تقف 50 حافلة منذ أيار في موقف قرب بيروت ويغطيها الغبار. هذه حافلات تبرعت بها الحكومة الفرنسية للتسهيل على عبء المواصلات في الدولة. المشكلة أنه يجب دفع ثمن الوقود بالدولار لتشغيلها. ولأن الحكومة لم تخصص دولارات بسعر منخفض لشراء الوقود، فلا يمكن فعل ذلك.
بشكل عام، الدولارات أمر نادر جداً في لبنان. إلى أي درجة هي نادرة؟ يمكن سؤال أصحاب الصيدليات. فالرفوف فارغة لأن من يستوردون الأدوية من الخارج لا يحصلون من الحكومة على تخصيصات لدولارات حسب السعر الرسمي، الذي بلغ حتى وقت متأخر 1502 ليرة للدولار. من يريد استيراد الأدوية مضطر إلى شراء الدولارات من السوق السوداء، التي قفز فيها سعر الدولار في هذا الأسبوع إلى أكثر من 60 ألف ليرة.
لا يقدر على هذا السعر سوى واحد في الألف العليا، خاصة بعد إلغاء دعم الأدوية المستوردة، والآن يستوردون الأدوية من إيران وسوريا والعراق. سعر الأدوية في هذه الدول أرخص بكثير من الأدوية الأوروبية. ولكن من غير الواضح إلى أي درجة هي فعالة.
في محاولة لجسر الفجوة الكبيرة بين سعر الدولار في السوق السوداء وبين سعره الرسمي، قررت الحكومة في بداية الشهر تغيير السعر الرسمي، 1500 ليرة للدولار. يعتبر هذا قراراً تاريخياً. للمرة الأولى منذ التسعينيات، تحدد الدولة سعراً رسمياً جديداً. المشكلة أن هذا السعر أيضاً بعيد بأربعين ضعفاً عن سعر السوق الحرة. ولأن الأمر يقتضي ترتيبات بنكية كثيرة في أعقاب هذه العملية، فقد أمهلت الحكومة البنوك مدة خمس سنوات لتطبيق هذا التغيير.
السعر الجديد لا يحل المشكلة الرئيسية التي بحسبها يوجد في لبنان أربعة أسعار مختلفة للدولار: السعر الرسمي، والسعر في السوق السوداء، والسعر الذي بحسبه يتم السحب لأصحاب الودائع بالدولار، 8 آلاف ليرة للدولار، والسعر الذي ذكره البنك المركزي للنشاطات عبر بطاقة الاعتماد، 42 ألف ليرة للدولار. وإن أي محاولة لتوحيد الأسعار تقتضي من الحكومة بالضرورة أن تخصص من ميزانيتها أموالاً ضخمة لجسر الفجوة بين السوق السوداء والسعر الموحد.
موظفو الدولة الذين يضربون منذ ثلاثة أسابيع، وموظفو جهاز التعليم الذين يضربون منذ خمسة أسابيع، لا يتأثرون بشكل خاص من القرار الجديد. فهؤلاء الذين فقدوا 80 – 90 في المئة من القوة الشرائية لرواتبهم في السنتين الأخيرتين يطلبون أن تحدد الحكومة سعراً خاصاً لهم، 30 ألف ليرة للدولار. وهم بذلك يستطيعون جسر نحو 50 في المئة بين قوتهم الشرائية الآن والقوة الشرائية الجديدة التي يعطيها لهم السعر الجديد. مثلاً، المعلم الذي متوسط أجره 2.5 مليون ليرة في الشهر كانت له قوة شرائية 1650 دولاراً حسب السعر القديم، وهو مبلغ يمكنه من العيش بمستوى حياة جيد نسبياً، ما دامت كل السوق تعمل وفقاً للسعر نفسه.
في اللحظة التي بدأ فيها الاقتصاد بالانهيار، وارتفع سعر الدولار بشكل دراماتيكي فقد أدى ذلك إلى أن وجد المعلم نفسه مع راتب هو 42 دولاراً، وهو السعر الذي يحدد السعر الحقيقي للسلع والخدمات. وإذا كان راتب المعلم سيتم حسابه حسب 30 ألف ليرة للدولار، فإن القوة الشرائية سترتفع إلى 83 دولاراً. ولكن حتى هذا الطلب ترفضه الحكومة في الوقت الحالي.
المواطن في لبنان لم يكن له حتى الآن أي طريقة لفحص أن السعر المرتفع للسلعة ينبع وبحق من ارتفاع السعر. لذلك، قررت الحكومة تنفيذ خطوة أخرى من أجل المساعدة في خفض أسعار السلع الاستهلاكية. بدءاً من هذا الأسبوع، تم وضع كل الأسعار في السوبرماركت وفي الصيدليات بالدولار. وأُجبر أصحاب المصالح التجارية على نشر سعر الدولار على مداخل المحلات، الذي بحسبه يتم حساب الأسعار على الصندوق. هذه الخطوة تسمح للزبائن بمقارنة الأسعار حسب الدولار، ومنع التجار من التلاعب بالأسعار. وتعتبر وزارة التجارة في لبنان أن هذه الخطوة ستقود إلى المنافسة، التي تكمن أهميتها في خفض الأسعار. ربما، ولكن يبدو أن التجار في لبنان سيعرفون بسرعة كيف سيتغلبون على هذه العقبة.
لغم في مبنى البنك المركزي
الاختراعات التجميلية التي تستخدمها الحكومة اللبنانية في السوق المنهارة لديها، لا يمكنها أن تغطي على قضايا رئيسية تحتاج إلى حلول فورية وجذرية. إحدى المشكلات هي تعيين رئيس جديد للدولة بعد مرور أربعة أشهر تقريباً على استقالة الرئيس السابق ميشال عون. حاول زعماء الدولة إيجاد حل في الجلسة التي عقدت في فرنسا الاثنين الماضي. الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي يعتبر نفسه قيماً عاماً على المسألة اللبنانية قام باستدعاء زعماء مصر وقطر والسعودية وممثل أمريكي لصياغة اقتراح فيما يتعلق بالرئيس المرغوب فيه في لبنان، وبصورة غير مباشرة شاركت إيران أيضاً في الجلسة، حيث إن قطر تمثل أيضاً مصالح طهران.
لم يتم التوصل إلى أي نتيجة في هذا اللقاء. الأموال التي يتوقعها لبنان ستبقى في صناديق الدول المانحة (مجموعة الدول التي تعهدت في 2018 بمنح 11 مليار دولار للبنان)، إلى أن ينجح البرلمان في لبنان في تعيين رئيس جديد ويحدد جدولاً زمنياً وإطاراً للتنفيذ لإجراء إصلاحات اقتصادية. هذه الإصلاحات مطلوبة لتحرير المنح والقروض التي تبلغ 3 مليارات دولار، والتي يطلبها لبنان من صندوق النقد الدولي.
وثمة لغم آخر يكمن في مبنى البنك المركزي الذي يترأسه رياض سلامة، الذي يجلس على الكرسي منذ 1999. سلامة الذي تم تمديد ولايته كل ست سنوات، سينهي منصبه في هذه السنة. وفي هذه الأثناء، تم فتح تحقيق ضده تشارك فيه دول أوروبية بتهمة تبييض الأموال ونقل غير قانوني لنحو 330 مليون دولار من أموال الدولة إلى حساب شركة بملكية شقيقه رجا سلامة. وثائق تم كشفها في هذا الأسبوع، تظهر أن المحققين الذين تابعوا مسار الأموال اصطدموا بشهادات متناقضة للأخوين سلامة. أبلغ الأخَوان عن أسماء وهمية لوسطاء ومواعيد ليست صحيحة لنقل الأموال، ولم يشرحوا أهداف نقل الأموال. إضافة إلى ذلك، لم يتم تقديم أي وثائق تدعم شهادتهم.
يمسك سلامة بيده كنزاً كبيراً من المعلومات حول نشاطات رؤساء حكومة سابقين وأعضاء في البرلمان ومديري شركات، الذين يخشون من كشف قد يتسبب بتقديمهم للمحاكمة وإرسالهم إلى السجن. من الصعب رؤية كيف يمكن للتحقيق أن يجري أمام الحائط الحصين الذي يضعه أمامه سياسيون لبنانيون.
في غضون ذلك، فتح التحقيق في كانون الثاني حول انفجار ميناء بيروت في آب 2020 مرة أخرى. استؤنف التحقيق بعد 14 شهراً، ونبع من ضغط كبير على المدعي العام طارق بيطار. بيطار الذي اعتبر شخصاً متزناً ومستقيماً وحازماً، ملزم بإعطاء جواب لمئات آلاف اللبنانيين الذين قتل أقرباؤهم أو أصيبوا أو فقدوا بيوتهم في الانفجار. وهم منذ ذلك الحين ينتظرون التعويضات، وعلى الأقل كشف المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن الانفجار الذي قتل فيه أكثر من 230 شخصاً وأصيب آلاف الأشخاص، ونحو 300 شخص بقوا بدون مأوى.
لهذا التحقيق أهمية تتجاوز كشف الحقيقة؛ فهو يدل على نجاعة جهاز القضاء في لبنان وعلى نية جدية لتطهير كثير من الفساد في السياسة اللبنانية. هذه المظاهرة قد يكون لها تأثير على استعداد الدول المانحة لمساعدة لبنان، حتى لو لم يتم تلبية جميع شروطها. ولكن بيطار واجه حتى الآن رفض من سيخضعون للتحقيق المثول للتحقيق والمطالبة بعزله وادعاءات بتسييس التحقيق. لذلك، فإن شعاع الضوء هذا، سواء بالنسبة للمواطنين اللبنانيين أو الدولة، ليس سوى شعاع نظري في هذه الأثناء.
القدس العربي