يتوزع اليوم أكثر من 39 مليون كردي في دول تتغير معالم حدودها وتتهاوى جغرافيتها السياسية، ويمر بعضها بمرحلة بالغة الحساسية لما تشهده من اضطرابات وتوترات، ويزداد الأمر استعصاء في ظل وضع يكابد من أجل الحفاظ على لحمة المجتمعات وحمايتها من التفكك، الأمر الذي يطرح فحص مجمل هذه التحولات وتأثيرها المستقبلي على دور الأكراد المحتمل في تركيا، وفي سوريا والعراق، حيث الوحدة الوطنية مهددة.
ولا شك أن هذه التطورات تجعلها من أكثر المحاذير خطورة، لأنها تمس بوحدة الدول، ليس بسبب حروب تخوضها دول ضد بعضها، بل يتعلق الأمر بصراعات تنخرط فيها مجموعات مسلحة تضع على فوهة أسلحتها هويات إثنية ولغوية ومذهبية وطائفية.
وإلى جانب موجة الحركات الإسلامية العنيفة، هناك اهتمام غير مسبوق بتطورات القضية الكردية السياسية، ترتب عنها انتظار أكراد العراق الفرصة المواتية لإعلان استقلالهم، فيما كان إشهار أردوغان مؤخرا الحرب على الأكراد وضرب معاقل حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل وفي شمال العراق، نتيجة طبيعية أدت إلى قبر الحوار بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني. أما الوضع في سوريا، فيتبيّن منه أن الأكراد لن يكون بوسعهم الحفاظ على معاقلهم المستقلة إلا بدعم ورعاية غربية وإسرائيلية. كما أن أي انسحاب من طرف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني يعني موجة جديدة من التطهير العرقي في ظل تهديد داعش المستمر.
النزعة الاستقلالية
بفضل الدعم الأميركي استطاع أكراد العراق تأسيس منطقة فدرالية تتمتع باستقلالية محلية معترف بها من طرف الحكومة المركزية العراقية، فيما يبيّن دعم إيران وتركيا لحكومة كردستان الإقليمية بعد تعرضها لهجوم داعش، أن معالجة القضية الكردية مطروحة على المائدة الإقليمية. كما أن التدخل الأميركي للدفاع عن أكراد العراق ضد تمدد داعش وتزويد ألمانيا وجمهورية التشيك الأكراد بالأسلحة، يعززان خيار اتجاه الأكراد نحو دعم الاستقلالية دوليا.
قرار الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بالدفاع عن المناطق الكردية في سوريا، كان أهم اختيار في هذه المرحلة
وبالتوازي، فإن كلمة مسعود بارزاني الأخيرة في سنجار كانت مفعمة بالإشارات، لكن النتائج والتداعيات السلبية التي ستنجم عن هذا الإعلان حول وحدة العراق، هي التي تحول في الواقع دون إقرار الدول الغربية له خوفا من أن يعزز ذلك باقي الدعوات الكردية الاستقلالية والانفصالية في دول الجوار. وهناك عدة عوامل تغذي هذه النزعة الانفصالية، وتقويها بفضل لعبة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية المتنامية بين أربيل والدول الغربية في مواجهة داعش، كما أن هناك علاقات تعاون اقتصادية وطيدة بين كردستان العراق وتركيا، ودعم الأخيرة للأكراد في وجه الحكومة المركزية في بغداد، فضلا عن تزايد خطر المواجهة الشيعية السنية في العراق. كما أن هناك عاملا آخر يصب في صالح “الدولة الكردية الجديدة”، يتمثل في عدم قدرة بغداد وأربيل على إيجاد اتفاق نهائي حول “المناطق المتنازع عليها”، بما فيها كركوك واقتسام احتياطي البترول والغاز. بالإضافة إلى التنافس وعدم الثقة بين الجماعات السياسية الكردية نفسها.
السياسة التركية
يمثل كردستان العراق مختبرا بالغ الأهمية للسياسة التركية، حيث حاولت أنقرة احتواء المنطقة الكردية العراقية اقتصاديا على المستوى التجاري والطاقي. ولتفعيل هذه السياسة، دعمت حكومة كردستان العراق الإقليمية، أملا في أن ينجح حليفها مسعود بارزاني في الحد من تأثير زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان وتحظى بصفة الضامن الإقليمي، لكنها في نفس الوقت امتنعت عن التدخل، حينما قامت داعش بهجوم عنيف بعد ثلاثة أشهر من ذلك. حيث لا يزال الموقف من حزب العمال الكردستاني يلقي بظلاله على مسار السياسة التركية تجاه العلاقات الكردية العراقية بصفة عامة.
هذا إلى جانب موقف تركيا من المحافظات العثمانية القديمة في الموصل وكركوك، حيث تستمر ذات المواقف السياسة التركية الخارجية نحو المحافظتين منذ تورغوت أوزال (1993-1983) إلى أحمد أوغلو الوزير الأول الحالي. إذ تلوّح تركيا في كل مرة بأن عودة المحافظتين إلى حظيرة تركيا أمر محتمل إذا تفككت العراق، ولهذا تظل تركيا تحاول اللعب على أوتار هذا التناقض وتعمل على تغذيته بين أكراد العراق وأكراد تركيا، ممّا قد يحول دون استقرار المنطقة. غير أن السياسة التركية تأرجحت بين تصريحات عدائية وتطمينات دبلوماسية ومواقف غامضة لأنقرة تسيّرها مصلحة استراتيجية في إضعاف حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو فرع حزب عمال كردستان في سوريا.
وعموما، ما زالت الحكومات الغربية تمارس ضغطا كبيرا على الحكومة التركية لمراقبة حدودها، وإيقاف تدفق مقاتلي الحركات الجهادية. لكن حالة الجمود والانتظار التي أحاطت بمعركة عين العرب وسنجار كانت تصب في دعم داعش بشكل غير مباشر، حيث أعلنت أنها مستعدة للالتحاق بالتحالف الدولي ضد داعش شريطة موافقة هذه القوى على إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا، وتوجيه ضربة مزدوجة للنظام السوري وداعش في نفس الوقت. وهو ما كان يصب في اتجاه مواقف المعارضة السورية وبعض الدول الغربية.
وجدير بالذكر، أن كل هذه العوامل تدفع إلى تغيير الموقف التركي تدريجيا لدفعه في الأخير إلى التعاون مع القوى الغربية واتقاء شر الدب الروسي، بحيث يشير ذلك من ناحية إلى أن رجب طيب أردوغان كان يسعى مبكرا للوصول إلى اتفاق مع أكراد تركيا منذ 10 أغسطس 2014 لضمان دعمهم في انتخابات يونيو 2015، بهدف تبني مجموعة من الإصلاحات الدستورية تمنحه مزيدا من الصلاحيات كرئيس. ومن ناحية ثانية، كان حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب العسكرية في المناطق السورية الكردية يحظيان ضمنيا باعتراف دولي متزايد نظرا لبسالة المقاتلين في المواجهة.
الاتحاد الديمقراطي الكردستاني
رغم أن الاتحاد الديمقراطي الكردستاني يعد حزبا قويا على الساحة الكردية السورية، فإن مجموعة من العوامل ساهمت في تعرضه للعديد من الانتقادات ودفعت الحكومة الألمانية إلى رفض أي اتصال، كان أبرزها علاقته الوطيدة بحزب العمال الكردستاني، ورفضه الالتحاق بالمعارضة، وتعاونه الظرفي مع النظام السوري، فضلا عن قمعه للمعارضة الكردية الأخرى في المناطق التي يديرها بصلابة. غير أن قراره الاستراتيجي بالتركيز على الدفاع عن المناطق الكردية في سوريا وفرضه إدارة محلية، كان أهم اختيار اعتمده الحزب في هذه المرحلة وسخّره لتوسيع قاعدته الاجتماعية وسط الأكراد في شمال سوريا، بالإضافة إلى نهجه سياسة تقدّمية تجاه النساء، وفتح مجال المشاركة في تدبير الشأن العام أمام أقليات غير كردية وغير مسلمة. الأمر الذي دعا الولايات المتحدة وبريطانيا إلى التعاون عسكريا مع وحدات حماية العشب، وسمح لممثليه السياسيين اللقاء بالإدارة الأميركية في واشنطن وروما وباريس على المستوى الوزاري ورؤساء الدول. ورغم أن الرئيس التركي ورئيس وزرائه يضعان الحزب و”الدولة الإسلامية” على نفس المستوى، فإن الإدارة التركية استقبلت مرات عديدة نائب زعيم الحزب للتباحث معه.
تركيا تلوح في كل مرة بأن عودة محافظتي الموصل وكركوك إلى حظيرة أنقرة، أمر محتمل إذا تفككت الدولة العراقية
نهاية مسلسل المصالحة
اختار أردوغان على إثر فقدانه الأغلبية المطلقة نهج سياسة التصعيد وخلط الأوراق الداخلية بإعلانه نهاية المفاوضات في 28 أبريل مع حزب العمال الكردستاني، ونعته كل أنصار القضية الكردية بالإرهابيين والخونة، وتوقيف العديد من الناشطين، وتصعيد الاحتكاك العسكري في ظل منع مفاوضي حزب الشعوب الديمقراطي من أي اتصال مع الزعيم التاريخي أوجلان لمدة أربعة أشهر متتالية وفي ظروف بالغة الدقة.
وقد رافق هذا التصعيد الذي استمر فيه وقف إطلاق النار إلى غاية 20 يوليو 2015، القيام بعملية إرهابية أودت بحياة 32 مواطنا في سروج على الحدود التركية الكردية، وذلك بالتوازي مع تفاقم خطر أكراد سوريا وتطلعاتهم الانفصالية والاستقلالية، بدعم ماكر أحيانا من الأسد، وهو الأمر الذي يمثل خطا أحمر في نظر أنقرة، مما دفع حزب العمال الكردستاني إلى مهاجمة قوات الأمن التركية، واتهام الحكومة التركية بالتواطؤ مع داعش. وهو ما دفع الأخيرة إلى قصف مواقع الحزب في شمال العراق تحت ستار مكافحة إرهاب تنظيم الدولة.
ومع تغيير أردوغان لسياسته نحو الأكراد وتصعيد عودة لهجة استعمال القوة وتديين الدولة واستفحال النزعة الانقسامية بين القومية التركية والقومية الكردية وسط الانهيار الشامل للعثمانية الجديدة من سوريا إلى مصر وتونس والخليج العربي، وهو ما بدا أنه تغيير في سياسة أنقرة تجاه تنظيم داعش بفضل الضغوط الغربية وفتح قاعدة إنجيرليك، اختارت قيادة العدالة والتنمية اللعب على أوتار القومية التركية لإقناع الناخب التركي بالتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية.
د.حسين مصدق
صحيفة العرب اللندنية