ماكرون المرتبك يعلن نهاية عصر الهيمنة الفرنسية في أفريقيا

ماكرون المرتبك يعلن نهاية عصر الهيمنة الفرنسية في أفريقيا

خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الانسحاب من أفريقيا، ونهاية عصر فرنسا الأفريقية، خطاب تاريخي كونه ينقل فرنسا من وضع الإمبراطورية التاريخية إلى الدولة محدودة التأثير، ويفسح الطريق للقوى المتنافسة كي تضع يدها على بقايا النفوذ الفرنسي.

ليبرفيل – أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس في العاصمة الغابونية خطابا تاريخيا جرد فيه فرنسا من بعدها الإمبراطوري ونفوذها الذي استمر لأكثر من قرن في أفريقيا، وقدم بالمقابل صورة أخرى عن فرنسا جديدة بحجم أحلام رئيسها، لا تريد الصفوف الأمامية وترضى بالدور الثانوي.

وقال ماكرون إن عصر “فرنسا الأفريقية” قد انتهى وإن فرنسا صارت الآن “محاوراً محايداً” في القارة، وهو ما يوحي بأن فرنسا تستعيد السقوط الحر الذي قاد إمبراطوريات سابقة إلى خسارة نفوذها مثل قرار بريطانيا الانسحاب من محمياتها في عدن والجنوب العربي والخليج وشرق السويس بعد أن صارت عاجزة عن حمايتها، وهو الانسحاب الذي قصقص أجنحة بريطانيا وفتح الطريق لهيمنة الولايات المتحدة.

والأسباب التي قادت بريطانيا إلى الانسحاب من محميّاتها هي نفسها التي تقود فرنسا الآن إلى الانسحاب من مواقع نفوذها القديمة والانكفاء على نفسها، وهي العجز عن الإيفاء بالالتزامات الدفاعية والمالية والدبلوماسية تجاه المناطق التي احتلتها لعقود، وبروز أجيال جديدة في تلك المناطق والمحميات تبحث عن التحرر.

خطاب ماكرون وجه دعوة خفية للدول الأفريقية للبحث عن حلفاء آخرين يمكن أن يؤمّنوا لها ما باتت فرنسا عاجزة عنه

ويمكن، كذلك، مقارنة قرار ماكرون بالقطيعة مع فرنسا التاريخية ببيريسترويكا الرئيس السوفياتي الأخيرة ميخائيل غورباتشوف (1990 و1991) التي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفياتي تحت عنوان إعادة الهيكلة.

ويأتي خطاب الرئيس الفرنسي الخميس بمثابة إعلان عن نهاية عصر الهيمنة الفرنسية على أفريقيا، وفيه دعوة خفية لدول القارة إلى البحث عن حلفاء آخرين يمكن أن يؤمّنوا لهم ما باتت فرنسا عاجزة عنه أو غير راغبة في الاستمرار به، وهو الحماية الأمنية في مواجهة الجماعات الجهادية.

وقال ماكرون أمام الجالية الفرنسية في الغابون “انتهى عصر فرنسا الأفريقية هذا وأحيانًا يتكون لديّ شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا نفسها عندما أقرأ وأسمع وأرى أنه ما زالت تُنسب إلى فرنسا نوايا ليست لديها، لم تعد لديها”.

وأضاف “يبدو أيضًا أنه ما زال مُتوقعًا منها (أن تتخذ) مواقف ترفض اتخاذها وأنا أؤيد ذلك تمامًا. في الغابون كما في أيّ مكان آخر، فرنسا محاور محايد يتحدث إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في المنازعات السياسية الداخلية”.

ولا يعرف بالضبط ماذا يريد الرئيس الفرنسي من الدول الأفريقية، فهناك إشارات إلى أن باريس لم تعد قادرة على لعب دور الدول الحامية لأمن أفريقيا، وأن على هذه الدول أن تتصرف لحماية نفسها، وهذا يعني تشجيعا لها على البحث عن بدائل مثل الصين وروسيا، وهو ما يدفع إلى التساؤل لماذا تحمل فرنسا على الدور الروسي في أفريقيا وعلى مجموعة فاغنر إذا كانت هي نفسها قد تخلت عن مهمتها التقليدية في حماية مجالها الحيوي.

ووجه ماكرون رسالة إلى من يطالبون بلاده بالتدخل لصالحهم لتثبيت نفوذهم في السلطة بأن “فرنسا محايدة”، أي أنها لن تتولى في المستقبل الإطاحة بهذا وتنصيب ذاك كما كانت توجّه لها التهم من قبل، وهذا اعتراف بأن “فرنسا الجديدة” لم تعد قادرة على إدارة أزمات القارة والتأثير فيها وقطع الطريق على صعود حكام موالين لواشنطن أو موسكو، وهذا قد يُفهم على أنه تشجيع للحكام الجدد في أفريقيا بأن يراهنوا على من يدعمهم بعيدا عن باريس، وهو ما فهمه حكام تشاد ومالي وبوركينافاسو مبكرا.

وألقت فرنسا بنفوذها التاريخي في أفريقيا أمام العاصفة حين قررت الانسحاب من الحرب على الجماعات الجهادية وطلبت من الجيوش المحلية أن تتولى المهمة دون أيّ تدريبات كافية. ومن شأن هذه الإستراتيجية القائمة على الهروب من الصفوف الأمامية أن تدفع مصالح باريس إلى الصفوف الخلفية في ظل التنافس الكبير مع الدول الثلاث.

وعبر عن هذا المسار أحد مستشاري ماكرون حين قال “نخرج من مرحلة كانت فرنسا مضطرة فيها إلى أن تكون في الصفوف الأمامية”، متحدثا عن مرحلة جديدة الآن تقف فيها باريس “في الخط الخلفي”، أي المساعدة بالخطط والخبرات العسكرية في الحرب من دون أيّ دور ميداني مباشر للقوات الفرنسية.

الارتباك الفرنسي فتح الطريق أمام التدخلات الخارجية لملء الفراغ، من روسيا إلى الولايات المتحدة، خاصة أن حكومة ماكرون لا تقدر على منح الأفارقة ما تقدمه الصين ماليا وتكنولوجيا وروسيا أمنيا.

الأسباب التي قادت بريطانيا إلى الانسحاب من محميّاتها هي نفسها التي تقود فرنسا الآن إلى الانسحاب من مواقع نفوذها القديمة والانكفاء على نفسها

وقد ساهمت الحرب على الإرهاب في إظهار اختلاف المصالح بين واشنطن وباريس، خاصة مع فشل فرنسا في إنهاء “التمرد” في مالي والاتساع السريع في أنشطة التنظيمات المتشددة لتشمل دولا أخرى وبأشكال أكثر دموية وعنفا، ما أظهر فرنسا في صورة الدولة العاجزة وأعطى مشروعية لدور أكبر أمام الولايات المتحدة التي باتت تقدم قواتها الخاصة بأفريقيا “أفريكوم” كحلّ سحري للحرب على الإرهاب، وتتحرك لبناء تفاهمات واتفاقيات طويلة المدى تؤمّن نشاط هذه الوحدة.

ويقول مراقبون إن كلام ماكرون يعبّر عن حقيقة التراجع الفرنسي دوليا. وهناك ملفات كثيرة عجزت فيها باريس عن التأثير بدءا من شمال أفريقيا الذي يمكن وصفه بأنه فناؤها الخلفي، مرورا بغرب القارة ووسطها، وصولا إلى ملفات أخرى بات تأثير فرنسا لا يتجاوز فيها مجرد التصريحات.

في شمال أفريقيا، لا يبدو أن باريس تمتلك أوراق نفوذ غير تأثيرها الثقافي واللغوي ووجود طبقة من المثقفين والسياسيين تدافع عن بقاء اللغة الفرنسية بالرغم من توسع دائرة المطالبين باستبدالها باللغة الإنجليزية في التعليم والإدارة والمراسلات الخارجية.

ولم تقدر دبلوماسية ماكرون المرتبكة على اختيار الصف الذي تقف فيه هل تكون مع المغرب أم الجزائر؟

المغرب يقول إن مقياس أيّ شراكة معه يقوم على الاعتراف بمقاربته لحل أزمة الصحراء، وهي مقاربة اتسعت قائمة داعميها في أوروبا من إسبانيا وألمانيا والنمسا، وكذلك الدعم الأميركي الوازن. أما الجزائر، فتفتح مع ماكرون معارك التاريخ وتريد الاعتذار والتعويض، وهو ما يتهرّب منه ماكرون، وليس مستبعدا أن تقود سياسة التبرؤ من الماضي بالرئيس الفرنسي إلى الاعتذار العلني.

وكلما اقترب ماكرون ابتعد النظام الجزائري الذي بات يفهم أن القيادة الفرنسية الحالية ضعيفة، ولذلك لا يتوقف هذا النظام عن الضغط في مسعى لإظهار أنه قويّ في وجه باريس.

ولأن الرئيس الفرنسي لا يستطيع أن يحسم أمره، فقد جاء كلامه في قصر الإيليزيه قبل جولته الأفريقية مرتبكا، إذ قال إنه سيواصل “المضيّ قدما” لتعزيز علاقة فرنسا بالجزائر والمغرب، بعيدا من “الجدل” الراهن، في إشارة إلى الانتقادات الموجهة لبلاده من المغرب والجزائر.

وقال ماكرون خلال مؤتمر صحفي تناول فيه إستراتيجيته في أفريقيا “سنمضي قدما. المرحلة ليست الأفضل لكن هذا الأمر لن يوقفني”، منتقدا من “يحاولون المضيّ في مغامراتهم” ولديهم “مصلحة بألا يتم التوصل” إلى مصالحة مع الجزائر.

وللخروج من هذه الوضعية الملتبسة، كان ماكرون يراهن على الرئيس الجزائري للخروج من الورطة، حيث قال “أعلم أنه يمكنني الاعتماد على صداقة الرئيس (الجزائري عبدالمجيد) تبون والتزامه. سنحرز تقدما معه أيضا”.

واستدعت الجزائر سفيرها لدى فرنسا “للتشاور” في 8 فبراير للاحتجاج على “الدخول غير القانوني” عبر تونس للناشطة الفرنسية الجزائرية أميرة بوراوي.
وأضاف “هناك دائما أشخاص يحاولون أن يستغلوا الظروف، مثل فضائح التنصت في البرلمان الأوروبي التي كشفتها الصحافة”، وهذا الكلام لتبرئة فرنسا من أي دور في “التآمر” على المغرب بعد حملة في البرلمان الأوروبي ضد الرباط.

وكانت حالة الارتباك في الموقف الفرنسي من الجزائر والمغرب هي نفسها في الموقف من ليبيا، حيث ركزت باريس على إستراتيجية التحرك من الخلف لتنفيذ أجندتها بالرهان على حلف عربي داعم لقائد الجيش خليفة حفتر، لكن مع تغير الواقع وتوسع دائرة المصالحات العربية – الإقليمية لتشمل الملف الليبي وجدت باريس نفسها في التسلل، وأصبحت تكتفي بالمراقبة.

كما قادت إستراتيجية التحرك من الخلف فرنسا إلى خسارة تأثيرها في ملفات أخرى مثل لبنان، الذي مثل موقع نفوذ ثقافي وتاريخي لفرنسا، حيث خسرت باريس تأثيرها لفائدة إيران وفشلت خطتها في اللعب على التناقضات بأن توحي لحزب الله وحليفه المسيحي أنها في صفهما، وفي نفس الوقت الرهان على السعودية لتأمين الدعم المالي السخي لتجديد ما خربته الطبقة السياسية، وإشعار اللبنانيين أن فرنسا هي من أمّنت وصول هذا الدعم.

ولا يعرف إن كانت الإستراتيجية الجديدة التي تقوم على الانسحاب من الميدان وتركه للمنافسين الدوليين ستحل مشاكل فرنسا وتجلب لها شراكات قائمة على الندية، بحيث تربح اقتصاديا من دون أيّ التزام أمني وإستراتيجي تجاه الشركاء خاصة في أفريقيا.

العرب