زار وزير الخارجية الصيني السابق وانغ يي وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني موسكو أخيراً والتقى بالرئيس فلاديمير بوتين، وألقى وزير الخارجية الحالي تشين غانغ كلمة أمام مؤتمر عن الأمن الدولي في بكين الذي شاركت فيه بكلمة مسجلة. وتحدث كلاهما عن النظرة الصينية إلى الأمن الدولي، وبشكل مباشر وغير مباشر، طرحا عناصر ومبادئ يجب الالتزام بها في التعامل الدولي بالقرن الـ21 وتضمنت الكلمتان عناصر مشتركة كثيرة.
وحملت تلك العناصر رسائل مختلفة إلى الجانبين الروسي والغربي، ورسائل أخرى إلى المجتمع الدولي، بخاصة الدول النامية، ورسائل خاصة بالأسلحة الاستراتيجية عامة، وعكست تغيراً في المواءمات والممارسات السياسية الصينية وحملت دلالات مهمة للمنظور الصيني للنظام الدولي المعاصر.
وأولى تلك الملاحظات أن الحال الأوكرانية وأخطارها وتداعياتها، وصلت وأصبحت من الخطورة والكلفة التي تدفع بعضهم إلى جس النبض وطرح أفكار ومبادرات لوقف العمليات العسكرية أو ضبطها وتخفيض حدة التصادم. وهناك أخبار غير موثقة عن طرح من مدير وكالة الاستخبارات الأميركية لم يحظ باستحسان الجانب الأوكراني، بل رفض بشكل غير مباشر. وهناك أفكار طرحت من وزير الخارجية الأميركي السابق كيسينجر نالت رفضاً أوكرانياً أقوى، ثم طرح الجانب الصيني أفكاره بشكل علني ولم يعتد القيام بمثل هذه الخطوات، مما يعكس تقديره لخطورة الموقف أو بدء ظهور مزيد من الاستعداد لدى الأطراف للبحث عن سبيل الخروج من المأزق الحالي.
والملاحظة الثانية والمهمة كذلك أن الطرح الصيني يعكس ثقة متزايدة للمنظومة السياسية الصينية ومؤشراً إلى عزمها ممارسة الدبلوماسية بشكل أكثر وضوحاً وقوة، مما يتماشى مع خطاب الرئيس الصيني في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير الذي أثار انتباه كثيرين، وما تلاه من تصريحات قوية وأحياناً حادة من متحدثي وزارة الخارجية الصينية، رداً على أي انتقادات من الولايات المتحدة. ولعلنا نتذكر أيضاً كلمة الرئيس الصيني أمام مؤتمر دافوس عندما أعلن استعداد بلاده للقيام بدور ريادي في إصلاح النظام الدولي الاقتصادي في عصر العولمة.
ومن الملاحظات المهمة أيضاً أن الطرح الصيني كان في شكل مبادئ وعناصر عامة، وليس خطة سلام تفصيلية وتنفيذية للأزمة الأوكرانية، ووجه إلى أطراف عدة في الوقت نفسه، مما يتماشى مع الدعوة الصينية الجديدة إلى بلورة منظومة أمنية دولية شاملة ومستدامة، كما يعكس أيضاً تفهماً صينياً بأن انتشاره الدولي يفرض عليه مخاطبة مختلف دول العالم وليس فقط الدول العظمى.
القراءة الدقيقة للطرح الصيني الجديد رصدت 12 نقطة، كل منها محسوبة بدقة وموجهة، وإن تجنبت الإشارة بالاسم إلى أي طرف من الأطراف. وأولى تلك النقاط كانت ضرورة “احترام سيادة الدول” وهي رسالة موجهة بشكل رئيس إلى روسيا باعتبار أنها هاجمت الأراضي الأوكرانية.
النقطة الثانية كانت الدعوة إلى “ترك مفاهيم الحرب الباردة” التي هي أساساً توازن القوة بين القطبين بالمفهوم العسكري، وكذلك تفاهمات غير رسمية حول “مناطق نفوذ” تحترم من الغير، وهنا الرسالة موجهة إلى الجانبين الأميركي والروسي، فالأزمة الأوكرانية هي من أعراض تلك المفاهيم والتفاهمات والخلل الذي شهده توازن القوة في الربع الأخير من القرن الماضي.
وتلي ذلك نقطة تدعو إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا موجهة إلى الأطراف المتصارعة بأن صدامهم ليس له حل عسكري يخرج فيه أي منهم منتصراً، وأن كليهما لا يمكن أن يقبلا بالهزيمة وأن استمرار العنف لن يرجح طرفاً على الآخر وأن استمراره لن يحقق شيئاً إلا المزيد من الخسائر للكل.
ودعت الصين إلى بدء مفاوضات سلام بين الأطراف المتصارعة، وهي دعوة مهمة وتفتح الباب للتفكير في سبل الخروج من الأزمة، على رغم أنه من غير المتوقع استجابة سريعة لهذه الدعوة.
ودعت كذلك إلى التعامل مع الأزمة الإنسانية المرتبطة بالحال الأوكرانية، وهي رسالة إيجابية إلى الطرف الأوكراني في الأساس وإنما ليس حصرياً، وهو ما يسهم في إظهار قدر من التوازن في الطرح الصيني.
كما دعت إلى ضرورة حماية المدنيين وأسرى الحرب، مما يخدم الجانبين ويدعم صورة الصين كطرف يحترم القانون الدولي، بما في ذلك قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني.
وأعلنت الصين رفضها التعرض للمرافق النووية وطالبت بحمايتها، وكذلك رأت ضرورة تخفيض احتمالات الصدامات الاستراتيجية، مؤكدة على ضرورة عدم استخدامها أو شن الحرب النووية، كما سجلت معارضتها لتطوير أسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية. وهذه رسائل موجهة إلى جميع الأطراف بعد التراشق الإعلامي بين المسؤولين الروس والأميركيين.
وأكدت الصين أهمية استمرار ترتيبات توفير القمح عبر البحر الأسود، وهي رسالة إلى العالم النامي بشكل خاص.
كما طالبت بكين بضرورة وقف العقوبات الأحادية، وهي رسالة ناقدة إلى واشنطن تحديداً التي لجأت إلى ذلك مراراً، لا سيما أن النظام المالي التجاري الدولي متمحور حول الدولار الأميركي، مما يسهل على الولايات المتحدة التأثير فيه والسيطرة عليه، وهو ما تخشى الصين أن تتعرض له مستقبلاً.
وطالبت بالحفاظ على النظام الدولي الاقتصادي والتجاري، تحديداً سلاسل الإمداد الصناعية بشكل خاص، وهي رسالة إيجابية للجميع، ستفسر على أنها مؤشر إلى حكمة المواقف الصينية وتوازنها.
وفي التوجه الإيجابي الحكيم نفسه، طالبت الصين بضرورة الاستعداد لتوفير موارد كافية لإعادة البناء والاستقرار بعد انتهاء النزاع وأكدت أنها على استعداد للإسهام في هذا الجهد بإيجابية.
لا أتوقع إنهاء النزاع في أوكرانيا سريعاً، وأرجح أن يمر أولاً بمرحلة تصعيد عسكري مع نهاية الشتاء مروراً بالربيع وجزء من الصيف، والأطراف تحاول تدعيم مراكزها قبل أن تواجه مرحلة طرح مبادرات وأفكار لا تحقق النتيجة المرجوة، وهي مرحلة جس النبض بين الأطراف، تعقبها مرحلة ربما تطول لتحقيق تهدئة تدريجية للساحة العسكرية، أو بمعنى آخر مرحلة ممتدة من المواجهة المحكومة الممتدة، قبل الوصول تدريجاً إلى تفاهمات ضمنية بين الأطراف، لعل ذلك يمهد الطريق نحو اتفاق قانوني في ما بينها، وإن كنت أرجح أن تطول هذه المراحل كافة، وربما تنتهي بتفاهمات ضمنية لا تتحول إلى اتفاقات قانونية بين الأطراف.
هذا الطرح الصيني له أهميته لأنه قد يكون مؤشراً إلى بداية مرحلة جديدة في النزاع الأوكراني، وإنما أهميته الرئيسة تقع في أنه مؤشر إلى ممارسة دبلوماسية صينية متجددة تؤثر في تشكيل النظام الدولي الجديد الذي يشكل الآن.
اندبندت عربي