مع دخول الصراع في سوريا عامه الثالث عشر، اختار بشار الأسد، رئيس «الجمهورية العربية السورية» أن يغادر دمشق إلى موسكو، لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يقلّب لقاء الأسد هذا، والتاريخ الذي اختاره، والصفة التي يتحدث باسمها، والشخص الذي يلتقيه، مواجع السوريين، سواء منهم الذين بقيوا تحت حكمه، وصاروا بفضل سياساته من أفقر الشعوب في العالم، أو الموجودون خارج سيطرته في الشمال والشمال الشرقي للبلاد، والذين ما زال يستهدفهم، من حين لآخر، بالقصف، والتهديد والاغتيالات، أو اللاجئون في دول الجوار، الذين يعانون أشكال العنصرية والانتهاكات والفاقة، وفوقها توعد سلطات تلك البلدان بإعادتهم بالقوة إلى كنف النظام الذي فرّوا منه.
ما تزال الدولة التي يحمل الأسد لقب رئاستها عضوا ممثلا في الأمم المتحدة، لكنها بسببه، صارت أقل بكثير من دولة، مع انقسام البلاد إلى ثلاث حكومات، ومع فقدانها سلطته فقدت شرعية تمثيل السوريين بعد أن قتلت أكثر من نصف مليون منهم وهجّرت قرابة نصفهم.
تآكل، بفضل الأسد أيضا، معنى الجمهورية، مع فرض الطغمة الأمنية ـ العسكرية الحاكمة توريثه منصب الرئاسة بعد وفاة أبيه فصار النظام السياسي خلطة هجينة بين الملكية والجمهورية.
رفض الأسد الوساطات العربية بعد الانتفاضة الشعبية عليه، واستنجد بقوات وميليشيات إيران وروسيا، مما همش بشدة الوزن العربي للبلاد، وأتم عزلها عن محيطها العربي والإقليمي والدولي.
استلم بوتين والأسد منصبي الرئاسة في روسيا وسوريا في العام نفسه، وقام كلاهما بعمليات «ديكورية» للبقاء في الحكم، فخاض الأسد «انتخابات رئاسية» ضد مرشحين هزليين، وسلّم بوتين تابعه المخلص دميتري مدفيديف ولاية الرئاسة لدورة واحدة، ثم قام البرلمان الروسي، على خطى زميله السوري، بتعديلات دستورية تتيح لبوتين البقاء في الحكم حتى عام 2036 (أي حتى يبلغ عمر 84 عاما).
حصل الأسد على منصبه بسبب أبيه، وعائلته، والمنظومة الأمنية، وجاء بوتين من كواليس المخابرات، وصعد إلى الرئاسة بفضل عائلة الرئيس الروسي بوريس يلتسين التي كانت تبحث عن وريث ليخلفه، حيث بدأ تدريبه من منصب نائب مدير مكتب الرئيس، ثم تأكد اختياره عبر الدور الذي لعبه في الحرب ضد الشيشان عام 1999 (التي ستكون مهد السيناريو الذي سيطبق في سوريا منذ عام 2015).
تمثل مجموعة بوتين الحاكمة، عمليا، عودة عقلية العهد السوفييتي، كما يمثل سيطرة المركّب الأمني ـ الماليّ، مع أيديولوجيا قومية ـ دينية أقرب للفاشية (أهم منظريها الفيلسوف ألكساندر دوغين) وقد عبّد بوتين طريقه للسلطة المطلقة من خلال سياسة مناهضة للديمقراطية داخليا، وتوسعية حربية خارجيا.
نجح بوتين في تثبيت الأسد على عرشه عبر قمع انتفاضة الشعب السوري، فتمت مقايضة بين سيطرته المجتزأة على البلد، وفقدانه لسيادته وثرواته وانقسامه تحت سيطرة دول وميليشيات عديدة، فيما انصرفت العائلة الحاكمة إلى إدارة مركز هائل لصناعة المخدرات وتهريبها إلى الدول القريبة والبعيدة.
نجح بوتين، أيضا، في قمع الشيشان، وجورجيا، وفي قمع الحراك الروسي أيضا، وساهم نجاحه في اجتياح القرم وشرق أوكرانيا عام 2014 في قرار التدخل في سوريا عام 2015، وكانت ردود فعل الغرب الضعيفة على تلك التدخلات، وقدرة الاقتصاد الروسي على استيعاب العقوبات، من الأمور التي شجعت الرئيس الروسي، في النهاية، على التخطيط لاجتياح أوكرانيا عام 2022.
فاقت ردود الفعل الغربية والعالمية على اجتياح أوكرانيا حسابات بوتين، ومجموعته الأمنية الضيقة التي أقنعته بخوض هذه الحرب، وبدلا من السقوط السريع الذي توقعته للحكومة الأوكرانية، واجه الجيش الروسي مقاومة كبيرة، وتكاملت العقوبات الغربية الرسمية مع انسحاب الشركات الكبيرة، وتمكنت أوروبا من تجاوز أزمات الغاز والنفط، وبدأت خطط بوتين تتهاوى.
تصريح الأسد بأنه سيرحب بوجود مزيد من القوات الروسية في سوريا، وأن وجودها «لا يجب أن يكون مؤقتا» هو دعوة لاحتلال أبديّ، وإشارة إلى ركاكة حكمه البائس الذي يستجدي قوات أجنبية للبقاء.
يلتقي المسؤولان، حسب بيان الكرملين «لبحث آفاق تسوية شاملة للوضع في سوريا ومحيطها» وهو تصريح فيه مبالغة كبيرة، فتاريخ الأسد الذي دمّر سوريا، وراعيه بوتين الذي أدخل روسيا في نفق أوكرانيا، لا يبشر بأي تسويات أو حلول، بل بمزيد من الموت والحروب.
القدس العربي