ارتفاع الأسعار يحوّل الأكلات الشعبية إلى وجبات دائمة على طاولة المصريين

ارتفاع الأسعار يحوّل الأكلات الشعبية إلى وجبات دائمة على طاولة المصريين

تحولت أطباق الفول والطعمية والكشري إلى وجبات دائمة على طاولة أغلب العائلات المصرية بسبب الارتفاع المستمر للأسعار، الذي أثر على القدرة الشرائية للمواطنين الذين لم يعودوا قادرين على شراء المواد الغذائية وخاصة اللحوم.

القاهرة – أعادت الأزمة الاقتصادية وما صاحبها من ارتفاع لافت في أسعار الكثير من السلع الأساسية كبار السن من المصريين إلى أجواء الحروب التي خاضها بلدهم خلال عقود مضت، حيث كان التقشف قاسما مشتركا بين فئة كبيرة منهم. وفي حين تبدو الأزمة التي يعيشونها الآن لا علاقة لها مباشرة بالحروب السابقة، إلا أن بعض روافدها السلبية جاءت بسبب حروب الآخرين وخاصة الحرب الروسية -الأوكرانية.

ولم يعد إسماعيل مصطفى وهو موظف أربعيني ورب أسرة مكونة من خمسة أفراد، قادرا على شراء احتياجات أسرته من البروتين بشكل يومي مثلما اعتاد من قبل مع توصية أطباء التغذية بضرورة تناول أطفاله لبعضه، لكن الأمر بات قاصرا على شراء نوع واحد فقط من اللحوم، الحمراء أو الدواجن أو الأسماك، على مدار الأسبوع، وقد لا يستطيع شراء أحدها قبل أسبوعين على موعد صرف راتبه.

وأشار الموظف المصري في تصريح لـ”العرب” إلى أن الغلاء الفاحش الذي بلغ ذروته في الأيام الماضية جعله يقاطع شراء العديد من السلع، فثمن الدجاجة الواحدة التي تكفي ليوم واحد فقط وصل إلى 200 جنيه (6.5 دولار)، في حين أن راتبه لا يتجاوز 8000 جنيه (260 دولارا)، وارتفاع الأسعار طال جميع السلع والخدمات.

وكان إسماعيل سابقا يشتري كل أسبوع كيلو من اللحوم الحمراء ودجاجتين مع وجبة أسماك من السمك البلطي الأكثر انتشارا في مصر بمبلغ لا يتجاوز 400 جنيه (13 دولارا)، لكن الوضع اختلف الآن، فشراء الأنواع المختلفة من اللحوم بشكل أسبوعي يتطلب دفع 750 جنيها (25 دولارا) دون النظر إلى أسعار باقي تجهيزات كل وجبة منها، وهو أمر من الصعوبة أن يتحمله الرجل، بالنظر إلى ميزانيته المحدودة.

وكشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) أخيرا، أن مجموعة اللحوم والدواجن زادت بنسبة 20.6 في المئة في يناير الماضي، وبلغ سعر كيلو اللحوم أكثر من 200 جنيه (6.56 دولار) وفقا لأسعار اتحاد الغرف التجارية، قبل أن تصل في الوقت الحالي من فبراير إلى 270 جنيها للكيلو (9 دولارات).

قفز معدل التضخم السنوي في مصر إلى 25.8 في المئة في يناير الماضي، وهو أعلى معدل مستوى سجله منذ ديسمبر 2017، متأثرا بتداعيات موجة التضخم العالمية، وتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة تقترب من 100 في المئة خلال عام.

وقال إسماعيل لـ”العرب” إنه لجأ إلى الأكلات الشعبية لتدبير ميزانية الطعام، واتجه وأسرته إلى تناول العدس والفول والباذنجان على مدار الأسبوع، ودفعه ارتفاع أسعار زيت الطهي لشراء أكلات شعبية من المطاعم المنتشرة بجوار منزله، والتي أضحت تعمل في جميع الأوقات بعد أن كان عملها قاصرا على وقت الصباح.

ولا تتوافر الرقابة اللازمة على الآلاف من المطاعم الشعبية التي تستخدم أنواعا ردئية من الزيوت، وينتشر أغلبها في مناطق شعبية متعددة، ما يضع من يقبلون عليها بشكل مستمر أمام أزمات صحية قد تكون بحاجة إلى ميزانيات باهظة للعلاج، وهي دائرة مفرغة يمر بها المجتمع منذ سنوات، ومتوقع أن تتزايد حدتها خلال الفترة المقبلة.

ويبدو حال إسماعيل شبيها بالموظف الخمسيني محمد حسن، وهو رب أسرة مكونة من ستة أفراد، وباتت وجبات الفول والطعمية (الفلافل) والكشري بالنسبة إليه مهيمنة على الوجبات الرئيسية اليومية، وعلى قناعة بأن تحضير هذه الوجبات في المنزل بعد أن غاب ذلك عن ذاكرته منذ سنوات طويلة، هو الحل الأسلم.

وأوضح لـ”العرب” أنه يمكنه توفير بضعة جنيهات وراء تجهيز أكثر من وجبة من الطعمية وتناولها أكثر من يوم، كذلك الوضع بالنسبة إلى الكشري (الوجبة الشعبية الأشهر في مصر)، ويحتاج تجهيزه مبالغ أكبر نتيجة ارتفاع أسعار الأرز والمعكرونة والعدس.

يضطر حسن، الذي لا يتجاوز دخله عشرة آلاف جنيه (330 دولارا) ويعمل بهيئة حكومية صباحا ومحاسبا في أحد المحال التجارية مساء، إلى تناول الأكلات الشعبية التي يضيف إليها أحيانا أنواعا مختلفة من الجبن والخضروات في وجبة الغداء، مشيرا إلى أنه لم يتخيل أنه سيكون بحاجة لدفع 180 جنيها (6 دولارات) لشراء كيلو واحد من لحوم الدجاج المعروف في مصر بـ”البانيه”، كذلك الحال بالنسبة إلى علبة التونة التي كانت بديلا منطقيا في غياب اللحوم، فقد وصل سعر العلبة الواحدة 40 جنيها (1.3 دولار) أو حتى بيض المائدة الذي وصل سعر الواحدة منه 4 جنيهات (13 سنتا).

وأكدت بيانات حديثة للجهاز المركزي للإحصاء تأثر نمط استهلاك 65.8 في المئة من الأسر المصرية في إنفاقها على السلع وانخفض استهلاك 90 في المئة من الأسر من البروتينات (لحوم ودواجن وأسماك) مقابل زيادة في استهلاك الخبز والبقوليات.

انتقلت تأثيرات الأزمة إلى العديد من التجار، سواء أكان ذلك على مستوى صغار المربين الذين خرجوا من سوق تربية المواشي والدواجن الأشهر الماضية أم عبر محال الجزارة وبيع الدواجن التي تشهد حالة كبيرة من الركود حاليا.

تغيير في العادات

اضطر حسين إبراهيم، وهو صاحب أحد محال الجزارة في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة القريبة من القاهرة، إلى إغلاق متجره أخيرا بسبب ضعف الإقبال، بعد أن كان في السابق يذبح عجلين يوميا، وأصبح يتحصل على نصف عجل ولا يتمكن من بيعه.

وذكر في تصريح لـ”العرب” أن التقشف الذي اضطر إليه المواطنون وتوقف الكثير منهم عن تناول اللحوم انعكس سلبا عليه، فلم يعد قادرا على تلبية احتياجاته اليومية، وتوقفت أسرته تماما عن شراء مأكولات جاهزة، وقام مع بدء العام الدراسي بنقل ابنه من إحدى المدارس الخاصة إلى أخرى حكومية، ووصل الاقتصاد إلى تحجيم تشغيل الأجهزة الكهربائية في المنزل خوفا من فاتورة غير متوقعة للكهرباء.

ورغم أن المتجر الذي يمتلكه حسين كان يدر عليه عائدا جيدا، إلا أنه لم يتمكن من قضاء إجازة الصيف خلال العامين الماضيين في المكان الذي اعتاد عليه.

وكان حسين شريكا في مزرعة لتربية المواشي بإحدى ضواحي محافظة الجيزة، وقام منذ أربعة أشهر بتصفيتها مع وجود نقص حاد في المعروض من العجول لعدم قدرة المزارعين على تحمل تكلفة تربية الحيوانات وتوقف الدولة عن دعم الإنتاج الحيواني.

الطبقة الغنية والمقتدرة هي التي تستخدم سلعا مرتفعة الثمن، وجميع الطبقات المصرية الأخرى عدلت من منظومتها الاستهلاكية

ويتراوح سعر علف الماشية من 5 آلاف جنيهات (166 دولارا) إلى 12 ألف جنيه (400 دولار) للطن الواحد، وتستهلك رأس الماشية 2 في المئة من وزنها يوميا أعلافا، لذا تحتاج إلى عشرة كيلو علف يوميا، يكلف المربي من 50 (1.6 دولار) إلى 120 جنيها (4 دولارات) قبل إضافة بقية تكاليف الإنتاج الأخرى، ما يعني ارتفاع الأسعار.

يبلغ حجم استهلاك المصريين سنويا نحو 1.3 مليون طن لحوم حمراء، ويجري استيراد 40 في المئة منها، فيما وصل عدد رؤوس الثروة الحيوانية إلى 7.5 ملايين رأس مع نهاية العام الماضي، حسب بيانات لوزارة الزراعة المصرية.

وقال أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الفيوم (جنوب غرب القاهرة) عبدالحميد زيد، إن الثقافة الاستهلاكية التي ظلت سائدة في المجتمع المصري منذ عقود تأخذ في التغيير الآن، وبحاجة إلى المزيد من الوقت كي يعتاد الناس على السلوك التقشفي، وقد يحدث ذلك حال طال أمد الأزمة الراهنة ولم تتراجع الأسعار في الفترة المقبلة.

وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن الإنسان في حالة العوز والاحتياج يختار الفرص البديلة أو ما يمكن تسميته بـ”الاستهلاك البديل” الذي يتناسب مع الدخل بما يساعد على تحقيق الاحتياجات الأساسية لأفراد الأسرة الواحدة، ومع أنه لا يمكن الاستغناء عن البروتينات وفقا لجدول التغذية الذي تقره الأمم المتحدة، لكن ثمة فئات كثيرة من المواطنين مضطرون إلى ذلك في الوقت الحالي ليتمكنوا من تدبير أمورهم.

ولفت إلى أن النقص الحاد في التغذية السليمة يؤدي إلى اعتلال الجسم ويتبعه نقص في قدرات الفرد بوجه عام، وحينما يجد الإنسان نفسه غير قادر على تلبية احتياجاته يتسبب ذلك في إحباط شديد لديه، ويشعر بأنه أمام عملية إقصاء واستحداث ظروف تجعله غير قادر على الاندماج والعيش ويظل قابعا على هامش المجتمع.

تكمن خطورة الأزمة الاجتماعية الراهنة في أن تجارب التقشف السابقة التي اضطر إليها المصريون في أوقات الحروب والنكبات كان هناك توافق اجتماعي عليها وصارت وفق خطط وضعتها الدولة لتحقيق أهداف بعينها، بينما الآن ثمة حالة من الانفلات في المجتمع.

ولا توجد رهانات على إجراءات للمقاطعة العامة أو الذهاب باتجاه التقشف لفترة محددة إلى حين تحقيق الهدف، فالاتهامات متبادلة بين الحكومة التي تصف التجار بأن جشعهم سبب رئيسي في الأزمة، وبين المواطنين والتجار الذين يرون أن الحكومة تخلت عنهم وتركتهم فريسة لأوضاع اقتصادية صعبة.

وشددت أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها (وسط الدلتا) هالة منصور في تصريح لـ”العرب”، على أن حملات المقاطعة لن تجدي لأن هناك مقاطعة طبيعية من جانب المواطنين، والطبقة الغنية والمقتدرة هي التي تستخدم سلعا مرتفعة الثمن، وجميع الطبقات المصرية الأخرى عدلت من منظومتها الاستهلاكية خلال العامين الماضيين، وتلاشى الترف الذي ساد في عقود ماضية، وقد انعكس ذلك على حجم المترددين على سلاسل السوبر ماركت الكبيرة.

وأكدت أن المصريين يستعيدون الآن ثقافة الاقتصاد المنزلي وتصنيع احتياجاتهم داخل بيوتهم، وفي حال فشلوا في تدبير أمورهم فسوف تكون لذلك تبعات اجتماعية وأمنية وسياسية سلبية، في ظل حالة من الحزن والخوف والجوع في أحيان أخرى، ولا بد من توفير أشكال مختلفة من التنفيس عن المواطنين وتلعب الدولة دورا مهما في دعم تلك السلع بعد أن دفع أصحاب الدخول الثابتة ثمنا للصراع بين الحكومة والتجار.

العرب