أظهرت عشرات استطلاعات الرأي، في الأسابيع الأخيرة فقط، نتائج متضاربة بشكل كبير فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية التركية المقبلة، وهو ما فتح الباب مجدداً أمام النقاش حول افتقار البلاد إلى مراكز استطلاعات رأي مهنية ومحايدة، في ظل وجود كثافة غير مسبوقة باستطلاعات الرأي المُسيسة والموجهة لصالح مرشحين وأحزاب معينة لتوجيه الرأي العام.
وعلى مدى العقود الماضية، عرف عن مراكز استطلاعات الرأي في تركيا أن غالبيتها العظمى مدعوة من أحزاب وجهات سياسية مختلفة وتقوم بإجراء استطلاعات ودراسات بحثية بشكل موجه وذلك من أجل التأثير على الرأي العام ومحاولة لعب دور مباشر في توجيه الناخبين قبيل كل انتخابات تشهدها البلاد، عبر خلق جو عام يوحي بأن فرص مرشح ما محسومة بالفوز أو الهزيمة.
تحاول مراكز استطلاعات الرأي أن تكون لاعباً مباشراً في العملية الانتخابية وذلك من خلال ضخ كم كبير من استطلاعات الرأي التي يجمع كثيرون على أنها “موجهة ومسيسة”
ويلعب العامل النفسي دوراً كبير في حسم توجهات الناخبين لا سيما “المترددين” منهم، وهي شريحة كانت على الدوام حاسمة في تحديد الحزب أو المرشح الفائز في الانتخابات. ففي ظل وجود تنافس شديد وتقارب في نتائج حزبين أو مرشحين، تلعب استطلاعات الرأي دورا حيويا في حسم توجهات المترددين بالتصويت للمرشح الذي يعتقدون أنه أقرب للفوز، وهو عامل نفسي هام في سيكولوجيا الجماهير والانتخابات.
وفي هذه الانتخابات، تبدو المنافسة هي الأقوى منذ عقود بالفعل وذلك في ظل التنافس الحاسم بين مرشح تحالف الجمهور الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ومرشح تحالف الأمة المعارض كمال كليتشدار أوغلو حيث تشير كافة استطلاعات الرأي إلى أنهما يحظيان بتأييد شعبي متقارب جداً، وأن أحدهما سيفوز بفارق ربما لا يتجاوز الـ1 بالمئة من أصوات الناخبين.
وتجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية بشكل متزامن في 14 من الشهر المقبل فيما توصف بأنها أهم انتخابات تشهدها البلاد منذ عقود، وأصعب انتخابات يخوضها أردوغان منذ وصوله إلى السلطة قبل نحو عقدين، وأهم انتخابات للمعارضة التي تجد نفسها أقرب من أي وقت مضى لإنهاء حكم أردوغان.
وفي ظل كافة المعطيات السابقة، تحاول مراكز استطلاعات الرأي أن تكون لاعباً مباشراً في العملية الانتخابية وذلك من خلال ضخ كم كبير من استطلاعات الرأي التي يجمع كثيرون على أنها “موجهة ومسيسة” وذلك في محاولة لتعزيز فرص فوز أحد المرشحين على الآخر.
وفي ذات اليوم ينشر أكثر من استطلاع للرأي من جهات مختلفة تدعي أنها “مستقلة” وتكشف عن نتائج متضاربة ومتباعدة، وبالبحث عن ميول المراكز البحثية أو الشخصيات التي تديرها أو الجهات التي تمولها، يمكن فهم التوجه السياسي لكل مركز. ومع المقارنة بالنتائج التي تظهرها استطلاعاتها يتبين حجم الانحياز والتوجيه في الاستطلاعات التي لم تعد محل ثقة للسياسيين والمحليين وحتى شريحة مهمة من المواطنين.
لكن وعلى الرغم من ذلك، تواصل هذه مراكز نشر استطلاعاتها بشكل مكثف لإيمانها بقدرتها التأثير على توجهات شريحة من المترددين انطلاقاً من نظريات سيكولوجية تشير إلى أن جانبا من المترددين يميلون للتصويت للمرشح الذي يعتقدون أنه سيكون الفائز وفرصه أكبر من غيره، الأمر الذي يحفز الأحزاب على نشر عدد أكبر من الاستطلاعات التي تحاول خلق جو عام بأن مرشحيها هم الأقرب للفوز.
ومن شأن التأثير على شريحة تقل عن 1 بالمئة فقط من المترددين أن يساهم ربما في حسم الانتخابات وذلك في ظل إجماع معظم استطلاعات الرأي على أن النتائج سوف تكون متقاربة جداً وأن الفوز ربما سيكون بفارق ضئيل يتفاوت بين 1 إلى 4 بالمئة فقط ما يعني أن كل مرشح بحاجة لحسم مئات آلاف من الأصوات فقط من أجل ضمان الفوز.
وما يميز هذه الانتخابات عن غيرها التي شهدتها البلاد في العقدين الأخيرين، أنه ولأول مرة يوجد شعور عام في الشارع التركي بأن المعارضة ربما تكون قادرة بالفعل على هزيمة أردوغان، وأن الرئيس التركي الذي لم يخسر أي جولة انتخابية على مدى 20 عاماً ربما يخسر هذه المرة، وهو عامل نفسي هام يمكن أن ينعكس على توجهات شريحة من الناخبين.
لأول مرة يوجد شعور عام في الشارع التركي بأن المعارضة ربما تكون قادرة بالفعل على هزيمة أردوغان
ويتغير المزاج العام من أسبوع لآخر بناء على التصريحات والأحداث والاستطلاعات، فقبل أسابيع وفي ذروة الأزمة الاقتصادية ساد شعور عام بأن أردوغان من المستحيل أن يفوز بالانتخابات، قبل أن يقوم الأخير بسلسلة من المناورات والتصريحات التي أعادت الثقة بإمكانية فوزه بالانتخابات، لاحقاً وعقب الزلزال المدمر الذي خلف 50 ألف قتيل عاد الشعور العام بأن فرصه بالفوز قد انتهت، قبل أن يمسك بزمام المبادرة مجدداً ويقوم بسلسلة إجراءات وتصريحات أعادت الثقة بإمكانية فوزه.
هذا الشعور سيبقى يتغير من حين لآخر إلى حين موعد الانتخابات حيث سيساهم الخطاب السياسي والإجراءات والتطورات إلى جانب الاستطلاعات والعامل النفسي في إرساء شعور عام بالأوفر حظاً بالفوز، وهو شعور ربما يكون حاسماً بالفعل في تحديد الفائز.
القدس العربي