بلدان شمال أفريقيا بين الهواجس الأوروبية والعزوف عن الإصلاح

بلدان شمال أفريقيا بين الهواجس الأوروبية والعزوف عن الإصلاح

يوم 14 يونيو غرقت السفينة المتهالكة أدريانا على بعد حوالي 80 كيلومترا من مدينة بيلوس جنوب اليونان، وكانت تحمل على متنها أعدادا كبيرة من المهاجرين قدّرهم البعض بحوالي 750 شخصا ومعظمهم من المصريين والسوريين والفلسطينيين والباكستانيين.

كانت السفينة خرجت قبل ذلك من مصر ثم توجهت إلى ميناء طبرق الليبي يقودها طاقم من تسعة مصريين في اتجاه إيطاليا.

سلّطت المأساة الضوء على التجارة المربحة التي يتعاطاها مهربو المهاجرين وسط حوض المتوسط. كما سلّطت الضوء في هذه الحادثة بالذات على دور المهربين المصريين في هذه التجارة.

من الأكيد أن مصر نجحت إلى حد كبير في منع عبور المهاجرين غير النظاميين من سواحل البلاد إلى الشواطئ الشمالية للمتوسط. ولكنها فشلت في منع التدفقات البشرية إلى ليبيا ومنها إلى أوروبا. وتقول التقديرات إن أكثر من 20 ألف مصري وصلوا إيطاليا العام الماضي عبر ليبيا.

نفس الأحداث الأليمة المرتبطة بغرق سفن المهاجرين ما انفكت تتكرر على سواحل شمال أفريقيا حيث يسعى الكثير من الشباب إلى الفرار من بلدانهم بحثا عن آفاق أرحب للعيش في القارة الأوروبية.

أصبحت المآسي أمرا شبه عادي عرض تلك السواحل. وأضحت مشرحات المستشفيات عاجزة عن استيعاب جثث الموتى المتكدسة.

من المفروض أن تخصص أوروبا وقتا أكبر في علاقتها بتونس ومصر لمناقشة إمكانية تركيز مشاريع مشتركة وبحث آفاق التعاون في مجال الطاقات الجديدة، لتعبيد الطريق نحو شراكة حقيقية بين الاتحاد الأوروبي وبلدان شمال أفريقيا

لم يكن من المفاجئ أن تعرب بلدان الاتحاد الأوروبي عن انشغالها لما يحدث أو أن تسعى إلى تعزيز قدرات حرس السواحل في تونس مصر وحتى في ليبيا حيث الأمور أكثر تعقيدا.

منح الاتحاد الأوروبي مؤخرا مصر ما قيمته 80 مليون يورو لتمويل برنامج للسيطرة على الحدود ومقاومة الهجرة غير النظامية والمساهمة في عمليات البحث والإنقاذ، بالإضافة إلى 20 مليون يورو للمساعدة على إيواء اللاجئين السودانيين.

أما تونس فتلقت في إطار برنامجها لخفر السواحل وعودا بمساعدات قيمتها أكثر من 125 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

تتضمن المقاربة الأوروبية مشكلتين. أولاها أنها تسعى لمعالجة أعراض الظاهرة وليس أسبابها العميقة. وثانيتها أنها ترتكز على البحث عن المسكنات التي تلبي رغبة الطرفين في إيجاد صيغ سريعة لاحتواء الوضع.

تعاني مصر وتونس من حالة من الهشاشة نتيجة عوامل هي أساسا عوامل ذاتية. فطيلة سنوات عديدة لم تكن للبلدين الرؤية التي تجعلهما تبحثان عن نماذج مستديمة للنمو الاقتصادي. لم يترك ذلك أمامهما في نهاية المطاف سوى خيار واحد هو السير في طريق الإجراءات التقشفية رغم أن مثل هذه الإجراءات قد تهدّد البلدين بحدوث اضطرابات اجتماعية يخشاها نظاما البلدين.

وعدم إدخال الإصلاحات اللازمة يضيّق من آفاق الفرص ويغذّي نزعات الإحباط التي تدفع الشباب إلى محاولة الهروب إلى الخارج.

وقد أضحى البلدان يعانيان من فقدان المواد الأساسية في الأسواق وتراجع مدخرات العملة الصعبة في حين تعترضهما مشاكل نحو إقناع صندوق النقد الدولي بعزمهما تغيير سياساتهما.

أبرمت مصر اتفاقية قرض بقيمة 3 مليارات دولار في أكتوبر الماضي ولكن صندوق النقد الدولي أجّل المراجعة التي كانت مقررة للاتفاقية ودفع الحصة الثانية من القرض. ومازالت هذه المؤسسة المالية الدولية تنتظر من القاهرة أن تلتزم بنوع من “الحيادية التي تسمح بالتنافسية بين القطاع الخاص والدولة” وأن تبيع بعض مؤسساتها للقطاع الخاص وأن تكبح جماح إنفاقها للمليارات من الدولارات على المشاريع الكبرى.

تونس التي كان ينظر إليها في السابق على أنها “النموذج الناجح للانتقال الديمقراطي” بعد الربيع العربي فقد استيقظت على وضع جديد صعب، ولم تعد تستطيع التعويل على سخاء المانحين الغربيين.

أما تونس فتواجه مأزقا من نوع آخر، إذ هي لا تزال تنتظر موافقة صندوق النقد الدولي على منحها قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار. ومن المفروض أن يساهم هذا القرض في فتح أبواب التمويلات التي تسمح لتونس بتجاوز أزمتها المالية الناتجة عن سنوات عديدة من سوء التصرف في مقدّراتها وموازنتها منذ 2011. خلال تلك الفترة التي يصفها البنك الدولي “بعشرية النمو الضائعة” واصلت الحكومات التونسية المتعاقبة الاقتراض من الخارج وتشغيل أعداد متزايدة من الموظفين الحكوميين ومراكمة الديون وتعميق الأزمة المالية للبلاد.

يبدو تسديد الديون الداخلية والخارجية خلال هذا العام والعام الذي يليه أمرا صعبا بالنسبة إلى البلدين. ولكن مصر وتونس لا تزالان مترددين في تبني الإصلاحات الضرورية محاولين الظهور بمظهر من يأبى الرضوخ “للإملاءات الخارجية”.

وفي الأثناء تتفاقم الضغوط الناتجة عن الفقر والبطالة في البلدين. بالإضافة إلى ذلك تعاني مصر من انفجار سكاني لا يتوقف.

ويواجه البلدان صعوبات متزايدة في الحصول على المساعدات الخارجية. فالأمور ليست كما كانت من قبل.

كانت مصر دوما تتطلع إلى الشرق للحصول على الدعم المالي. ولكن أصبح هناك اليوم بونٌ يفصل بين تطلعاتها واعتبارات الصناديق السيادية الخليجية بالخصوص.

تصر الرياض على أن تبدأ مصر في إدخال الإصلاحات الاقتصادية اللازمة قبل كل شيء، أما القاهرة فتشعر أن دورها الجيوستراتيجي يشكّل ضمانا كافيا للحصول على المساعدات. والخشية اليوم أن يؤدي تدني مستوى المدخرات من العملة الصعبة إلى إعاقة قدرات مصر على تسديد ديونها الخارجية.

أما تونس التي كان ينظر إليها في السابق على أنها “النموذج الناجح للانتقال الديمقراطي” بعد الربيع العربي فقد استيقظت على وضع جديد صعب، ولم تعد تستطيع التعويل على سخاء المانحين الغربيين.

وإن كانت أوروبا والولايات المتحدة أبدتا خلال الأسابيع الماضية “مرونة” أكبر واستعدادا للابتعاد عن الاشتراطات السياسية فهما لا تزالان تطالبان تونس بالتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل الحصول على المساعدات الاقتصادية التي تحتاجها.

المقاربة الأوروبية تتضمن مشكلتين. أولاها أنها تسعى لمعالجة أعراض الظاهرة وليس أسبابها العميقة. وثانيتها أنها ترتكز على البحث عن المسكنات التي تلبي رغبة الطرفين في إيجاد صيغ سريعة لاحتواء الوضع

ومما يعقد الأمور أكثر بالنسبة إلى تونس هو عامل الخوف الذي يحرك الأوروبيين أكثر من أيّ واعز آخر.

روما بالخصوص ما انفكت تحذر الغرب من خطر “الانهيار” الوشيك للاقتصاد التونسي وتدفق موجات الهجرة غير النظامية من تونس نحو السواحل الأوروبية. يخشى الإيطاليون أيضا أن تسقط تونس تحت التأثير الصيني والروسي. كما هم يخشون احتمال استيلاء الإسلاميين على السلطة ومن المخاطر التي يرون أنها قد تهدد أنبوب الغاز الذي يمر عبر التراب التونسي نحو إيطاليا.

من المفروض أن تخصص أوروبا وقتا أكبر في علاقتها بتونس ومصر لمناقشة إمكانية تركيز مشاريع مشتركة من أجل استغلال عامل القرب الجغرافي وبحث آفاق التعاون في مجال الطاقات الجديدة وكذلك تنقل الأشخاص بشكل يعود بالفائدة على الطرفين، وذلك لتعبيد الطريق نحو شراكة حقيقية بين الاتحاد الأوروبي وبلدان شمال أفريقيا.

عوضا عن ذلك تبدو أوروبا مهتمة بإقامة حدود متقدمة جنوب المتوسط. ولكن مواصلة معالجة ظاهرة الهجرة غير النظامية من منظور أمني فقط سوف يعزز الميولات السلطوية على الضفة الجنوبية لحوض المتوسط ويفاقم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء تصاعد ظاهرة الهجرة.

يبقى هناك بصيص من الأمل رغم كل شيء. فقد تصبح مشكلة الهجرة غير النظامية العامل الذي يجمع بين ضفتي المتوسط. وربما تنجح إيطاليا في كسر نمط المساومات المنفردة داخل الغرف المغلقة بسعيها لنحت ملامح إستراتيجية عالمية ضمن الندوة الدولية التي دعت إليها في روما حول الهجرة.

من الميزات التي يحتويها مشروع هذه الندوة أنها سوف تسمح لبلدان شمال أفريقيا بالجلوس حول نفس المائدة ولو كانت هذه المائدة في روما.

والأمل أن تبدأ بلدان شمال أفريقيا بالمناسبة تنسيق مواقفها حول سياسات الهجرة غير النظامية من أجل وضع حد للمآسي المنجرّة عن هذه الظاهرة، في نفس الوقت الذي تبدأ فيه بإدخال الإصلاحات التي تحتاجها.

العرب