عقيدة السياسة الخارجية الروسية هي رد طبيعي على استراتيجية الأمن القومي الأميركي، وإدارة الرئيس جو بايدن أعلنت في استراتيجيتها الجديدة أن “الصين تمثل التحدي الأساسي والأكثر منهجية، وروسيا تشكل تهديدات خطرة للمصالح القومية الحيوية الأميركية”. أضافت “أن التحدي الأكبر والأكثر خطورة هو المساعي الصينية العدوانية المتزايدة لإعادة تشكيل منطقة المحيطين الهندي والهادئ والنظام الدولي ليناسب مصالح بكين وخياراتها التسلطية”، و”قيصرية الرئيس فلاديمير بوتين اعتبرت أن أميركا هي المحرض والقائد الرئيس للخطر المعادي لروسيا”، خطر يشكل فيه الغرب “تهديداً وجودياً” عبر “حرب هجينة”، وعلينا إنهاء نفوذ الغرب في العالم”، والرئيس الصيني شي جينبينغ يختصر “الحلم الصيني” بـ”احتلال مركز المسرح العالمي عام 2025″، و”تطوير صناعة التكنولوجيا العالية والسيطرة على القوانين التي تحكم مستقبل التكنولوجيا عام 2035″، وهو أشرف على بناء قوة عسكرية برية وبحرية وجوية وسيبرانية وقوة اقتصادية لتصبح الصين “قوة عظمى علمية” ترسم نظاماً عالمياً جديداً على الطريق إلى عام 2049 الذكرى المئوية لانتصار الثورة الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ، وكان رده الأول على التحدي الأميركي هو إقامة “شراكة بلا حدود” مع روسيا والاستعداد لاستعادة تايوان، فضلاً عن مشروع “الحزام والطريق”.
لكن الرد العملي الأسرع جاء من موسكو عبر غزو أوكرانيا ضمن مشروع استراتيجي وجيوسياسي لإنهاء الأحادية الأميركية وإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب.
والواقع أن المشهد الجيوسياسي والاستراتيجي في العالم يحمل في الشكل نوعاً من التناقض، فعلى المسرح الأوروبي حرب عالمية ثالثة بالوكالة، وإن أصر بوتين على تسميتها “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا، حرب بين موسكو مباشرة و”الناتو” بشكل غير مباشر تهدد بالانزلاق نحو حرب نووية يعرف الجميع مخاطرها ولا أحد يقول إنه يريدها، وعلى المسرح في الشرق الأقصى توتر وصراع بين أميركا والصين يقترب من الصدام العسكري بسبب تايوان، أما على مسرح الشرق الأوسط، فإن أميركا والصين وروسيا تعمل لترتيب الاستقرار على الطريق إلى نظام أمني إقليمي، وبكين رعت الاتفاق السعودي– الإيراني، وروسيا تعمل للمصالحة بين سوريا وتركيا، وتشجع الانفتاح السياسي العربي على دمشق ومن ضمنه انفتاح قنصلي سعودي– سوري، وأميركا التي تعارض أي انفتاح عربي على سوريا قبل التسوية السياسية على أساس القرار الدولي 2254، رحبت بالاتفاق السعودي- الإيراني ولو على طريقة مكره لا بطل. وتسعى إلى التهدئة بين الفلسطينيين وإسرائيل، والحد من الأزمة الإسرائيلية التي قادت إلى أعمق انقسام داخلي بسبب “انقلاب قضائي” تقوم به أكثر الحكومات تطرفاً برئاسة بنيامين نتنياهو المستسلم أمام صقور الصهيونية الدينية لحماية رأسه من السجن بعد محاكمته بتهم الفساد والرشوة وإساءة الأمانة، ولا شيء يوحي، حتى إشعار آخر، أن اضطرار نتنياهو تحت ضغط واشنطن والداخل لتعليق الانقلاب القضائي هو أكثر من حيلة وخداع لشراء الوقت إلى ما بعد عطلة الكنيست في عيد الفصح اليهودي.
وإذا كان التقدير هو أن الحرب في أوروبا طويلة، والتوتر في الشرق الأقصى بالغ الخطورة وقد يتحول إلى صدام عسكري، فإن الاستقرار في الشرق الأوسط يبدو موضع كثير من الأسئلة، أسئلة من نوع: هل هو استقرار له دوافع استراتيجية وقابل للاستمرار والتطور، أم أنه تكتيكي لأسباب موقتة وملحة قد تتغير بتبدل الحسابات والظروف؟ وهل يستمر الكبار في رعاية الاستقرار في الشرق الأوسط، وهم يتصارعون في أوروبا والشرق الأقصى ويتنافسون على النفوذ حتى في الشرق الأوسط؟ وماذا عن الخلافات والصراعات بين القوى الشرق أوسطية ومشاريع بعضها التوسعية المرفوضة؟
أجوبة تتوقف على أمور معقدة وتحتاج إلى أكثر من الوقت.
اندبندت عربي