السلام العالمي يرتبط بمدى فعالية التنظيم الدولي، وتأثيره من خلال مؤسساته المختلفة في مواجهة العدوان، وحل النزاعات بالوسائل والطرق السلمية، ولكن انخراط الدولة القومية في الشؤون العسكرية الصناعية، أنتج الشعور المتنامي بانعدام الأمن. والمضاعفات الخطيرة التي أفرزتها المتغيرات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة على مفهوم السيادة، أفرزت علاقة غير متناسقة بين النظام العولمي الجديد وأزمة السيادة الوطنية للدول. هذا، في الوقت الذي يلعب فيه مبدأ السيادة الوطنية دورا محوريا في تحقيق الهدف الأسمى الذي قامت عليه روح ميثاق الأمم المتحدة، وهو حفظ السلم والأمن الدوليين. واليوم، يشكّل صعود القومية وما يرافقها من تنامي الحمائية، في عدد من مناطق العالم تحديا للانسجام الاجتماعي للمجموعة الدولية، وهو واقع أصبحت معه العلاقات الدولية أكثر صعوبة في الاقتصاد والسياسة والانفتاح الدبلوماسي.
من يقودون المعسكر الرأسمالي يبحثون بشكل متواصل عن أرباح خارج حدودهم الجغرافية، وبالتالي افتعال الأزمات والحروب، ومن ثمة إعادة إعمار الدول التي دمّروها، ومثل هذا الأمر أصبح يشكل ديناميكية تنافسية بين الدول الاستعمارية التوسعية، والعامل المساعد للنزعة العسكرية. ويبدو أنّهم جعلوا من اقتصاد البوارج الحربيّة استراتيجية يمكن التقليل منها لصالح خيار العقوبات التجارية والخنق المالي، على نحو يفضي إلى حصار الأنظمة وعزلها، وخلق حالة وطنية صدامية غير متجانسة، فالتدخلات الانتقائية يتم تكييفها بحسب الأهمية الجيواقتصادية والطاقوية للدول المستهدفة.
مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن للصين حافز استراتيجي قويّ لأن تحظى بالهيمنة الاقتصادية في العالم
وما يحدث من عقوبات أمريكية تجارية على روسيا والصين وإيران وغيرها، ينسجم مع رغبات واشنطن ومن ورائها المعسكر الرأسمالي في تطويع الأسواق أمام الشركات الاستثمارية الغربية واستعادة تفوّقها الاقتصادي والمالي. حيثما كان نفوذ واشنطن في أدنى مستوياته حصل تقدّم نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. هذه حقيقة أثبتها التاريخ والوقائع، ولنا في النزعة الاستقلالية في بلدان جنوب القارة الأمريكية أكبر مثال على ذلك. وهي التي تحركت بشكل أكبر نحو التكامل وطرد القواعد العسكرية الأمريكية، بعدما كانت تعتبر باحة أمان خلفية للولايات المتحدة، بالمحصّلة، تمتعت الدولة أحادية القطب بالسلطة كما أرادت، وما زالت تبعث بإشارات مفادها أن «عقيدة مونرو» ما زالت حية وبصحة جيدة. هذه هي الطريقة التي تتصرف بها القوى العظمى. تطيح أمريكا استنادا إلى عقيدة مونرو بالقادة المنتخبين ديمقراطيا في نصف الكرة الغربي خلال الحرب الباردة، وما تلاها، لأنها لم تكن سعيدة بسياساتهم، وتعبث بالشرق الأوسط كما يحلو لها، إلى جانب كيانها الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية المحتلة. ودون استحياء، تواصل تفعيل «قانون قيصر» حتى في الحالات الإنسانية وكارثة الزلزال وضحاياه، الذين كان بالإمكان إنقاذ معظمهم على الأقل في الشمال السوري المنكوب، هي وصمة عار ستطارد ادعاءاتهم الكاذبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. لم تتأتّ المشكلات التّي تواجه النزعة الدولية الليبرالية من خلال عودة النزاع الجيوبولتيكي، رغم أنّ النزاعات مع الصين وروسيا تُعتبر حقيقية وخطيرة. ومرة أخرى تفشل النزعة الدولية الليبرالية، بسبب عودة سياسة القوى العظمى ومشكلة الفوضى. وقد يكون ما نشهده الآن عبارة عن «أزمة انتقال» سيفسح بموجبها الأساس السياسي القديم للنظام الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة، الطريق أمام إعدادات جديدة للقوة العالمية، لائتلافات جديدة تبرمها الدول، ولمؤسّسات حَوْكمة جديدة أيضا. يمكن لهذا الانتقال أن يقود إلى نمطٍ من نظام ما بعد أمريكي ونظام ما بعد غربي، يبقى محافظا بشكل نسبي على انفتاحه وقواعده الأساسية، ربّما تُمثّل أزمة اليوم نهاية للمسار العالمي للحداثة الليبرالية، ولنظام دولي تمّ تنظيمه ليتمحور حول الانفتاح الاقتصادي، المؤسّسات متعدّدة الأطراف، التعاون الأمني وما يسمّى التضامن الديمقراطي. طوال هذه المدّة، صارت الولايات المتحدة بمثابة «المواطن الأول» لهذا النظام، مُوفّرة قيادة الهيمنة، مُثبّتة للتحالفات. اليوم، النظام الدولي الليبرالي في أزمة، مع ذلك، البعض من أمثال المفكر الأمريكي جون آيكينبري يحاجّون بأنّه لا يزال للنزعة الدولية الليبرالية مستقبل، رغم المشكلات التّي تُعانيها، ورغم أنّ منظمات الهيمنة الأمريكية للنظام الليبرالي في حالة ضعف، إلاّ أنّ أكثر الأفكار والبواعث العامة المنظمة للنزعة الدولية الليبرالية تشتغل بعمق في السياسة العالمية. فلا يوجد ببساطة بديل استراتيجي كبير لنظام ليبرالي دولي، إذ لا تملك الصين نموذجا تجده بقيّة العالم نموذجا جذّابا، ولا روسيا أيضا، فهذه دول رأسمالية تسلّطية، إلاّ أنّ هذا النمط من الحالات لا يُترجم إلى مجموعة واسعة من الأفكار البديلة لأجل تنظيم النظام العالمي. بهذا المعنى، يصرّ المناصرون للنظام الليبرالي العالمي المنقاد أمريكيا والقائم على قواعد، على أنّه لا يزال في جوهره، عبارة عن «حلف ديمقراطي» للدفاع عن الفضاء السياسي الديمقراطي الليبرالي وتأييده. وأنّ للديمقراطيات أو ما يسمّونه «العالم الحر» قدرة فريدة على التعاون. إنّه تماما ذلك الدور الذي يقوم به «أسياد الجنس البشري» كما يسميهم تشومسكي، ضمن أولويات السياسة الخارجية الحالية، كالشراكة عبر الأطلسي، وهي إحدى اتفاقيات حقوق المستثمرين، وسميّت خطأً في الدعاية الإعلامية والتحليلات باتفاقيات «التجارة الحرة»، حيث تجري المحادثات حول هذه الأولويات سرا، فضلا عن المئات من محامي يالشركات واللوبيين الذين يكتبون التفاصيل الحاسمة. الغاية هي جعل هذه الأولويات متّبعة بطريق ستالينية عبر إجراءات «المسار السريع» التي أُعِدّت لتمنع المناقشات العامّة، وتسمح فقط بالاختيار بين نعم ولا، وبالتالي نعم في النهاية. ودائما يكون أداء واضعي هذه الإجراءات ناجحا جدّا، وليس هذا بغريب. وفي كل هذا، الشعوب تبقى حادثا عرضيا، وفق ما يمكن توقعه من نتائج. وما نراه الآن على أرض الواقع هو حصيلة مخيبة للديمقراطية الليبرالية، وما حملته من هواجس ترسيخ الهيمنة العالمية عبر الجمع بين إطار أيديولوجي جاذب ومجموعة من أدوات القوة الفاعلة، كحلف شمال الأطلسي والقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في شرق أوروبا ووسط آسيا، وغيرها من أماكن عديدة حول العالم. وبصرف النظر عن التهليل لأوروبا باعتبارها قد أصبحت «كاملة وحرة» مع إعادة توحيد ألمانيا واندماج دول الكتلة الشرقية سابقا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ربما يلاحظ كثيرون أن ما حدث في الحقيقة لم يكن أكثر بكثير من نقل خط الحدود بين الشرق والغرب، في اتجاه الشرق. ولا تزال غير واضحة تماما تلك النتائج الأمنية الأوسع نطاقا الناجمة عن الزوال المفاجئ للقوة العظمى الثانية، وقد تزامنت مع حرص الصين على تأكيد نفسها بشكل متزايد.
وبالنظر إلى ما يحدث في بحر الصين الجنوبي وغيره من بؤر التماس المرجّحة بين الصين وأمريكا، تبقى مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن القدرات الدفاعية ليست سوى جانب واحد من صراع الريادة التكنولوجي بين القوى العظمى، وللصين حافز استراتيجي قويّ لأن تحظى بالهيمنة الاقتصادية في العالم، وهو ما يُعتبر هدفا لها. أمّا اسقاط المناطيد، ثم التهليل لذلك، فلن يغير شيئا في مسار الجيوبوليتيكا المتغيرة، ومعادلة التفوق التي تميل لناحية الشرق وقواه الصاعدة بشكل مطرد.
القدس العربي