مختبرات القمع:‏ الفلسطينيون في دولة الفصل العنصري (3-3)

مختبرات القمع:‏ الفلسطينيون في دولة الفصل العنصري (3-3)

يسموننا‏‏ غزاة، ويقولون إننا متعدون على هذه الأرض”، قال لي فريج الهواشلة، وهو رجل بدوي يبلغ من العمر 86 عامًا، عندما زرت مجتمعه، رأس جرابة، على مشارف مدينة ديمونة الصناعية في صحراء النقب.‏

يتذكر الهواشلة تلك الأوقات عندما كانت المنطقة تحت سيطرة الانتداب البريطاني قبل قيام دولة إسرائيل. في أحد الأيام، بعد العام 1948، جاء بعض المسؤولين لتسليم أفراد مجتمعه بطاقات الهوية الزرقاء: جنسيتهم الإسرائيلية.

وبقي البدو على أراضيهم واستمروا في زراعة محاصيلهم. ثم، في أوائل الخمسينيات، جاء المستوطنون اليهود الأوائل. وقال الهواشلة إن البدو تقاسموا معهم الماء والحليب عند وصولهم. وأضاف: “مدينة ديمونة أقيمت على أرضنا”.‏
‏‏

اليوم، أصبحت ديمونة مدينة سريعة التوسع، تتخللها مشاريع البناء في العديد من الجهات. وتقدم حملة تم إطلاقها في عهد الحكومة الإسرائيلية السابقة مجموعة من الامتيازات والفوائد لإقناع الإسرائيليين اليهود بالانتقال إلى هنا.

وعلى الطريق الرئيسي في المدينة، يشير نصب تذكاري إلى جذورها: ثمة لوحة جدارية عليها صورة رجل يرتدي الزي البدوي ويسوق جِماله عبر المشهد الصحراوي.

ولكن، هذا هو المدى الأقصى الذي سيبلغه اعتراف ديمونة بسكانها البدو. و”تجمُّع الهواشلة” هو إحدى القرى البدوية غير المعترف بها بموجب أوامر الإخلاء الصادرة عن حكومة إسرائيل.

وتريد الحكومة أن ينتقل سكان القرية إلى ‏‏قصر السر‏‏، إحدى البلدات التي خصصتها للبدو والتي تقع على بعد خمسة أميال.

وعندما تم الإعلان عن هذا الاقتراح، قدم البدو التماسًا من أجل البقاء في ديمونة ومعه خطة لبناء حي معترف به هناك -ولكن تم رفض طلبهم وقيل لهم إنهم يستطيعون الانتقال فقط إلى البلدات التي تم إنشاؤها خصيصًا لهم.‏

في الوقت الحالي، مع استمرار البناء في المدينة، بقي البدو في أماكنهم. وعلى بعد أقدام من منازلهم، قامت البلدية ببناء ملعب جديد كبير لأطفال ديمونة، لكن عشرات الأطفال الذين يعيشون في القرية البدوية لا يلعبون هناك إلا في وقت متأخر من المساء، إذا لم يكن هناك أي أحد آخر، متمسكين بقاعدة غير مكتوبة مفادها بأنهم غير مرغوب فيهم هناك. ومع ذلك، ليست لدى أفراد المجتمع البدوي هنا أي خطط للمغادرة.‏

إذا أرادوا مني أن أنتقل، يمكنهم أخذ مسدس وإطلاق النار علي”، قال الهواشلة. “سوف أجلس هنا ولن أتحرك أبدًا”.‏

غلفت الحكومة الإسرائيلية سياسة التهجير بلغة التحديث والوعد بتوفير خدمات أفضل. لكن البلدات التي يتم نقل البدو إليها هي من بين أكثر المدن فقرًا في إسرائيل، والأكثر عوزًا لفرص الوصول إلى الموارد، مع بعض من أسوأ معدلات البطالة والجريمة في البلاد.

وقال لي مروان أبو فريح، المنسق في مجموعة “عدالة”: “تحاول الحكومة دائمًا أن تقول للبدو: إذا كنتم تريدون الخدمات، فعليكم الانتقال من هذا.

إذا كنتم تريدون الماء، فإنكم في حاجة إلى الرحيل”، وعندما لا ينجح ذلك، يحاولون نقل السكان بالقوة، بإصدار أوامر الهدم”.‏

وأشار أبو فريج إلى أن هدم المنازل أصبح ممارسة تزداد شيوعًا داخل إسرائيل أيضًا. وكما هو الحال في الضفة الغربية والقدس الشرقية، غالبًا ما ‏‏تُجبر‏‏ إسرائيل أولئك الذين تصدر في حقهم أوامر الهدم على تدمير منازلهم بأنفسهم -أو مواجهة غرامات باهظة لتغطية تكلفة الجرافات التي يجلبها الجيش.‏

وقال أبو فريح “إن الأشياء نفسها التي تحدث في الضفة الغربية تحدث هنا”، مشيرًا إلى أن “هذه الممارسة أصابت السكان البدو بصدمة عميقة. الفصل العنصري نفسه الذي يُمارس هناك موجود هنا”.‏

تقع ‏‏البقيعة‏‏، وهي أحد التجمعات غير المعترف بها التي تواجه الإخلاء، في خلفية مسعدة، وتعد من أكثر مناطق الجذب السياحي شهرة في إسرائيل، لكن الدولة تسعى إلى نقل سكان البقيعة قسرًا إلى بلدة مرعيت، على بعد حوالي 20 ميلاً.

وبجانب ‏‏البقيعة‏‏، تقدم قرية سياحية يديرها إسرائيليون للزوار ركوب الخيل والتقاط الصور مع الجمال.

ولكن، في حين أن الإبل كانت جزءًا من حياة البدو لقرون عدة، فقد أصبح من الصعب عليهم الاحتفاظ بها، حيث رفض المسؤولون الاعتراف بالإبل ‏‏كحيوانات زراعية‏‏ وحرموا أصحابها من حقوق الرعي في الأراضي التي كانوا يحتفظون بها تقليديًا.

ويصادر المسؤولون بانتظام الجمال التي “تتعدى” على المناطق المحظورة -ويحملونها أحيانًا بالرافعات لنقلها بعيدًا، ثم يفرضون رسومًا باهظة لقاء إعادتها إلى أصحابها.‏

تتعارض خطة إعادة التوطين الحكومية -إضافة إلى أنها وضعت من دون استشارة البدو- بشكل أساسي مع نمط حياتهم التقليدي.‏ وقال لي موسى الهوامشة: “لا يمكنك أن تأخذ بدويًا من الصحراء وتنقله إلى مدينة. البدو يحتاجون إلى الحرية”. والهوامشة رجل مسن من سكان البقيعة، تعيش عائلته هناك منذ العام 1953، عندما نقلتهم السلطات الإسرائيلية إلى هناك بعد أن طردتهم من أراضيهم الأصلية بالقرب من ديمونة، لإفساح المجال أمام إنشاء منطقة صناعية. وعندما جاء رجل يهودي في الثمانينيات لإنشاء قرية سياحية مجاورة، قال الهوامشة إنهم أعطوه الجمال وساعدوه على الاستقرار وتأسيس عمله.

وما يزال العديد من سكان القرية يعملون في الموقع السياحي. وفي بعض الأحيان، ساعدوا السلطات على البحث عن المتنزهين الذين فُقدوا في الصحراء التي يعرفونهم عن كثب.‏

وأضاف الهوامشة: “الآن، لديه تصريح بالبقاء، ونحن في المحكمة”، مشددًا على أن سكان البقيعة لا يريدون المغادرة. “إذا أرادوا نقلنا مرة أخرى، فعليهم إعادتنا إلى الأرض التي أتينا منها”.‏

التمسك بالأرض‏

نشأ سامي الحريني في التواني، وهي قرية في مسافر يطا خارج منطقة إطلاق النار، بالقرب من مستوطنة كبيرة والبؤر الاستيطانية المحيطة بها.

وكان يبلغ من العمر 3 سنوات عندما بدأت السلطات الإسرائيلية في إجلاء الناس من المنطقة. وقال: “عندما كنت صغيرًا، كنت مرعوبًا من الجيش؛ كنت مصابًا بالصدمة نوعًا ما. عندما كنتُ أرى الجيش قادمًا إلى القرية، كنت أهرب.

كانوا يأتون لتفتيش منزلنا، يوقظون الجميع ويحاصرونهم في مكان واحد في وسط القرية، ثم يذهبون ويفتشون جميع المنازل”.‏

نشأ الحريني في عائلة ناشطة، على الرغم من أن مجرد اختيار عدم الاستجابة للضغوط لمغادرة منزله هو في حد ذاته عمل من أعمال المقاومة في هذه المنطقة.

وقال: “عندما كبرت، فهمت الموقف، وفهمت أنني لست مضطرًا للهرب؛ إنني أحتاج إلى الوقوف على الأرض والدفاع عن هذه الأرض. إنهم يريدون محونا من هذه الأرض، يريدون حذف هويتنا من هذه الأرض”.‏

في السنوات الأخيرة، أصبحت التواني، وهي عبارة عن عدد قليل من المنازل التي تظل قيد الإنشاء كل الوقت -حتى مع قيام السلطات ‏‏بهدمها بشكل متكرر‏‏‏- مركزًا للتضامن العالمي مع سكان مسافر يطا. والقرية الآن موطن لنشطاء دوليين وإسرائيليين يوفر وجودهم قدرًا من الحماية من عنف المستوطنين والجيش، حتى مع ‏‏استهداف‏‏ النشطاء بشكل متزايد بالهجمات أيضًا.

وأشار الحريني إلى أن “الوجود الدولي مهم جدًا لأغراض التوثيق، كما أن الجيش يصبح أكثر هدوءًا عندما يكون هناك ناشطون دوليون منه عندما يكون الفلسطينيون وحدهم”.‏

في الخريف الماضي، تعرض والده لهجوم وإصابة خطيرة من قبل المستوطنين، ولكن عندما جاء الجيش، منعوا أقاربه من نقل والده إلى سيارة إسعاف واعتقلوه بدلاً من ذلك.

وأمضى الحريني الكبير 10 أيام في السجن ولم يطلق سراحه إلا لأن مقطع فيديو مدته 20 دقيقة صوره ناشط دولي لم يترك أي شك حول ديناميات الحادث.

وأضاف الحريني أن الضغط الدولي ساعد على درء هدم وإخلاء مجتمعات أخرى، مثل ‏‏خان الأحمر‏‏. وكان من المقرر إخلاء هذا التجمع، وهو مجموعة من القرى البدوية في وسط الضفة الغربية، قبل بضع سنوات، لكنه ما يزال قائمًا، في ما كان إلى حد كبير بفضل الإدانة الدولية واسعة النطاق للخطط الإسرائيلية.‏

ومع ذلك، أشار الحريني إلى أن الاعتماد على الدعم الدولي ليس مستدامًا. خلال الجائحة، عندما فرضت إسرائيل قيودًا مشددة على السفر، تُرك سكان مسافر يطا ليتدبروا أمورهم بأنفسهم. وقال: “كان عنف المستوطنين جنونيًا خلال فترة الوباء”.‏

الغد