يرى مراقبون أن تفسير اندفاع المملكة في اتجاه التأثير بشكل حاسم على الوضع في سورية، يعود إلى رغبتها بإخراج سورية من المحور الإيراني، مهما كلف الأمر من جهة، وإعادة الاستقرار في المنطقة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. هذا ما دفع السعودية إلى زيادة التنسيق مع القوى الإقليمية، للضغط باتجاه رحيل الأسد، ورعاية مرحلة انتقالية، لتوحيد الجهود في سورية، بعد رحيل الأسد، على محاربة داعش، وتحريرها من الهيمنة أو “الاحتلال” الإيراني، بحسب تعبير وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، والذي تكرر كثيراً في الأشهر القليلة الماضية. فبينما يمكن اعتبار محاربة داعش أولوية عسكرية وسياسية أمراً طارئاً في المنطقة، فإن تأثر الموقف السعودي تجاه سورية بالعامل الإيراني، حاضر منذ ثورة الخميني في 1979.
مسار العلاقات السعودية -السورية
أبسط ما يمكن أن توصف به العلاقات السعودية – السورية بأنها ظلت شديدة التعقيد، فسورية كانت حليفا تاريخياً لنظام الخميني، وتحالفت مع النظام الإيراني ضد العراق، الذي كان مدعوماً سعودياً، إبان حرب الخليج الأولى 1980. وتبدو هذه اللحظة، والتي يمكن اعتبارها مؤسسة، لا للعلاقات السعودية-السورية فقط، وإنما لتعقيداتها، إثر التحالف السوري مع نظام الخميني، بداية لرحلة طويلة عبر أكثر من ثلاثة عقود من نقاط التأرجح، تقارباً وتباعداً. لأن العلاقات السورية – الإيرانية نفسها، لم تكن علاقة هيمنة من طرف واحد، كما هو الحال الآن، بل تحالف دول، ما مكّن الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، من تحسين العلاقات مع الخليج، على السواء مع إيران.
كانت المجازر التي ارتكبها النظام السوري في حماة وحمص في 1982 نقطة تأزم، واستقبلت السعودية (قبلها وبعدها) إسلاميين معارضين فارّين من نظام حزب البعث. ثم جاء اتفاق
الطائف لإيقاف الحرب الأهلية اللبنانية، نقطة تقارب سعودي-سوري كبرى، عندما أقر الاتفاق، والذي تم برعاية سعودية، الوجود العسكري (الحاصل من السبعينيات) والوصاية السورية على لبنان، تلك التي لم تنته إلا بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005.
أتاح غزو العراق الكويت في 1990 للرئيس حافظ الأسد فرصة استثنائية لضرب عصفورين بحجر واحد، إن صح الوصف، فهو من ناحية انتقم من خصمه التاريخي، المتمثل بحزب البعث العراقي، والرئيس صدام حسين، ومن ناحية أخرى، عمّق علاقاته مع دول الخليج، تلك العلاقة التي لم تتعكر حتى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، ثم مهاجمة بشار الأسد السعودية بشكل عنيف إثر عدوان إسرائيل على لبنان في يوليو/تموز 2006.
يصف رجل المخابرات والسفير السعودي الأسبق في الولايات المتحدة، بندر بن سلطان لحظة نقاش الملك السعودي فهد بن عبد العزيز، مع حافظ الأسد، بخصوص الاحتلال العراقي للكويت، بشكل ملفت جداً، يقول إن الملك فهد طلب من الأسد موقفاً سياسياً ضد الاحتلال العراقي للكويت، فاستنكر الأخير الاقتصار على طلب الدعم السياسي، وأكد أنه سيساهم عسكرياً في تحرير الكويت، وقال إنه “لا ينسى وقوف الجنود السعوديين ستة أشهر في الجولان، بعد وقف إطلاق النار في حرب 1973″، وقال إنه “سيرسل أفضل فرق الجيش السوري، وهي الفرقة التاسعة، للقتال لتحرير الكويت”.
دخلت العلاقات السعودية – السورية شهر عسل طويل، امتد عقداً ونصف، حتى إن دمشق رفضت استقبال طائرة سعودية مخطوفة في سنة 2000 وتم استقبالها في بغداد، لكن هذه العلاقة الودية تحطمت إثر اغتيال الحريري، ثم إثر تداعيات حرب يوليو/تموز 2006 الإسرائيلية العدوانية على لبنان، حين حملت السعودية حزب الله مسؤولية بدء الحرب، باعتبارها “مغامرة غير محسوبة”، ثم لاحقا شن بشار الأسد هجوما على من لاموا حزب الله باعتبارهم “أشباه رجال”.
القطيعة التي امتدت سنوات في تلك الفترة، أنهاها العاهل السعودي، عبد الله بن عبد العزيز، عندما زار دمشق في 2009، واضعاً حداً “للخلافات العربية – العربية”. وانعكس هذا التفاهم على الحالة السياسية في لبنان من جهة، وعلى الاستثمارات السعودية في سورية من جهة أخرى، حتى أن محافظ صندوق النقد العربي السعودي، محمد الجاسر، أعلن عن تقديم قروض لسورية بقيمة 140 مليون دولار، في مارس/ آذار 2010، إثر زيارة الملك الثانية لدمشق في 2010.
اندلاع الثورة السورية
دأب بشار الأسد في بدايات الثورة في 2011، على مهاجمة من يسميهم “إرهابيين ومتطرفين” ولاحقاً “مندسين”، في محاولة مبكرة جدا لوصم الثورة السورية بـ “الإرهاب”، لاستثمار أدبيات “الحرب على الإرهاب” لمواجهتها. لكنه لم يهاجم السعودية مباشرة، ربما حتى 2013، على الرغم من مهاجمة حلفاء الأسد، والإعلام السوري غير الرسمي، السعودي، بشكل مباشر، منذ لحظات اندلاع الثورة السورية الأولى.
كانت العلاقات السعودية-السورية جيدة، بل وقعت السعودية، بعد أسابيع من بدء الثورة، في 6
أبريل/ نيسان 2011، عقداً لتمويل إنشاء محطة كهربائية في دير الزور، بتكلفة 375 مليون دولار، وكان التوقيع في أثناء زيارة وزير المالية السعودي، إبراهيم العساف، دمشق. وكانت تلك الخطوة، بمثابة دليل، مع مؤشرات أخرى، على محاولات السعودية، آنذاك، تجنب حدوث تغيرات كبرى في سورية، في سبل احتواء الثورة. ولا يخرج خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز، إلى الشعب السوري، في أغسطس/ آب 2011، عن هذا الإطار، فقد تضمن رفضاً قاطعاً لقمع النظام السوري وسلوكياته الدموية، لكنه استمر بالتعويل على القيادة السورية “وحكمتها” لوضع “إصلاحات شاملة”، تجنب سورية الدمار، وأعُلن، في حينه، استدعاء السفير السعودي “للتشاور” من دمشق.
بهذا جاء حماس السعودية للثورة السورية متأخرا، ولم يُعلن عنه بشكل واضح، برفع لافتة إسقاط النظام السوري بشكل صريح ومباشر، حتى عقد مؤتمر “أصدقاء سورية” الأول في تونس، بدايات 2012، إذ جاء دعم السعودية لإزالة النظام السوري، متأخرا، وحصل لاحقا، بمقررات جنيف 1، والتي تنص على رحيل الأسد، وإعادة تأهيل مؤسسات الدولة السورية.
السعودية تصعّد
في 24 فبراير/ شباط 2012، تم تأسيس مجموعة “أصدقاء سورية” والتي أُسست على خلفية استخدام روسيا والصين حق النقض “الفيتو” لمعارضة أي قرار يدين ممارسات النظام السوري الدموية والقمعية. ويمكن اعتبار أبرز قرارات الاجتماعات المتلاحقة التي تمت، هو الاعتراف بالمجلس الوطني السوري ممثلاً للشعب السوري، وربما كان أكثر قراراته إثارة للجدل، رفض تسليح “الجيش الحر” والذي كان في طور التشكل آنذاك.
انسحبت السعودية من المجموعة في أثناء انعقاد اجتماعها الأول، باعتبار أن المساعدات الإنسانية غير كافية في سورية. وهنا بدأ التلويح السعودي باستخدام القوة العسكرية لإزاحة الأسد، عندما أكد وزير الخارجية آنذاك، سعود الفيصل، أنه يجب أن “نقل السلطة في سورية طوعاً أو كرهاً”. وبحسب مصادر مختلفة، فقد بدأ الدعم العسكري السعودي للثورة السورية بعد هذه النقطة، ولكن بتحفظات كثيرة.
الموقف من المعارضة السورية
كانت السعودية من الدول التي دعمت التشكيلات الوطنية السورية الثائرة على النظام، خصوصاً “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، لكن الأمر لم يخل من تنافس شديد بين الدول
الإقليمية على القوى السورية. فانقسمت المعارضة السورية بين الداعمين، وكان هذا الانقسام في ذروته بعد الانقلاب العسكري في مصر في 3 يوليو/تموز 2013. ولكن، بعد التوافقات السياسية في المنطقة، انعكس هذا على القوى السياسية المعارضة السورية إيجابياً، حيث أصبحت مصدر توحيد للقوى السياسية السورية المعارضة، أكثر من أي وقت مضى.
كان أحمد الجربا من المعارضين السوريين القريبين من السعودية، وقد ترأس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، قبل أن يخلفه خالد خوجة بتوافق سعودي – تركي-قطري، خصوصاً بعد تقارب مواقف هذه الدول إقليميا منتصف العام الجاري. ويظهر هذا في اعتماد السعودية، “الائتلاف”، وهيئة التنسيق الوطني، باعتبارهما الكتلتين السياسيتين الوحيدتين الحاضرتين في اجتماعات المعارضة السورية في الرياض، الأسبوع الجاري، والتي وضعت رحيل الأسد، وهي اجتماعات وضعت رحيل الأسد سقفاً لمباحثاتها، بهدف تحقيق توافق أكبر بين القوى المعارضة السورية، خصوصاً “الائتلاف” وهيئة التنسيق، والمعارضين المستقلين.
الدعم العسكري
مر الدعم العسكري للثورة السورية بمرحلتين: الأولى، بدء هذا الدعم، بشكل تقريبي بعد انسحاب السعودية من اجتماعات أصدقاء سورية في فبراير/ شباط 2012. الثانية، إثر حدوث التوافقات الإقليمية، أخيراً، بدأت السعودية بتقديم دعم عسكري أكثر شمولية، وأقل انتقائية، بما يعتبر تنفيذاً جدياً للضغط باتجاه رحيل الأسد عسكرياً.
فقبل تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم، كان الدعم يوجه إلى فصائل قريبة من أحمد الجربا، رئيس الائتلاف الوطني السابق. كما قدم دعم سعودي لرئيس هيئة الأركان في الجيش الحر، اللواء سليم إدريس. بالإضافة إلى تقديم الدعم للمقدم أحمد النعمة في درعا، وفصائل أخرى بشكل محدود. واقتصر الدعم السعودي، في ذلك الوقت، على الفصائل في جنوب سورية، وتلك التي ليست قريبة من الإسلاميين أو الإخوان المسلمين تحديدا.
وتغيرت هذه السياسية، أخيراً، حيث لم تعد السعودية تضع “فيتو” على دعم فصائل إسلامية، وبدأت تدعم الفصائل القادرة على تحقيق إنجازات عسكرية، حتى لو كانت إسلامية أو قريبة من “الإخوان”. وامتد الدعم ليشمل فصائل في شمال سورية، وجاء هذا الدعم السعودي أيضا من خلال تنسيق قطري – تركي.
آفاق السياسة السعودية
لم تضع السعودية خط رجعة في المسألة السورية، بمعنى أنها تعلن، وبشكل مكرر وحاسم، أن لا بديل عن رحيل الأسد منذ فبراير/ شباط 2012، حيث لم يتوقف وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، منذ توليه مسؤولياته، عن تأكيده أن بلاده تضغط باتجاه رحيل الأسد، سياسياً أو عسكريا.
في الموقف السعودي من سورية، تلتبس عدة قضايا، أهمها مواجهة النفوذ الإيراني في دمشق، وإضعافه في لبنان. بالإضافة إلى محاربة تنظيم داعش. وكل هذا لا يتم إلا بعودة الاستقرار إلى سورية بأسرع وقت ممكن، وهذا ما يفسر إصرار السعودية على رحيل الأسد، في ظل عدم معارضتها بقاء النظام، وإعادة تأهيل مؤسساته العسكرية والمدنية، لتكون الدولة جامعة لكل السوريين. فعودة الاستقرار لها الأولوية، حتى على الديمقراطية والحرية، المحّرك الأساس لثورة السوريين في 2011. ظل الخطاب الرسمي السعودي يركز على رحيل الأسد، بدون التأكيد على الشكل الذي يجب أن يكون عليه النظام السوري البديل، باستثناء الحديث عن عناوين عامة، والتأكيدات على “سورية موحدة” و “لكل السوريين بغض النظر عن طوائفهم وأديانهم”.