من جديد، قراءة خاطئة للشرق الأوسط

من جديد، قراءة خاطئة للشرق الأوسط

President-elect Obama with Nancy Killefer, the new Chief Performance Officer, for his administration. The news conference held at the transition office in Washington, D.C. on Jan. 7, 2009.

President-elect Obama with former Presidents Bush (41), Carter and Clinton and current President Bush at the WHite House on Jan. 7, 2009.

(Photo by Pete Souza)

حيثما نظر المرء في الشرق الأوسط يبدو الصراع والاضطراب منتشرين. فنظام الدولة العربية بحد ذاته عرضة للاعتداء. إذ يتحدى تنظيم “الدول الإسلامية في العراق والشام” (داعش) كل نظام عربي ويرفض كل الشيعة. من جانبها، تهدد إيران كما أتباعها من الشيعة، سلطة الدول العربية التي يهيمن عليها السنة. بالتالي، فإن فهم طبيعة التهديدات وما يشكل حقيقة صراعاً حول من سيتولى تحديد هوية المنطقة وتشكيلها، هو الشرط الأول لوضع استراتيجية ناجحة.

من المثير للاهتمام، ونظراً إلى الظروف التي تمر بها المنطقة، ستتخذ إسرائيل موقفاً متناقضاً بشكل صارخ مع بقية دول الشرق الأوسط، وستستمر في كونها شريكاً طبيعياً للولايات المتحدة. فإسرائيل ليست فقط الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، بل هي أيضاً البلد الوحيد الذي يتمتع بالمؤسسات وبسيادة القانون – حيث يقبل الخاسر بالانتخابات النتيجة بصدر رحب – التي تسمح له بالتعامل مع مشاكله. وهذه المشاكل، بدءاً من الصراع مع الفلسطينيين مروراً بالأقليات العربية فيه وصولاً إلى الانقسام العلماني الديني، هي مشاكل حقيقية. ولكن بما أن النظام يقوم على الديمقراطية الحقيقية، فإن إسرائيل تتمتع بالمتطلبات للتكيف للأوضاع، حتى إذا كان من الصعب غالباً القيام بعملية التكيف هذه.

من الصعب قول الأمر عينه في ما يخص الدول أخرى في المنطقة. فالسجل الأمريكي في فهم المنطقة، ودولها، ليس بالكبير. عبر النظر في كتابي الجديد، محكوم عليه بالنجاح إلى العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من عهد الرئيس هاري ترومان وصولاً إلى عهد الرئيس باراك أوباما، أصبح واضحاً أن كل إدارة شملت ثلاث فرضيات مترابطة ثابتة في جهاز الأمن الوطني. أولاً، إذا نأت واشنطن بنفسها عن إسرائيل ستكسب العرب إلى صفها. ثانياً، إذا تعاونت مع إسرائيل، ستفقد تعاون العرب. وثالثاً، إذا أرادت تغيير موقفها في المنطقة، وتغيير المنطقة بحد ذاتها، لا بد لها من حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إن هذه الإفتراضات الثلاثة خاطئة من الأساس.

بالنسبة إلى الفرضية الأولى، فإن إدارات الرؤساء آيزنهاور ونيكسون وكارتر وبوش الأب وأوباما نأت بنفسها عن إسرائيل، متوقعة استجابة عربية. إلا أن أي دولة عربية لم تستجب إيجابياً على عملية النأي بالنفس التي اتبعتها واشنطن. يُذكر أن الرئيس نيكسون ذهب أبعد من ذلك وأوقف بيع طائرات “إف-4 فانتوم” إلى إسرائيل في آذار/ مارس 1970 على أمل أن يستجيب الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر. وما جعل هذه اللفتة من نيكسون الأكثر شهرة هو أنه أوقف بيع هذه الطائرة في الوقت عينه الذي قام به الاتحاد السوفياتي، للمرة الأولى في تاريخه، بنشر أفراده العسكريين خارج الكتلة السوفيتية، أي في مصر. وأتى رد عبد الناصر على خطوة نيكسون في زيادة مطالبه بالقيام بخطوات أوسع لكبح جماح إسرائيل.

كان الافتراض الذي يقول بأن التعاون مع إسرائيل سيفقد الولايات المتحدة علاقاتها مع العرب خاطئاً. فإدارة الرئيس جون كندي كانت أول إدارة تقدم الأسلحة الحديثة إلى إسرائيل. وقد واجه الرئيس الأمريكي معارضة كبيرة من داخل إدارته على هذه الخطوة، إذ اعتبر وزير خارجيته، دين راسك، أن توفير الأسلحة إلى إسرائيل من شأنه أن يشكل سابقة رهيبة تلحق أضراراً جسيمة بعلاقة واشنطن مع العرب. لكن عند لقائه ولي العهد السعودي الأمير فيصل بن عبد العزيز في نفس اليوم الذي تسرب فيه خبر بيع الأسلحة، ركّز ولي العهد على انقلاب في اليمن بدعم من عبد الناصر وليس على الأسلحة التي قامت الولايات المتحدة ببيعها إلى إسرائيل. فالأمر، وفق قوله يشكل تهديداً للمملكة العربية السعودية وهي بحاجة إلى الأسلحة والضمانات الأمريكية. وبعد أسبوع، عندما التقى فيصل بكندي في مصر بقي اهتمام ولي العهد مٌنصباً على مصر وليس على إسرائيل، موضحاً بأن تقارب الولايات المتحدة تجاه مصر والمساعدة الاقتصادية التي تقدمها إليها تشكل تهديداً للمنطقة: فقد حررت الموارد المصرية لتهدد أصدقاء واشنطن وتحول توازن القوى الإقليمي ضد المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول ذات التوجه الغربي في الشرق الأوسط. مرة أخرى، طلب فيصل من الولايات المتحدة الحصول على الأسلحة والالتزام بالأمن السعودي.

التاريخ يعيد نفسه، والحجج التي قدمها فيصل لكندي هي نفسها التي قدمها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز والملك الحالي سلمان بن عبد العزيز للرئيس الأمريكي باراك أوباما حول إيران. فقد شددت المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى مراراً على قلقها إزاء انخراط إدارة أوباما مع إيران والعواقب المترتبة عن تخفيف العقوبات الذي سينجم عن الصفقة النووية الإيرانية. من جديد، يخشى السعوديون أن تستفيد دولة يعتبرونها مثيرة للمتاعب على الصعيد الإقليمي، كما مصر في الستينيات وإيران في الوقت الحالي، من مشاركة الولايات المتحدة.

ما يبرز من هذه الأمثلة، وغيرها من التي أسلط الضوء عليها مروراً بكل إدارة من الإدارات الأمريكية، هو أن واشنطن دائماً ما قرأت أولويات القادة العرب بشكل خاطئ. فالأولوية ليس إسرائيل، بل أمنهم واستمرارهم. فالمنافسون الإقليميون يشكلون التهديدات التي ينشغلون بها، وهم يعتمدون على واشنطن لضمان أمنهم. نظراً إلى ذلك، فإنهم لن يربطوا يوماً ما بين علاقتهم مع الولايات المتحدة وعلاقة واشنطن مع إسرائيل.

في الحقيقة، إن مصداقية الولايات المتحدة هي التي تهمهم. فإذا ما اعتبروا أن واشنطن هي أقل موثوقية، وهو ما يفعلونه إلى حد ما اليوم، فإن ذلك هو الذي سيؤثر على علاقاتهم مع الولايات المتحدة واستجابتهم لها. وهنا ترى واشنطن الخلل في الفرضية الأخيرة، أي مركزية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في المنطقة وموقف الولايات المتحدة منه. ولا يرى معظم الزعماء العرب أن هذا الصراع يؤثر بشكل جذري على أمنهم.

هذا لا يعني أنهم غير مبالين بالصراع الفلسطيني. بل هم يدركون أنه ترافق تاريخياً مع جماهيرهم كقضية من الظلم الذي لا بد من تصحيحه. ولكن القضية تميل اليوم إلى العودة إلى المقعد الخلفي بالنسبة إلى الجماهير العربية التي تنظر إلى النزاعات وغيرها – بدءً من الحرب الأهلية السورية وإلى تهديدات “داعش” وإيران.

بالتالي، ماذا يعني كل هذا بالنسبة إلى صانعي السياسة الأمريكية؟ في البداية، إن واشنطن بحاجة إلى مفهوم واضح يوجه استراتيجيتها. فمن الطبيعي أن تبدو هزيمة تنظيم “داعش” على رأس أولوياتها، ولكن لتحقيق ذلك تحتاج الولايات المتحدة إلى الدول السنية، فالدول والعشائر السنية هي وحدها القادرة على تشويه سمعة “الدولة الإسلامية”. إن ذلك يستبعد الشراكة مع بشار الأسد أو الإيرانيين في سوريا حتى فيما تسعى واشنطن إلى بناء النفوذ الجماعي على أرض الواقع لتشكيل العملية السياسية التي ستؤدي في مرحلة ما إلى وضع نهاية للحرب الأهلية.

ومن المفارقات، أن معظم الدول السنية العربية تنظر اليوم إلى إسرائيل باعتبارها حصناً منيعاً ضد كل من الإيرانيين و”الدولة الإسلامية” والجماعات التي تزعم الولاء لها. وفي حين أنها قد تبقي تعاونها مع إسرائيل سرياً إلى حد كبير، نظراً إلى الحساسيات الشعبية حول القضية الفلسطينية، فإن نطاق ما تقوم به إسرائيل الآن مع عدد من الدول العربية في مجال الأمن لم يسبق له مثيل. وهنا يبرز أحد المجالات التي يجب أن تشدد واشنطن عليه، لا سيما بالنظر إلى قيمته في إقناع أصدقائها التقليديين في المنطقة بأنها أكثر تفهما للتهديدات التي تقلقهم. فإثبات ذلك واستعادة الموثوقية الأمريكية، أمور ستسهل من زيادة مطالب الولايات المتحدة من شركائها الإقليميين في مواجهة “داعش” وأفعال إيران الهادفة إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة. وفي نهاية المطاف، يشكل فضح الفرضيات التي ضللت واشنطن في المنطقة أمر لا بد منه لنجاح أي استراتيجية.

دينيس روس