعت الأطراف الإقليمية المتضرّرة من ذلك حساباتها، ودخلت في لعبة تفاهمات استراتيجية جديدة تقلق طهران وتغضبها. أربع مناورات عسكرية إيرانية ضخمة في مناطق الحدود مع أذربيجان خلال عام دفعت الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، إلى التساؤل عن سبب إجرائها على حدود لم تشهد مثيلا لها في العقود الثلاثة الأخيرة. وفي الأثناء، تدور حرب ناقلات استراتيجية ومحاولات هيمنة فوق مساحة جغرافية واسعة، تشمل مناطق الشرق الأوسط والقوقاز، بين إيران ومنافسيها في الإقليم. ولكن التحول الجديد هذه المرّة هو التوغّل الغربي في بحر قزوين يوما بعد آخر، حيث كان تقاسم النفوذ يجرى بين روسيا وإيران وحدهما. إلى جانب عدم إغفال مسألة تحريك الأقليات العرقية في المدن الإيرانية بعد موجات الاحتجاج الشعبي بطابع سياسي ومعيشي واجتماعي، جديدها أخيرا انتفاضة الداخل بعد حادثة مقتل الشابة مهسا أميني في سبتمبر/ أيلول، وأن تتحول كتلة عرقية أذرية تضم حوالي 25 مليونا داخل أراضيها إلى بركان إجتماعي سياسي، ينظر عن بعد إلى الجانب الآخر من الحدود باتجاه أذربيجان.
يقلق طهران التقارب التركي الأذري الإسرائيلي الواسع في القوقاز والتنافس الأوروبي الروسي على التقريب بين باكو ويريفان
ارتدادات التقارب العرقي القومي التركي الأذري أقوى بكثير من طموح إيران في اللعب على العامل المذهبي بين طهران وباكو. تسير أذربيجان في نهج علماني ليبرالي ديمقراطي منفتح على الغرب ودول المنطقة بعيدا عن التطلعات والأهداف الإيرانية. وزيارة الرئيس التركي أردوغان باكو في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2020، وبعد استرداد أذربيجان قسما كبيرا من أراضيها، رسالة إلى أرمينيا ربما، لكن المعني الأول هو إيران ونفوذها في جنوب القوقاز. ترصد طهران عن قرب صعود الدور الأذربيجاني الإقليمي، بعد استرداد باكو مساحات كبيرة من أراضيها في قره باخ، والدعمين التركي والإسرائيلي، إلى جانب “التفهّم ” الروسي الذي لقيته هناك، ثم طاولات حوار وتفاوض ترتّب إقليميا ودوليا بعيدا عنها في مناطق نفوذ تعنيها، يتقدّمها تحريك معبر زنغزور الإستراتيجي الذي يقرّب جغرافياً آسيا من أوروبا بجسر تواصل تركي أذربيجاني. وذلك كله سيكون على حسابها في النهاية.
لن تتحوّل الأمور إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين طهران وباكو طبعا، لكن احتمال أن يتحوّل ما جرى إلى فرصة تقرّب بينهما، كما حدث عام 2016 بين روسيا وتركيا بعد حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة، أندريه كارلوف، مستبعد تماما. تتحمّل طهران هنا مسؤولية استهداف السفارة، وهناك في أنقرة من أراد إشعال العلاقات التركية الروسية فقُطع الطريق باكرا عليه.
ما يقلق طهران هو التقارب التركي الأذري الإسرائيلي الواسع في القوقاز والتنافس الأوروبي الروسي على التقريب بين باكو ويريفان، بدور تركي أذري لا مكان لها فيه، فلماذا استبعاد احتمال العلاقة بين عملية مهاجمة السفارة الأذربيجانية في طهران والغارات الإسرائيلية أخيرا على أهداف إيرانية في سورية وأصفهان؟
العربي الجديد