نشرت صحيفة” نيويورك تايمز” تقريرا حول فشل إدارة جو بايدن وحلفائه الغربيين في عزل روسيا.
وفي تقرير شاركت فيه نخبة من المراسلين جاء فيه: “بعد غزو روسيا لأوكرانيا، شكّل الغرب ما بدا وكأنه تحالف دولي ضارب. فقد دعمت 141 دولة في الأمم المتحدة قرارا يدعو إلى انسحاب روسيا غير المشروط من أوكرانيا”. وظهرت روسيا كبلد معزول، حيث لم تحظ بدعم سوى عدد قليل من الدول، كانت منها كوريا الشمالية التي رفضت التحرك، وإريتريا وسوريا وبيلاروسيا. إلا أن الغرب لم يكسب العالم كما اعتقد في البداية.
فقد امتنعت 47 دولة عن التصويت، بما فيها الهند والصين. ودعمت هذه الدول التي وصفت نفسها بـ”المحايدة” منذ ذلك الوقت، روسيا دبلوماسيا واقتصاديا. ورأت بعض الدول التي وافقت بداية على شجب روسيا، رأت في الحرب مشكلة لا تهمها، بل تهمّ آخرين، وتحركت باتجاه موقف أكثر “حيادية”. وبعد عام، بدا الوضع أكثر وضوحا. ففي الوقت الذي حافظ فيه الغرب على تماسكه، إلا أنه لم ينجح أبدا بإقناع بقية العالم في عزل روسيا.
وترى الصحيفة أن العالم لم ينقسم إلى شقين بل تشرذم. ففي المنتصف بين الشقين، هناك عدد كبير من الدول التي ترى في غزو روسيا بأنه مشكلة أوروبية وأمريكية في المقام الأول. وبدلا من التعامل معها كتهديد وجودي، ركزت هذه الدول على مصالحها وسط اضطرابات اقتصادية وجيوسياسية تسبب بها الغزو. ويعيد المشهد العام الحالي، دول الحياد في الحرب الباردة، لكن العالم بات اليوم أكثر ترابطية. وتقدم مساحة الاتصالات المعقدة والروابط الأمنية فرصا لمنافسي الغرب للاستفادة من الفرص، والحصول على نفوذ. وفي يوم الخميس، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على نفس القرار الذي يطالب بانسحاب روسيا، إلا أن الهند وجنوب أفريقيا وبقية دول الجنوب، واصلت امتناعها عن التصويت بشكل يؤكد نفورها مما تراه حربا غربية وتخص الغرب فقط. وفي البداية، شعرت الدول الغربية أن لديها الوسائل لتقويض اقتصاد روسيا وقدرتها على مواصلة الحرب.
فمع 37 دولة، قادت الولايات المتحدة تحالفا لتدمير الأسس المالية لروسيا، وتجميد أرصدتها في الخارج، للتوقف عن التعامل مع بنوكها الرئيسية. ومنعت العقوبات موسكو من استيراد قطع الغيار لمقاتلاتها، والمحركات الآلية للإلكترونيات. وتوقفت عدة شركات طوعا عن التعامل التجاري مع روسيا، بحيث تركتها بدون مبيعات، مثل شركة آبل ونتفليكس.
إلا أن العقوبات لم تكن مدمرة كما توقع الغرب، فقد ملأت حفنة من الدول الفراغ، وزادت من الصادرات لمعدلات أعلى من فترة ما قبل الحرب، بحسب بيانات جمعتها المنظمة غير الربحية في واشنطن “سيلفرادو بوليسي أكسيليرتر”. وعادت الدول التي خفّضت صادراتها بعد الحرب إلى زيادة الصادرات وغيّرت من مسارها. وملأت الصين وتركيا معظم الفراغ لوحدهما. وحلت عربات الركاب الصينية محل الإمدادات الأوربية السابقة. وصدرت الصين مزيدا من المعدات والمحركات الآلية. أما البضائع التي تنتجها شركات متعددة الجنسيات ولا يمكن إرسالها مباشرة إلى روسيا، فتصل السوق الروسي عبر الجمهوريات السابقة في الاتحاد السوفييتي.
ورغم بيع تركيا المعدات العسكرية لأوكرانيا، إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان، فتح الباب أمام تصدير البضائع لروسيا، بشكل فتح ثقبا في سد العقوبات الغربي. وقال أردوغان في أيلول/ سبتمبر: “طالما احتفظنا بسياسة متوازنة بين أوكرانيا وروسيا”، وذلك بعدما صوتت تركيا مع القرار الشاجب للغزو.
في المجمل، تضاعفت التجارة مع روسيا بعد الغزو، لأن دولا عبّرت عن استعداد للتجارة معها. وعلى المدى البعيد، ستترك العقوبات أثرها على اقتصاد روسيا، لأنها تمنع الاستثمارات الأجنبية وتفرغ خزينة الدولة. وأجبر تقييد صادرات النفط الروسي ووضع حد أعلى لسعره، موسكو على خفض الإنتاج، كما تستغرق عملية تكييف أنابيب الغاز باتجاه الأسواق الآسيوية سنوات. ورغم انتعاش الاقتصاد الروسي، إلا أنه قوي بما فيه الكفاية لدعم استمرار الحرب. وتوقع صندوق النقد الدولي الشهر الماضي، نموا لاقتصاد روسيا بنسبة 0.3% هذا العام، وهو تحسن مهم عن توقعاته السابقة بانكماشه بنسبة 2.3%.
وفي الوقت الذي زادت فيه الولايات المتحدة وأوروبا من حجم إمدادتها بالسلاح الفتاك إلى أوكرانيا، عملت على قطع خطوط الإنتاج العسكري الروسي وفرض قيود على الشركات ومنعها من تصدير التكنولوجيا المهمة للصناعة العسكرية الروسية. وساعدت الأسلحة على تقدم أوكرانيا ومنع انتصارات الجيش الروسي الأكبر حجما وعتادا. وقدمت حوالي 40 دولة أسلحة هجومية لأوكرانيا، أو دعما عسكريا من نوع ما. إلا أن جهود حرمان روسيا من المعدات العسكرية لم تكن ناجحة بقدر كبير. فقد عثرت على مساعدات من كوريا الشمالية التي شحنت “كميات كبيرة” من القنابل المدفعية إلى روسيا. وقدمت إيران مسيّرات قتالية انتحارية التي استخدمتها موسكو للهجوم على البنى التحتية المدنية في أوكرانيا. وواصلت الصين تزويد روسيا بمعدات قابلة للاستخدام المزدوج، مثل الرقائق الإلكترونية التي تصل إلى المعدات القتالية.
ويرى المحللون أن روسيا تواجه نقصا في المعدات الدقيقة، مثل صواريخ كروز التي تحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة. وتحدث الجنود الروس عن نقص في المناظير الليلية ومسيرات الرقابة على الجبهة.
والكثير من القادة حول العالم لا تعجبهم فكرة غزو بلد آخر، لكنهم لا يحبون أحدا يقف مع الولايات المتحدة. ففي أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط، هناك حكومات عدة تقيم علاقات قوية مع واشنطن، لكنها لا تتعامل مع الحرب الأوكرانية كتهديد عالمي.
وكان الرد على الغزو في آسيا غامضا، حيث رفضت ثلث دول القارة شجب روسيا في تصويت الجمعية العامة. في وقت تبع معظم حلفاء أمريكا خطّها، إلا أن روسيا استطاعت العثور على منفذ والاستفادة من العلاقات التجارية والمواقف العامة المؤيدة لروسيا وتعود إلى فترة الحرب الباردة. ومنذ بداية الحرب، ضغطت الولايات المتحدة على الهند لتخفيض مشتريات الأسلحة من روسيا، لكنها خففت اللهجة بسبب حياد الهند. ومع تزايد التوتر مع الصين، رأت الهند أنها لا تستطيع المخاطرة في علاقاتها العسكرية مع روسيا.
وصوتت دول الخليج العربية مع الغرب، لكنها حاولت الظهور بمظهر المحايد. وسافر رئيس الإمارات محمد بن زايد إلى روسيا واجتمع مع فلاديمير بوتين، وقال إنه يريد البحث عن حل سياسي. وعرض استقبال لاعبة كرة السلة الأمريكية بريتني غراينر بعد إطلاق سراحها من روسيا. وتحولت دبي، تحديدا، إلى مركز نشاطات الأوليغارش المؤيدين للكرملين حيث لا تطالهم العقوبات الغربية.
وقالت السعودية إنها تريد حماية مصالحها حتى لو أدى هذا لصدع في العلاقات الطويلة مع الولايات المتحدة. وغابت نصف الدول الأفريقية أو امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة، مما يؤشر لتردد هذه الدولة في قبول رواية أمريكا عن الخير والشر في أوكرانيا. واستطاعت روسيا الحصول على أصدقاء عبر الدعاية والقوة العسكرية، حيث عبرت عدة دول في أفريقيا عن رغبة في شراء الاسلحة الروسية واستئجار مرتزقتها. وبالنسبة لجنوب أفريقيا التي تلقى قادتها دعما من الاتحاد السوفييتي أثناء الكفاح ضد الفصل العنصري، فقد وجدت فرصة لملء الفراغ الذي خلفته أوروبا والولايات المتحدة، إلا أنها كانت حذرة بموازاة علاقتها مع موسكو باستمرار العلاقة مع الغرب.
وصوتت دول أمريكا اللاتينية إلى جانب جارتها في الشمال، إلا أن صدوعا بدأت تظهر في الأشهر الأخيرة. فقد رفضت كولومبيا طلبا أمريكيا لتزويد أوكرانيا بالسلاح. وعندما زار المستشار الألماني أولاف شولتس في الشهر الماضي، رفض الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا تقديم الدعم لأوكرانيا، وقال: “أعتقد أن هناك حاجة لتوضيح سبب الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا”.
وفي الوقت نفسه، أظهرت الدول الأوروبية دعما مثيرا للدهشة في الحرب، ولا تزال دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا داعمة للحرب. ويقود الناتو الذي وصفه إيمانويل ماكرون عام 2019 بـ”الميت دماغيا” جهود دعم أوكرانيا. ورغم مظهر الوحدة بين الدول الغربية، إلا أنها لم تكن تامة. فمن الناحية الفنية، فرضت هنغاريا عقوبات على روسيا، إلا أن رئيس وزرائها فيكتور أوربان ظل خارج السرب، وعطلت بلاده أو أخّرت الكثير من قرارات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالحرب. كما رفضت دول أخرى دعمت أوكرانيا بالسلاح، فرض عقوبات على روسيا.
ومع مضي عام على الحرب، فاستراتيجية روسيا واضحة: انتظار تعب الغرب. ويراهن بوتين على أثر الحرب في أوكرانيا على اقتصاد الدول الأوروبية بشكل يؤدي لتراجع الدعم. وستواصل الدول في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط “حيادها” وزيادة التجارة مع روسيا.
وربما أدى انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية العام المقبل للتعب والضغط على أوكرانيا من أجل التنازل لروسيا. وفي النهاية، فوحدة الغرب وعدد الدول التي تقف إلى جانبه، ستترك أثرها على نتيجة النزاع.
القدس العربي