نشر ديفيد هيرست الكاتب الصحافي البريطاني، ومدير موقع “ميدل إيست آي” (عين الشرق الأوسط) تقريرا بعنوان “انتخابات تركيا: هل يتنازل كمال كيليشدار أوغلو عن استقلال أنقرة؟ تناول فيه التداعيات المحتملة على تركيا والشرق الأوسط في حال فوز كليتشدار مرشح المعارضة المشترك في الانتخابات الرئاسية القادمة في تركيا، هو الذي يبدي رغبة جامحة في إرضاء واشنطن والاتحاد الأوروبي والناتو، بما لا تبشر بخير بالنسبة للمنطقة، حسب الكاتب. وماهي بالتالي ارتدادات هزيمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وابعاده عن المسرح السياسي الإقليمي والعالمي؟
عندما كان مصير أردوغان مجهولا
يبدأ الكاتب بتوطئة تاريخية يعود فيها إلى ساعات الصباح الأولى من يوم السادس عشر من تموز/يوليو عندما 2016 كان مصير رئيس تركيا مجهولا. فقد قامت قطاعات من القوات المسلحة بمحاولة انقلابية عنيفة، وقصفت طائرات حربية مقر البرلمان، ووقعت اشتباكات بالأسلحة النارية خارج مقرات المخابرات التركية، إلا أن مصير رجب طيب أردوغان، الذي شوهد آخر مرة في فيلته التي يقضي فيها إجازته، كان لا يزال غامضا.
ويروي كيف أمضى مذيعو القنوات التلفزيونية السعودية والإماراتية والمصرية الليلة بطولها وهم يعلقون مبتهجين على تطورات الأحداث دقيقة بدقيقة، زاعمين أن عدوهم، الذي وقف إلى جانب الربيع العربي، إما أنه قد هلك أو هرب إلى خارج البلاد.
ويشير إلى أنه تماما كما حدث عندما أطاح انقلاب عسكري في مصر بمحمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطيا في تاريخ البلد، رفض وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك جون كيري وصف الأحداث التي جرت في تركيا بالانقلاب. بل أعرب عن أمله، بدلا من ذلك، في “الاستقرار والسلام والاستمرارية”، الأمر الذي اعتبر رسالة مشفرة إلى زعماء الانقلاب العسكري بأن بإمكانهم أن يفعلوا ما بدا لهم.
ويلفت إلى أنه حينذاك، نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية مقال رأي، قال إنه يرتدي قناع تحليل سياسي، حول “نهاية رجل وصفته بأن إسلامي سلطوي”، وأكدت أن أردوغان جلب نهايته بيده. كان عنوان المقال: “كيف سعر رجب طيب أردوغان لهيب التوترات في تركيا.”
وينوه إلى أنه من نافلة القول بأن العنوان ما لبث أن بُدل على عجل عندما برز أردوغان وخرج من القبر الذي زعموا أنه حفره لنفسه بيديه، ليعقد مؤتمرا صحفيا في مطار إسطنبول، وقد مارست طائرته طوال الليل في أجواء تركيا لعبة القط والفأر مع الطائرات الحربية.
تركيا تغيرت كثيرا
بعد هذه التوطئة التاريخية يؤكد الكاتب هذا العام، في الرابع عشر من أيار/ مايو، والاحتمال الأكبر أن يتم ذلك بعد هذا التاريخ بأسبوعين اثنين، سوف تنظم الجولة الثانية من الاقتراع، التي قد يخسر فيها أردوغان السلطة، ولكن هذه المرة بوسائل دستورية. سوف تكون هذه الانتخابات هي السباق الأصعب الذي يخوضه منذ 22 عاما. فعلى خلاف ما يجري من انتخابات مزيفة في بلدان الشرق الأوسط الأخرى، هذه انتخابات حقيقية بالفعل.
ويشدد هيرست على أن الكثير تغير في البلد. وفيما لو سقط أردوغان، فسيكون ذلك بسبب قضايا مثل التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، فيما يعتبر تجسيدا للقول الذي يؤثر عن الرئيس الأمريكي السابق كلينتون؛ “إنه الاقتصاد أيها الأحمق”.
ويرى أنه عندما سئل الأتراك في عام 2018 عما إذا كانوا يريدون التغيير أم الاستقرار، صوت معظمهم للاستقرار. أما الآن، فالكفة ترجح لصالح الرغبة في التغيير.
ويلفت إلى أنه كما في عام 2016، ليس الغرب اليوم مجرد متفرج محايد، وأقل ما يقال في تعاملات أردوغان مع الزعماء الغربيين أنها كانت في حدها الأدنى تتسم بالحيوية.
فبينما وصفه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنه لاعب شطرنج عالمي، قال جو بايدن عن الزعيم التركي؛ إن عليه دفع ثمن، وقال بايدن قبل أن يتسلم مهامه الرئاسية: “ما أعتقد أنه يتوجب علينا فعله، هو انتهاج مقاربة مختلفة إزاءه الآن، بحيث نؤكد بجلاء أننا ندعم قيادة المعارضة.”
أما نائب رئيس البرلمان الألماني، وولفغانغ كوبيكي فوصفه بـ”أنه فأر من فئران المجاري”. وقال أردوغان نفسه عن الرئيس الفرنسي ماكرون؛ إنه بحاجة إلى “نوع من العلاج النفسي”؛ بسبب الطريقة التي يتعامل بها مع المسلمين.
وبحسب الكاتب فالأسوأ من ذلك أن أردوغان في عيون الزعماء الغربيين هو الذي عطل انضمام السويد إلى حلف الناتو، بينما سمح لفنلندا بالدخول. كما أنه، من وجهة نظرهم، مذنب بارتكاب خطيئة لا تحتمل، ألا وهي الإبقاء على علاقات طيبة مع روسيا وأوكرانيا، ناهيك عن أن قواته المسلحة تتدخل في كل أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا، بدءا بسوريا ومرورا بليبيا والعراق.
وآخر نقاط الاحتكاك كانت في السليمانية داخل العراق، إذ يوجه المسؤولون الغربيون أصابع الاتهام نحو تركيا، بسبب شن هجوم بطائرة مسيرة على موكب للزعيم السوري الكردي الجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، التي تقول أنقرة؛ إنها فرع عن حزب العمال الكردستاني. إلا أن تركيا تنفي المسؤولية عن الهجوم على الموكب الذي كان يشتمل على ثلاثة من الحراس الشخصيين الحاملين للجنسية الأمريكية.
هل ستعود إزاحة أردوغان بالخير على تركيا والمنطقة؟
ويرى الكاتب أنه ما من شك في أن إزاحة أردوغان من منصبه سوف تقابل بترحيب شديد وبالشمبانيا في العواصم الغربية من برلين إلى واشنطن، وهذا أمر واضح. ولكن هل سيعود غيابه من الساحة الإقليمية بالخير على تركيا أو حتى على الشرق الأوسط؟
للإجابة على ذلك السؤال، يقول الكاتب إنه التقى بعدد من المسؤولين من الحكومة ومن المعارضة، بعض هؤلاء كانوا من السفراء السابقين.
يلفت هيسرت إلى انه من أجل كسب اهتمام الرأي العام، ولكي يحظى بالعناوين الرئيسية، أصدر مرشح المعارضة المشترك للرئاسة، كمال كيليتشدار أوغلو، سلسلة من الإعلانات، منها وعد بضمان السفر إلى أوروبا بدون تأشيرة خلال ثلاثة شهور من استلامه لمنصبه. كما هدد اليونان بالتدخل المسلح. وحرص على القيام بزيارات إلى كل من واشنطن وبريطانيا وألمانيا.
يرى الكاتب أنه لو تم التدبر فيها فسنجد أن الوعود التي قطعها على نفسه ستكون بعيدة المنال. ويضيف الكاتب أنه عندما ألح بالسؤال على أحد مسؤولي المعارضة التركية، أقر له بأن تعهد كمال كيليتشدار أوغلو بالحصول للمواطنين الأتراك على عبور بلا تأشيرة إلى بلاد الشنغن خلال ثلاثة شهور “مغرق في التفاؤل”. فحتى لو استجابت الحكومة التركية للشروط التي يضعها الاتحاد الأوروبي كافة، ستبقى هناك مشكلة قبرص.
وينقل هيرست عن السفير المتقاعد أونال جيفكوز، الذي يعتبر المستشار الأول في الشؤون الخارجية لدى كمال كيليتشدار أوغلو؛ قوله إن الحكومة الجديدة ستكون عازمة على تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي ومع الاتحاد الأوروبي ومع الناتو.
وقال السفير جيفكوز؛ إن السياسة الخارجية الجديدة سوف تقوم على مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للجيران، وسوف تكون سياسة خارجية محايدة تلتزم بالأعراف الدولية.” كما انتقد استخدام أردوغان للقوة الصلبة في ليبيا، وتعهد بأن تكون تركيا “وسيطا نزيها” في ليبيا، من خلال الحديث مع الأطراف كافة.
لكن الكاتب يقول إنه حتى هذا الأمر، الكلام فيه أسهل من الأفعال.
الملف السوري.. الكلام أسهل من الأفعال
أما في سوريا، فقد تعهدت المعارضة بالقيام بثلاثة أمور في الوقت نفسه، إعادة 3.7 مليون لاجئ سوري إلى ديارهم، والتعامل مع الرئيس بشار الأسد، وتصحيح سياسة التحيز والوقوف مع طرف دون آخر في الحرب الأهلية.
ويقول هيرست إنه سأل أحد المسؤولين في المعارضة: ما الذي سيحدث لمعارضي الأسد الذين يحظون بحماية القوات التركية في إدلب؟ فأجاب برسم ابتسامة عريضة على ثغره.
ويضيف أنه سيكون هناك وقت طويل لكسب ثقة نظام دمشق وحتى التخلص من ورطة إدلب، وقال: “علينا أن نعيد التواصل والتفاهم مع الناس في إدلب، وأن نعيد دمجهم في المجتمع. ولكن هذه مهمة لن نتمكن من إنجازها بمفردنا.”
أما فيما يخص أوكرانيا، فيشير الكاتب إلى أن كمال كيليتشدار أوغلو صرح بأنه يتوجب على تركيا الوقوف إلى جانب أوكرانيا في الحرب الروسية الأوكرانية، تصدى له من يعارضه من داخل حزبه، حزب الشعب الجمهوري. وقد أكد نائب رئيس المجموعة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، أن السياسة الحالية لتركيا هي السياسة الصائبة، مشيرا إلى أنه ليس بإمكان تركيا التضحية لا بأوكرانيا ولا بروسيا.
وقد أكد ذلك مسؤولان من داخل المعارضة، بل واتفقا على أنه ينبغي على أنقرة المضي قدما في مقاربتها الحالية المتوازنة، من خلال السعي للتوسط بين الطرفين. كما قالا إنه ينبغي على أنقرة ألا تنضم إلى نظام العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
ماذا عن المنفيين العرب في تركيا؟
ويؤكد هيرست على أن الشعور بتغيير النظام التركي الحالي -حال حدوثه- سيكون أشدة وطأة على الشرق الأوسط، مشيرا إلى أنه لا يعني بذلك فقط المنفيين المصريين والسوريين والفلسطينيين الذين استضافتهم تركيا، ولكن علاقة تركيا برؤساء الدول أنفسهم الذين كانوا يحاولون إبعاد أردوغان عن المسرح الدولي قبل سبع سنوات.
وأشار إلى أن السياسية الخارجية في الشرق الأوسط تبدأ وتتوقف مع قمة الهرم السياسي، فإذا كان لديك علاقة شخصية معه فستكون مسألة وقت فقط قبل استئناف العلاقات بعد أي موجة من الخلافات.
وأستشهد بتلقي تركيا الآن استثمارات بمليارات الدولارات من السعودية والإمارات، اللتين مولتا جزئيا محاولة الانقلاب على أردوغان، حسب قوله.
ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد، أدرك أن الأموال التي كان ينفقها على دعم الطغاة في شمال أفريقيا لم تكن تؤتي ثمارها ولهذا غير مساره، كما يرجع إلى أن تركيا اتخذت خيارات براغماتية، أحيانًا على حساب التخلي عن القضايا التي دافعت عنها، مثل تراجعها عن تقديم قتلة الصحافي السعودي جمال خاشقجي إلى العدالة.
وذكر أنه يتم التعامل مع تركيا كحليف تكتيكي في موسكو وفي الخليج على وجه التحديد، لأنها حاربت القوات الروسية في سوريا، واستخدمت طائراتها بدون طيار ضد قوات مجموعة فاغنر في ليبيا، وصدت الثورة المضادة التي تمولها الرياض وأبو ظبي.
وأوضح أن حقيقة أن تركيا تُعامل الآن كلاعب في المنطقة لديه قوات لنشرها لحماية حلفائه، أمر مهم، مضيفا أن توقيت إبعاد أردوغان قد يكون مثيرا للقلق أيضا بالنظر إلى أن تركيا قد تكون على وشك التنازل عن ركائز استقلالها في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لمواجهة عسكرية كاملة مع الصين.
يؤكد الكاتب أن هذا الخطر لا يغيب عن حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، الذين يسعون لتنويع تجارتهم واعتمادهم على الدولار.
ويختم الكاتب بالقول إن الصين نسبت الفضل لنفسها في ذوبان الجليد بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهي تعرض الآن الوساطة بين الفلسطينيين وإسرائيل. في هذه البيئة بالذات، من الضروري أن يكون للشرق الأوسط دول قوية مستعدة لممارسة استقلالها، هذا ما حققه أردوغان رغم كل أخطائه التي لا شك فيها، لذا فإن فقدانها الآن سيكون كارثة ليس فقط لتركيا، ولكن للمنطقة.
القدس العربي