يواجه المجتمع العراقي تراكمات من البنى التقليدية تتنوع ما بين الأسريّة والقبلية والعشائرية والطائفية والإثنية، أثرت في أنماطها وسلوكياتها جميعاً في مسيرة البلاد على رغم مساعي المجتمع المدني والحضاري في ولاء الشعب إلى فكرة الدولة لا العشيرة على مدى 100 عام من عمر الدولة العراقيةالحديثة.
100 عام حافلة بالأحداث والتفاعلات في المعطى العراقي مضت، لكن ذلك الجهد المضني اصطدم بثقافات فرعية لا تستسيغ، إن لم نقل تقبل، سطوة الدولة المؤطرة بالقانون والدساتير المتعاقبة، فالقانون الذي وصفه أحد الرؤساء بأنه “مجرد جرة قلم”، بمعنى أنه نتاج أفعال السلطة الحاكمة وليس نتاج توافق الشعب على ضرورته ومسوغاته، بل وحتى الدساتير وصفها مشرعوها السلطويون بأنها “موقتة”.
واقع العشائر التي صارت بديلاً عن الدولة هو نتاج تحكم قوى غير مؤسسية في البلاد، مما شكل ظاهرة يصفها الباحث سلمان رشيد الهلالي بـ “ظاهرة التمركز الإثني والمذهبي والقبلي” الذي هو “ميل الفرد إلى تفضيل جماعته على نظائرها الأخرى من دون سبب عقلاني أو موضوعي، بمعنى أن الفرد ينظر باستعلاء ودونية إلى الجماعات والعشائر المناظرة، ويعد قيمها وتاريخها ورموزها وأنماط حياتها نوعاً من البدائية والتخلف والسذاجة”.
تحديات الدولة
من هنا تعد العشيرة والقبيلة في العراق من أهم القوى البدائية التقليدية التي شكلت عائقاً رئيساً أمام مشروع حداثة الدولة الذي عملت على فرضه النخب المجتمعية المتمثلة في المفكرين والمثقفين التنويريين والساسة المتعلمين والحركات الفكرية وقوى المجتمع المدني والأحزاب.
ويجمع كثير من الباحثين العراقيين على اختلاف انتماءاتهم القبلية والعشائرية على أن الطبقات الحاكمة في بداية تأسيس الحكم الملكي مروراً بالعهد الجمهوري الأول (1921- 1963) تخطت في الحكم خصوصية المجتمع العراقي الذي تحكمه قيم العشيرة والنسب والمناطقية، حين سعت إلى عصرنة الدولة وقيامها على النظام المؤسسي ووضع البلاد في قالب الدول الغربية التي لا تلقي بالاً للعشيرة والقبيلة، فيأتي تمثيل حكومي أو يكون لها صوت في الحكم.
ويشيرون إلى تجربة مجلس الأعيان إبان النظام الملكي الذي شرّع كياناً شكلياً لتمثيل المجتمع العشائري بدفع من البريطانيين الذين كان لديهم مندوب سام على الدولة الملكية.
وجاء النظام الجمهوري وزاد شقة القطيعة والخلاف مع شيوخ العشائر من الإقطاعيين الملاك بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وأعقبة بإصدار “قانون ثمانين” الذي وضع حداً لصلاحية شركات النفط والذي يمثل نتاجاً لمرحلة استعمار البلاد، بحسب وصف بعض العراقيين، ودخل العراق في حقبة جديدة ملتبسة وعلاقات دولية مختلفة عن العقود الأربعة السابقة حين كان تحت المظلة البريطانية التي تأسست الدولة تحت رعايتها وثبتت دعامها.
وسعينا إلى عقد مقارنات في الرؤى مع باحثين ومتخصصين تناولوا معادلة الصراع بين الدولة والعشيرة والأحزاب التي عملت على حقبتين، الأولى من الحقبة الملكية التي سادت مطلع القرن الماضي وحتى قيام انقلاب أو ثورة يوليو (تموز) 1958 التي تعد مرحلة بناء الدولة العراقية الحديثة، وانتقال الحكم من العثمانيين إلى العراقيين بمؤازرة بريطانية، واكتشف خلالها النفط وبدأ ثراء الدولة وبناء مؤسساتها، ومن ثم التحولات التي رافقت العهد الجمهوري وتصاعد الصراع على السلطة وظاهرة الانقلابات والاغتيالات التي تورطت فيها الأحزاب والعشائر على حد سواء.
صراع أم تكامل؟
ويرى الباحث المتخصص في تاريخ العراق الحديث غسان العطية أن ” علاقة العشائر بالدولة العراقية منذ تأسيس الدولة رسمياً عام 1921 أمر جوهري، وكان نتيجة الحرب العالمية الأولى وما تبعها من سيطرة المملكة المتحدة على العراق بشكل انتداب، فيما العشائر العراقية لم تأخذ موقفاً معادياً للدولة العثمانية، بل كان مفاد العلاقة بينهما أن الأخيرة تتركهم لشأنهم، وفي حال قيام اضطرابات عشائرية ترسل حملات عسكرية لضبط الأمور في تلك المناطق”.
ويضيف العطية أنه “إبان الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق كان موقف العشائر من منطلق ذاتي لحماية ذويهم، فعندما تقدم البريطانيون من تجاه دجلة نحو بغداد وقريباً من الكويت، كانت العشائر خصوصا عشيرة بني لام متحالفة مع الإنجليز، ولكن عند انتكاستهم وفشل الجنرال تاوزن في النيل من الأتراك تحول موقف العشائر إلى النقيض فانقلبوا من صف الحلفاء إلى الأعداء”.
وتابع، “بعد الاحتلال تغير كثير من الإجراءات البريطانية نتيجة الضغط الاقتصادي مما دفع الإدارة البريطانية في العراق إلى فرض ضرائب على المناطق العشائرية، وهو ما استاء منه أبناء العشائر وكان أحد عوامل التمرد على الدولة العثمانية سابقاً”.
سطوة الريف على المدن
خلق تطبيق البريطانيين نظام الضرائب على المجتمع العراقي وهو تحت الانتداب تمرداً جديداً على السلطات البريطانية، إذ ذكرهم بمعاناتهم من سطوة الدولة العثمانية التي كانت تفرض الضرائب والإتاوات التي يفرضها الولاة قبيل إزاحتهم.
ويضيف الباحث، “كانت العشائرية للمجتمع العراقي في مطلع القرن الـ 20 طاغية، فأكثر من 70 في المئة هم أبناء الريف وعشائرهم، أما أبناء المدن فلم يزيدوا على ما بين 20 و25 في المئة، ولم يكن أبناء المدن آنذاك من فئة واحدة، فالجالية اليهودية كانت أكبر جالية في بغداد مقارنة بالشيعة والسنّة والمسيحيين، وعليه فإن المدينة كانت في العهد العثماني هي التي تحتمي بالدولة العثمانية وتحميها العشائر، لكن بمجيء البريطانيين تحول دور المدينة إلى قاعدة أساسية للحكم البريطاني، فكثير من أبناء المدن هم الذين يتولون المناصب وفي بغداد وفي الحكومة الموقتة، أما العشائر فلم يكن لهم دور كبير”.
ويضيف، “أحداث الهياج الشعبي الذي قادته العشائر وما تعارف عليه المؤرخون العراقيون بـ ’ثورة العشرين‘ كان لها أثر في تعامل الإنجليز معهم ومع عموم المجتمع”، و يوضح أن “’ثورة العشرين‘ تمرد عشائري في الفرات الأوسط نتج من الضغط البريطاني، مما دفع العشائر إلى التمرد على الإنجليز بدوافع كانت في الأساس اقتصادية، وهي الاعتراض على فرض الضرائب، إضافة إلى نظيرتها الدينية والوطنية، وصحيح أن الثورة قمعت عسكرياً ولكن الذي حصل أن الفضل يرجع إليها في تغيير سياسة بريطانيا في العراق، فقد كانت الأولى تعتزم حكم الأخير على طريقة مستعمراتها في الهند، وحين عقد ’مؤتمر لندن‘ بحضور عراقيين وبرئاسة تشرشل تقرر اعتماد نهج مغاير لما يحدث في الهند، وبالتالي كان ذلك بداية التحول، وأسهمت أيضاً في تحول السياسة البريطانية من الحكم المباشر على طريقة ما كان يدعو إليه الحاكم العسكري في بغداد أيدي ولسن إلى اتجاه اعتماد وجوه عربية وفتح المجال لتنصيب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق”.
لوائح مدحت باشا
من جانبه أرجع الباحث مؤيد الونداوي تمدد صلاحيات الشيوخ وبسط نفوذهم في العراق إلى السياسة التي اتبعها الوالي العثماني المصلح مدحت باشا،
ويقول إن ” مكانة شيخ العشيرة في تاريخ العراق الحديث خرجت إلى الواقع مع إصلاحات الوالي العثماني مدحت باشا في شأن موضوع نظام الأراضي، فالشيخ تاريخياً كان جزءاً من المكون العشائري، لكن مع إصلاحات الوالي العثماني بدأ يسجل مساحات واسعة من الأرض المملوكة للدولة على أنها أراض تسمى بأميرية ممنوحة بنظام ما يسمى ’اللزمة‘ وتسجل باسم شيخ العشيرة، وبرزت فئة من الشيوخ مالكين للأرض وأصبح أفراد العشيرة مأجورين لديه”.
ويوضح، “من هنا تبلورت أكثر مكانة الشيخ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وأصبح هو الذي يحدد ويقرر وضع العشيرة وعلاقاتها ومتى يمكن أن يستخدمها لزعزعة الأمن أو تحقيق مصلحتها الزراعية وملكية الحيوانات، كما بدأت فكرة تعارض الإمكانات الاقتصادية للعشيرة مع الدولة، فاستنّت الأخيرة فرض الضريبة عليها وهو ما تهربت منه العشائر، وهذه إحدى أسباب سوء العلاقة بينها وبين الحاكم العثماني سابقاً وحتى الحاكم الإنجليزي في ما بعد، والعشيرة أيضاً كانت ترفض الخضوع التام للدولة في كل شيء لأنها في محيطات عشائرية مختلفة، وهذه المحيطات تتناغم بينها في ما يتعلق بمصالحها المشتركة في إطار التحالفات العشائرية”.
ويتابع، “لكن على رغم القوانين التي سنها الوالي العثماني مدحت باشا خلال فترة حكمه منتصف القرن الـ 19 في محاولة لتوطين العشائر، فإنها سرعان ما كانت تثور على الحكم وتهاجم الحاكم لأسباب شتى ظلت مثار قلق حكام العراق المتعاقبين مهما تعددت مشاربهم”.
الاضطرابات العشائرية
ويذكر الونداوي أن “تاريخ الاضطرابات العشائرية في العراق استمر سنين، فالعشائر تثور وتخرق الأمن والجيش يُرسل ليضع حداً لثورتها، وسابقاً كان الإنجليز يتولون إخماد هذه الثورات ثم تولى الجيش العراقي هذه المهمة حتى انتهت الاضطرابات العشائرية تماماً عام 1936، وبعد هذا التاريخ لم نشهد كثيراً منها بالمعنى الدقيق للكلمة، إذا ما استثنينا العشيرة الكردية من وقت لآخر، وهذه قضية لها مكانها الخاص”.
ويضيف، “كانت نهاية الثورات العشائرية بعد بروز قوة وتنظيم الجيش الذي أدى إلى إدراك العشائر أن أي اضطرابات وزعزعة للأمن لن تستمر والحكومة عازمة على إنهائها، لذلك فإن هذه الاضطرابات استمرت طوال العهد العثماني ثم البريطانيين وحتى النظام الملكي الذي واجهها، وأشهرها اضطرابات عام 1936 التي كان لها مغزى سياسي، وهو موضوع مشاركة الشيعة في السلطة”.
ويوضح، “خلال حقبة الحكم الملكي والانتداب البريطاني بعد إزاحة العثمانيين وجلائهم سادت علاقة جديدة ومتنامية بين العشائر الطامحة للمشاركة في الحكم ونيل المكاسب وانتزاع الدعم الحكومي من رجال الحكم الملكي ذوي الثقافة التنويرية الأرستقراطية والطامحين إلى بناء دولة على النمط الغربي”.
ويصف الباحث الونداوي تلك الأدوار بين العشائر ورجال الحكم الملكي الممسوكين بالانتداب البريطاني بقوله، “السياسيون أجادوا تحسين علاقتهم مع شيوخ العشائر لأنهم يدركون في ما مضى أن العشيرة اذا أحدثت اضطرابات في الوضع الأمني فسيُرسل الجيش، وهذا سيضع المنظومة السياسية الحاكمة أو الحكومة ورئاستها في وضع صعب، لذا آثر السياسيون كسب ودهم درأً لفتنة الاضطرابات”.
ويتابع، “بدأ الجيش يصبح أداة سياسية لدى قادة الأحزاب لغرض السيطرة والهيمنة على الحكم، لكنه أدرك أنه لا يجب أن يكون أداة سياسية بيد الأحزاب فأخذ يمارس السياسة، ويتجلى ذلك في انقلاب بكر صدقي عام 1936 عندما تفاعل مع قادة سياسيين وأثاروا أول انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة ليضع نهاية لاستخدام الجيش في السياسة من قبل السياسيين، وكانت قضية إثارة العشائر ضد الحكومة إحدى الأساليب التي استخدمها حكمت سليمان كما استخدمها ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني للوصول إلى السلطة”.
ويتابع، “دخلت القوى السياسية طرفاً مؤثراً في لعبة الشد والجذب بين الجهاز الحكومي العراقي والعشائر التي كانت تتعامل بنفعية مع الدولة، ومع تأسس الأحزاب مطلع ثلاثينيات القرن الماضي باتت طرفاً ثالثاً في معادلة الحكم بالدولة العراقية التي لم تنته حتى الآن بنظام سياسي واضح المعالم وثابت الركائز وظل حكماً تجريباً”.
ويضف الأكاديمي المتخصص في العلوم السياسية نديم الجابري أن العلاقة بين الأحزاب السياسية والعشائر في العراق “مركبة يحاول كل طرف فيها أن يوظف الآخر لمصلحته، لذلك نلاحظ أن بعض الرموز العشائرية تحاول التقرب من الأحزاب الحاكمة إما من طريق الانتماء أو الولاء لتعزير مكانتها الاجتماعية، وكذلك تسعى الأحزاب إلى كسب ود العشائر لأسباب انتخابية تارة وأمنية أخرى”.
ويضيف الجابري، “هذا التشابك المركب في العلاقة أفضى إلى إفراغ الدولة المدنية من محتواها وأضعف وحدة العشائر، لأن كثيراً من أفرادها توزعوا بين الأحزاب انتماء أو موالاة، لكن الرابح الأساس من هذه العلاقة هو الأحزاب الحاكمة لأنها تضمن عدم خروج العشائر عليها من جهة، كما أنها تضمن أصواتاً في أية انتخابات تجرى من أخرى”.
فيما أرجع الأكاديمي المتخصص والسفير العراقي السابق مناف العلي اهتمام الدولة بموضوع العشائر إبان الحكم الملكي وتأسيس الدولة إلى إدراك خطورة دورها وإمكان تحريكها من قوى داخلية وجهات خارجية أيضاً، ويقول “اضطر الملك فيصل الأول إلى الاهتمام بالعشائر على رغم معرفته بتأثيرها السلبي في المجتمع عندما سئل عن سبب ذلك حتى تقلصت سطوة العشائر، فأجاب بأن لدى الدولة 1000 بندقية ولدى العشائر 10 آلاف، إذ كان الجيش العراقي في بداية تكوينه وقُلصت سطوة العشائر بعض الشيء في العهد الملكي، ولكن استمر دورها بالتأثير في الانتخابات النيابية بعد قيام النظام الجمهوري عام 1958، وتقلص أكثر بعد إلغاء قانون دعاوى العشائر إذ ظل محدوداً بعد تسلم العسكريين السلطة في العراق، لكنه لا يخلو من الاهتمام من المشيخات لضمان عدم وقوفهم ضد السلطة القائمة”.
واستمر هذا الوضع الملتبس بين سلطات ثلاث تتصارع، وقد تتقاتل طوال ما يقرب من 100 عام منذ حرك الوالي مدحت باشا قانون ملكية الأرض عام 1869 وأخرج الإنجليزُ الأتراكَ بعد الحرب العالمية الأولى حتى تسلم الجيش السلطة والحكم في انقلاب دموي، ثم دخلت الأحزاب في معادلة الحكم”.
اندبندت عربي