تشير التطورات الأخيرة إلى أن نهج الولايات المتحدة في السياسة الاقتصادية الدولية يمر بتغير دراماتيكي. فقد أدت الحاجة الملحة إلى إزالة الكربون، وخلق وظائف تصنيع ذات قيمة عالية، والانخراط في مواجهة جيوسياسية مكثفة، إلى عودة السياسة الصناعية في الولايات المتحدة.
ويشكل قانون الحد من التضخم أكبر استثمار اتحادي على الإطلاق لمكافحة تغير المناخ، والذي سيساعد البلاد على التقليل من انبعاثات الكربون بحلول العام 2030. ومن خلال تقديم الإعانات والإعفاءات الضريبية لشركات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الخضراء، يسعى القانون أيضًا إلى تعزيز التصنيع الأميركي -وقد أثارت هذه الإجراءات حفيظة حلفاء أميركا في أوروبا وآسيا.
كما واصل بايدن أيضًا العديد من سياسات ترامب التجارية العقابية، وبدأت الولايات المتحدة في التنصل من أحكام منظمة التجارة العالمية التي تتعارض معها، وبالتالي تقويض النظام التجاري الذي كانت قد صاغته هي نفسها إلى حد كبير. ولم تعد الفعالية المستقبلية لمنظمة التجارة العالمية واضحة بينما تنضم الولايات المتحدة إلى الصين في تجاهل قواعدها.
كما أن “الحرب التقنية” التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الصين لا تظهر أي بوادر للتراجع.
وقالت إدارة بايدن بعبارات لا لبس فيها، إنها تسعى إلى أن تكون رائدة في تقنيات الحوسبة، والتكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا النظيفة لأنها تعتبر هذه المجالات ضرورية للأمن القومي.
وإذا نظرنا إلى كل هذا معًا، فإن التحول إلى الحمائية في سياسة الولايات المتحدة والابتعاد عن نظام التجارة الحرة قد أزعج بطبيعة الحال الأصوات الداعية إلى الحرية الاقتصادية.
تحذر “الإيكونوميست” من أن يؤدي تبني الدول لسياسة صناعية قوية إلى تعطيل الكفاءة الاقتصادية وسيادة تفكير الحاصل الصفري.
وسوف يعرض أولئك الذين يرفضون التعلم من التاريخ قضية الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق مرة أخرى للخطر. وتبقى المخاوف من صعود القومية الاقتصادية مشروعة.
يمكن أن يؤدي استخدام العقوبات والتعريفات والرقابة على الصادرات إلى مزيد من الاحتكاك الجيو-اقتصادي وتصعيده إلى نزاع مسلح.
وقد أدت هذه المخاوف إلى نقاش محتدم: ما مستقبل العولمة؟ هل يقترب عصر التكامل الاقتصادي الأكبر من نهايته؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما التداعيات على السلم والأمن الدوليين؟
قبل بحث هذه القضايا، من المهم أن نذكر بإيجاز سبب توتر المزاج المناهض للعولمة في العديد من البلدان الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة.
أدى تطبيق النظرة النيوليبرالية لفلسفة العولمة إلى تفاوتات واسعة في الدخل وخسارة الوظائف الصناعية ذات الرواتب المجزية في الغرب، واستعصت فوائد العولمة على الطبقات الوسطى الغربية.
وبينما انتشرت المضاربات المالية المحفوفة بالمخاطر، كان الاقتصاد الحقيقي محرومًا من الاستثمارات. وأدى عصر “العولمة المفرطة”، كما جادل منتقدوها، إلى تقليص سيادة الدول على حكم نفسها، ومنح الشركات متعددة الجنسيات امتياز وضع قواعد الاقتصاد.
وكان هدف أنصار العولمة النيوليبراليون هو عزل الاقتصاد العالمي عن صخب وضجيج السياسات الديمقراطية الوطنية.
ولذلك لم يكن مفاجئًا أن يصبح الحديث عن استعادة السيطرة لازمة شائعة. ومع ازدياد شعبية العصر الجديد للسياسة الصناعية، أصبحت أصولية السوق الحرة يتيمة سياسيًا.
أضافت المخاوف الأمنية الدولية إلى رد الفعل المحلي العنيف ضد العولمة غير المقيدة.
وأدى الوباء والحرب في أوكرانيا إلى إدراك أنه يجب تحويل سلاسل التوريد إلى أقصى حد ممكن بعيدًا عن الخصوم. وترغب الولايات المتحدة أيضًا في الحفاظ على هيمنتها على التكنولوجيا المتقدمة -كما تفعل مع حظر تصدير أشباه الموصلات، التي تسعى إلى إبعادها عن أيدي المنافسين الجيوسياسيين مثل الصين.
ومن المرجح أن تستمر صياغة السياسة الصناعية للولايات المتحدة في المستقبل بعبارات معادية للصين من أجل تجميع التحالفات المحلية اللازمة لتمرير التشريعات في كونغرس يعاني من الجمود.
في حين أن العولمة انتشلت مئات الملايين من الناس من الفقر (على الرغم من أن الخيارات السياسية في بلدان مثل الصين كانت في كثير من الأحيان أكثر بعدًا عن التقليدية مما يقترحه الليبراليون الجدد)، فليس من الدقة رسم عصر العولمة المتلاشي من دون إلقاء الضوء على عيوبها.
في الواقع، تنافست الدول اقتصاديًا من خلال تحقيق تكاليف عمالة منخفضة وتخفيضات ضريبية. وسعت البلدان إلى تحسين قدرتها التنافسية الدولية من خلال خفض الأجور بشكل مباشر أو غير مباشر وتقليص الطلب المحلي.
ووضعت العولمة الاقتصادية في عالم التصنيع عمال العالمَين، المتقدم والنامي، في سباق نحو القاع.
وكتب مايكل بيتيس في رده على اقتراحات مجلة الإيكونوميست: “إن نظام التجارة العالمية ورأس المال خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية كان من بين أكثر الأنظمة افتقارًا إلى التوازن وتشوها وحمائية في التاريخ”.
وهكذا، فإن افتراض أن البلدان ليس لديها خيار سوى التراجع عن العولمة النيوليبرالية أو تبني سياسات تجارية، هو خيار خاطئ.
يمكن أن تكون التجارة المفتوحة متوافقة مع سياسات إعادة التوزيع محليًا كما أظهرت الديمقراطيات الاجتماعية في شمال أوروبا. وللمضي قدمًا، يجب على البلدان التي لديها فائض تجاري مستمر تحسين القوة الاستهلاكية لمجموعاتها الأضعف اقتصاديًا.
وإذا ظهرت كتل تجارية جديدة بين الدول ذات التفكير المتماثل، فإنها يجب أن تسعى إلى تحرير التجارة بينما تأخذ في الاعتبار أيضًا توفير حماية أكبر للعمال.
لا تحمل العولمة اليوم الطابع الانتصاري نفسه الذي ميزها في التسعينيات. لقد أصبح مستقبل العولمة، بعد تجريده من غائيته التقدمية، ذا نهاية مفتوحة أكثر من السابق. ومع ذلك، في الوقت الذي ينقسم فيه الاقتصاد العالمي -في ما يسميه صندوق النقد الدولي التفتت الجغرافي الاقتصادي المدفوع بالسياسات- فإنه يمكن طرح بعض النقاط الحاسمة حول مستقبل العولمة.
أولاً، على عكس التكرار النمطي السابق للعولمة، الذي تمت صياغته تحت رعاية دولة مهيمنة، لن تعمل الترتيبات التجارية الآن تحت مظلة واحدة.
وعلى الرغم من عدم توفر بيانات حديثة حول تجزئة التجارة، فقد ازدادت الإجراءات الحمائية في جميع أنحاء العالم. وبذلك، حتى لو لم ينخفض حجم التجارة بشكل كبير (منذ الأزمات المالية العالمية للعام 2008، ظلت التجارة الدولية كحصة من الاقتصاد العالمي راكدة في الغالب؛ استقرت العولمة ولكنها لم تعكس مسارها)، فإن نمط التجارة المعولمة يُرجح أن يكون مختلفًا.
على عكس حقبة العولمة المفرطة، سوف تتبع البلدان الآن طرقًا مختلفة في رسم أنظمتها السياسية والاقتصادية. وإذا كانت الولايات المتحدة تقوض نظام بريتون وودز(1)، فليس من العدل توقع امتثال الدول الأخرى لهذا النظام.
سوف يتعين على المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية التمتع بقدر أكبر من المرونة لتعكس الظروف المتغيرة.
ثانيًا، سوف يتم استخدام حق النقض (الفيتو) ضد المزيج الجديد من العولمة من قبل دولة الأمن القومي. على سبيل المثال، دافعت كاثرين تاي، الممثلة التجارية للولايات المتحدة، ضد قرار منظمة التجارة العالمية بالقول، من بين أمور أخرى، إن إجراءات بلدها كانت تهدف إلى حماية الأمن القومي.
وسوف يسير مستوى أكبر من الانخراط جنبًا إلى جنب مع النضال من أجل تحقيق نفوذ أكبر نسبيًا ومن قبل الدول التي تتطلع إلى “تسليح الاعتمادية المتبادلة”.
ثالثًا، يجب ألا يؤدي المنطق المادي للعولمة الاقتصادية إلى تسوية جميع الاختلافات بين القوى العظمى كما كان يُفترض ويؤمل.
كانت العولمة النيوليبرالية غير مبالية إزاء نوع النظام. وكان من المتوقع إلى حد كبير أن يظل بإمكان البلدان ذات التوزيعات السياسية المختلفة الالتزام بنظام تجاري واحد.
لكن هذا الرأي يتغير الآن. فقد دفعت المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين صانعي السياسة والمعلقين في واشنطن إلى الحديث عن “إعادة توطين التصنيع” أو “أولوية التعهيد للأصدقاء” -وهي محاولة لإعادة تشكيل سلاسل التوريد باتجاه البلدان المفضلة.
الغد