في وقت يخاطر فيه الأوكرانيون بحياتهم في معركة خلاصهم الوطني، حري بالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية وحلفائهم الإعداد لهجوم مضاد خاص بهم ضد العدوان الروسي، ويمتثل ذلك في برنامج أوروبي جديد للتعافي تنطلق عمليات تطبيقه العام المقبل.
سيكون ذلك الهجوم المضاد باللاعنف، إذ يركز على عمليات إعادة البناء الاقتصادية والسياسية. لكنه سيساعد في تأمين نصر أوكراني ثابت. وسيذكر برنامج التعافي الطموح بـ”خطة مارشال”، فيسهم في صون أوكرانيا وتقوية موقعها وتعزيز أمن أوروبا، وصياغة مستقبل مشرق للدول المحيطة. كذلك سيسهم في إعادة تنشيط المشروع الأوروبي بحد ذاته، مما سيشكل نصراً حقيقياً على جهود روسيا الساعية إلى إغراق أوروبا مجدداً في عصر أكثر قتامة.
ولإضفاء صدقية على تلك الخطة، يتوجب على الدول الغربية الاستعداد لاستخدام الأصول الروسية المجمدة (لديها) من أجل المساعدة في تمويل إعادة بناء أوكرانيا. وبالفعل، صدقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على آلية دولية لتعويض أوكرانيا عن الخسائر والأضرار والإصابات التي لحقت بها جراء الحرب. ومن شأن خطة كهذه منح موسكو من جديد فرصة لاحترام التزاماتها الدولية. في المقابل، يتوجب على حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تتحمل معظم الأكلاف بطريقة أو بأخرى، وليس دافعو الضرائب الغربيون.
تتمثل استراتيجية الجيش الروسي بتدمير أوكرانيا وإغراقها في حرب استنزاف، والحرص على ألا تتفوق أوكرانيا الحرة والنامية على نظام بوتين المغرق في العزلة والفساد والديكتاتورية. في فبراير (شباط)، نقل المؤرخ ستيفن كوتكين لصحيفة “نيويوركر” أن الأوكرانيين ليسوا في طريق النصر بعد “لأنهم بحاجة إلى بيتهم، والروس يقومون بتدميره”. وتابع كوتكين تلخيص استراتيجية بوتين وتوصيفها، “لا أستطيع أن أحظى بها (بـ أوكرانيا)؟ إذاً، لن يحظى بها أحد!” [يعني أن بوتين يفكر في تدمير أوكرانيا إذا لم يستطع هزيمتها].
لم يواجه أصدقاء أوكرانيا بعد استراتيجية التدمير الروسية. لقد خسرت أوكرانيا 29 في المئة من ناتجها القومي الإجمالي عام 2022، فيما تهجر ما يزيد على 13 مليون أوكراني. كذلك تعرض القطاع الخاص في البلاد إلى ضرر هائل، وبلغت نسبة التضخم 27 في المئة. في المقابل، قدمت الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي قرابة 3 مليارات دولار شهرياً (100 مليون دولار في اليوم) لإبقاء الحكومة الأوكرانية فاعلة، لأنها لا تستطيع تحمل مزيد من الديون.
بيد أن البنك الدولي يقدر أن أوكرانيا ستحتاج إلى 14 مليار دولار إضافي على شكل منح هذا العام وحده، بهدف تلبية متطلبات إعادة البناء الأكثر إلحاحاً. وعلى مدى السنوات العشر المقبلة، وفق البنك الدولي، ستبلغ كلفة تعافي أوكرانيا وعمليات إعادة البناء أكثر من 400 مليار دولار.
ولا تشمل تلك التقديرات كلها أكلاف إعادة البناء في الأراضي الأوكرانية التي تحتلها روسيا راهناً. وعلى رغم أن مساعدات جمة قد تأتي في نهاية المطاف من مستثمري القطاع الخاص، إلا أن الأموال الخاصة لن تأتي أو تؤمن إلا عبر منح كبيرة جداً من الأموال العامة. إذ إن حاجات كثيرة، من عمليات إعادة بناء البنى التحتية إلى إزالة الألغام والأجسام المتفجرة، لن تنفذ أبداً عبر استثمارات القطاع الخاص.
واستكمالاً، يجب أن تحمل روسيا الجزء الأكبر من التكاليف المذكورة. ويشكل ذلك حالاً فريدة من نوعها في التاريخ إذ ترافق أكبر غزو دولي منذ عام 1942، مع ترك الدولة المعتدية وسائل يمكن استعمالها في تعويض ضحاياها، في نطاق السلطة التشريعية للدول الملتزمة بالقانون [إشارة إلى رؤوس الأموال والممتلكات الروسية التي طاولتها عقوبات الدول الغربية، ومن المستطاع استخدامها في إعادة إعمار أوكرانيا].
إذ يرجح أن تلك الأصول المالية الروسية المجمدة حديثاً قد تبلغ 300 مليار دولار. إن معظم تلك الأموال مودعة باليورو، وأكثرية هذه الأصول الموجودة في الاتحاد الأوروبي مركزة في غرفة المقاصة البلجيكية، المعروفة باسم “يوروكلير” Euroclear. واستطراداً، ثمة مقادير كبيرة من الأصول المالية الروسية مجمدة أيضاً في الولايات المتحدة وبريطانيا (بما فيها جزر الكايمان) وسويسرا، وعدد من الدول الأخرى.
ليس محقاً ولا عملياً أن نتوقع تسديد فاتورة إعادة إعمار أوكرانيا بأموال دافعي الضرائب في الدول الغربية، بدلاً روسيا. ومن غير المرجح أن يكون الكونغرس الأميركي الحالي سخياً مثل سابقه في تمرير اعتمادات استكمالية إلى أوكرانيا على شكل مساعدات اقتصادية خارجية. وبالتالي، سيغدو تحويل الأصول الروسية المجمدة إلى أوكرانيا محقاً من الناحية الأخلاقية، وحكيماً وملائماً من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية.
“بعد النصر”
يأمل الأوكرانيون في أن يكون مستقبلهم مختلفاً تماماً عن ماضيهم، حينما يتطلعون إلى ما سيأتي “بعد النصر”، وفق تعبير يحبونه، فإنهم يصبون إلى إصلاح سياسي يسير بموازاة التقدم الاقتصادي. إن برنامجاً في التعافي الاقتصادي يمول من الأصول الروسية المجمدة، ينبغي أن يصاغ بطريقة تهدف إلى مساعدتهم في تحقيق الغاية التي يصبون إليها.
استطراداً، تستذكر خطة مارشال بأنها برنامج أميركي ضخم أسهم في مساعدة أوروبا الغربية في التعافي بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن تلك الخطة أعقبت جهوداً إنسانية طارئة ضخمة ومتعددة الجنسيات، قادتها الولايات المتحدة، قدمت الغذاء والمأوى لملايين الجائعين والمشردين في أوروبا وشرق آسيا، بما في ذلك الصين.
ولضمانة انتصار الحرية ومنح القادة الأوروبيين دوراً حيوياً في رسم مستقبلهم، عمدت “خطة مارشال” إلى الربط بين المساعدات الأميركية التي كانت أموالها تنفق بالدرجة الأولى في الولايات المتحدة لشراء المواد والبضائع (المساعدات) كي ترسل إلى أوروبا، وبين الخطط والبرامج الأوروبية الهادفة إلى التعافي والإصلاح والتعاون الاقتصادي.
لكن فيما الصواريخ تحلق اليوم والدبابات تتقدم، فمن الطبيعي التفكير أقل بمسألتي إعادة الإعمار والتعافي. ويبقى مركز الثقل الحقيقي لهذه الحرب متمثلاً في قدرة أوكرانيا على التحمل والصمود اقتصادياً، والآفاق المتصلة بذلك الأمر، إلى جانب حجم المساعدات الخارجية ومدى ديمومتها.
وثمة حاجات ملحة داخل أوكرانيا. كذلك تبقى مسألة وضع برنامج ضخم يتولى فيه الأوروبيون والاتحاد الأوروبي دوراً كبيراً، بحاجة إلى وقت. لقد تطلب الأمر سنة كي تنتقل خطة مارشال من كلام في خطب إلى عمليات حقيقية على الأرض. في المقابل، سواء توقف القتال أم لا، ينبغي وضع برنامج تعاف أوروبي جديد وتفعيله مع حلول عام 2024، ويكون محوره إعادة بناء أوكرانيا.
من العقوبات إلى الإجراءات المضادة
خططت الدكتاتورية الروسية برنامج غزوها الإمبريالي على رغم إيداعها فوائض ضخمة من العملات الأجنبية في بنوك دول تحشد قواها اليوم للمساعدة في الدفاع عن أوكرانيا. وإثر الاجتياح الروسي في فبراير 2022، سارعت تلك الدول الحليفة لأوكرانيا إلى تجميد أو شل حركة تلك الأصول ضمن مرحلة العقوبات التي حاولت إقناع موسكو بالتخلي عن حربها العدوانية.
ولقد استنفدت تلك المرحلة مساراتها في الوقت الراهن. ليس هناك أي سيناريو يسمح لروسيا باستعادة أموالها فيما ضحاياها متروكين من دون تعويض. يمكن للدول التي تجمد تلك الأموال تأجيل هذه المشكلة لأشهر أو سنوات فيما الاقتصاد الأوكراني يحتضر. لكن، لن يؤدي مثل ذلك التأجيل إلا إلى تشجيع روسيا على المضي في حربها التدميرية وامتحان قدرة أوكرانيا على التحمل.
لقد حان الوقت اليوم للانتقال من العقوبات إلى الإجراءات المضادة التي تفرضها الدول [الداعمة لأوكرانيا والقابضة على الأصول الروسية]. ففي أطروحته عن مسؤولية الدولة تجاه الأفعال غير المشروعة، وصف الباحث في القانون الدولي، جايمس كراوفورد، فرض العقوبات بأنه فعل “غير ودي لكنه غير مناف للقانون”.
بكلمات أخرى، لا ينبغي على سارقي المصرف أن يتوقعوا احترام المصارف لصناديق ودائعهم المحفوظة لديها. ففي تلك الحالة، تمثل المصارف حكومات وطنية تتمتع بسلطة قضائية على الحسابات السيادية التي تحترمها في العادة. وبالتالي، تشكل الإجراءات المضادة أفعالاً تنهض بها دولة تستند إلى ذلك الاعتبار العادي.
وبحسب تقرير نشره “معهد نيو لاينز للدراسات السياسية والاستراتيجية” New Lines Institute for Strategy and Policy، أعده أحد كتاب هذه المقالة (زيليكاو)، فإن الإجرءات (المضادة المذكورة) اعتبرت منذ زمن طويل بمثابة وسيلة قضائية إضافية تهدف إلى المساعدة الذاتية ضمن النظام الدولي. وطالما بقيت الإجراءات المضادة متناسبة مع الأفعال غير المشروعة المرتكبة، فإنها لا تتطلب عمليات قضائية أو تحكيمية في تطبيق مستلزمات التعويضات.
لا ينبغي على سارقي المصرف أن يتوقعوا احترام المصارف لصناديق ودائعهم المحفوظة لديها
في ذلك السياق، بدأت روسيا بالفعل باستخدام الإجراءات المضادة التي تستعملها الدولة، لكنها وجهتها ضد الملكيات الخاصة (ملكيات الأجانب في روسيا)، وهذا يمثل انتهاكاً للقانون الدولي. ففي أبريل (نيسان) 2023، عبر مرسوم رئاسي، بدأت روسيا على نحو أكثر وضوحاً، بوضع اليد على الشركات الأجنبية والأصول الخاصة التي تحوز الحكومة الروسية سلطة قانونية عليها.
وجرى تطبيق ذاك المرسوم بداية على شركات من فنلندا وألمانيا، فأجاز (المرسوم) للحكومة الروسية وضع اليد على الأملاك الخاصة كافة العائدة لشركات من بلدان مصنفة “معادية” لأنها انضمت إلى تدابير تجميد الأصول التي طبقتها جميع دول الاتحاد الأوروبي. وبررت روسيا تلك السياسة بلغة الإجراءات المضادة المتخذة من الدولة، زاعمة أنها “رد فعل على الأفعال العدائية التي نفذتها الدول غير الصديقة”، وفق تعبير المتحدث باسم الكرملين.
واستطراداً، لن تأتي تلك الإجراءات المضادة بصورة إجبارية. إذ سيجري التعامل معها، على نحو نموذجي، من خارج أطر المسارات المعتمدة من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والفصل السابع، أي تلك المسارات المستخدمة في تطبيق التفويضات وحفظ السلام. في المقابل، لأن الأمم المتحدة أثبتت أن روسيا انتهكت قواعد القانون الدولي، وأن ذاك الانتهاك محط اهتمام دولي مشترك، فإنها منحت الدول الأعضاء الحق في التصرف. كذلك ثبتت [الأمم المتحدة] فكرة أن روسيا عليها واجب التعويض على الدول المتضررة بفعل عدوانها.
أصدقاء أوكرانيا لم يواجهوا بعد استراتيجية التدمير الروسية
في الأنظمة البرلمانية، من المستطاع تبني إجراءات مضادة عبر قرارات حكومية أو تشريعات برلمانية. أما في الأنظمة الرئاسية، فإن سلطات الطوارئ التنفيذية تكفي على الأرجح لهذه المهمة. وبصورة فعلية، يعطي القانون الأميركي الراهن رئيس الولايات المتحدة سلطة الأمر بتجيير ذلك النوع من التحويلات إلى حسابات ضمان، على غرار ما فعل الرئيس رونالد ريغان بأموال الدولة الإيرانية عام 1981، والرئيس جورج هـ. دبليو بوش بأموال الدولة العراقية عام 1992. ولا تتعارض تلك التدابير مع مبدأ الحصانة السيادية، الذي جرى تطويره بهدف حماية الدول الأجنبية من المقاضاة أمام محاكم دول أخرى. إن تحرك دولة ما ضد حسابات دولة أخرى يشكل أمراً مختلفاً تماماً. إذ تمثل هكذا أفعال وتحركات خيارات سياسية دولية ليست من اختصاص المحاكم في العادة.
بعد اجتياح العراق للكويت عام 1990، تبنت الدول إجراءات مضادة إثر فشل العقوبات. وبسرعة، نقلت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة أموال الدولة العراقية المجمدة إلى حساب ضمان دولي بغية تأمين التعويضات من دون موافقة العراق الطوعية. وعلى نحو مماثل، ستدفع روسيا إلى تنفيذ واجباتها وتسديد التعويضات لضحاياها، إما طوعاً أو إكراهاً. لا أولوية لحقوق المعتدي إزاء حقوق ضحاياه. ويمكن لروسيا في الظروف العادية التماس التعويض عن تلك التحويلات.
في المقابل، لن يحق لروسيا، وفق القانون الدولي، الحصول على تعويضات إذا جاءت الإجراءات المضادة متناسبة ومتخذة استناداً إلى انتهاك روسيا الصارخ لقواعد القانون الدولي الإلزامية، مع ملاحظة أن ذلك الانتهاك جرى تأكيده بالفعل من محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة. ولأن الإجراءات المضادة ستنقل الأصول الروسية إلى حسابات ضمان لمصلحة ضحايا العدوان الروسي، وليس للمصلحة العامة للدول التي تتولى نقل تلك الأصول، وبالتالي فإن أي مزاعم روسية ستنقض عبر حقوق أولئك الذين تضرروا بفعل عدوان موسكو.
كل تأخير إضافي في إحقاق العدالة سيؤدي إلى الحرمان من العدالة
وبصورة فعلية، بدأت أوكرانيا وغيرها من الدول في وضع سجل أضرار بغية الاضطلاع بالعملية الشاقة المتمثلة في تسجيل الخسائر الأوكرانية تحضيراً لعملية مطالبات دولية، كأن ينفذ ذلك عبر مفوضية أممية يمكنها وضع جوائز ومكافآت. من ناحية أخرى، إن مطالبات دولية مطولة كهذه لا يمكنها وحدها، وبالسرعة المطلوبة، معالجة حال الاضطراب الواسع التي لحقت بالاقتصاد والمجتمع الأوكرانيين.
لكن من خلال الإجراءات المضادة، تستطيع الدول التي جمدت الأصول الروسية تصميم برامج كبرى عن إعادة الإعمار والتعافي، في الوقت نفسه الذي تعمل على تمويل عملية تعويض مخصصة لأصحاب مطالبات آخرين ودول متضررة أخرى. وقد يفضل بعض الحكومات التريث قبل تطبيق الإجراءات المضادة إلى حين تحسن ظروف التوصل إلى تسوية عبر المفاوضات.
غير أن عملية إطلاق حزمة إجراءات مضادة يمكنها بحد ذاتها، أن تحسن آفاق التفاوض. وبموجب القانون الدولي، يمكن للدول المشاركة [في فرض الإجراءات المضادة] أن تبلغ روسيا جماعياً بقرارها بشأن تطبيق الإجراءات المضادة، وعرض إمكان التفاوض مع روسيا أثناء تحضيرها لتلك الإجراءات. وكذلك تستطيع دول “مجموعة السبع” أن تعطي الإشارة لذلك في الأسابيع المقبلة، وتستكشف استعداد روسيا للتفاوض، لكن من دون أن يصب ذلك في مصلحة استراتيجية روسيا المستندة على المماطلة وزيادة التدمير.
وحتى بعد إجراء التحويلات المتعلقة بالأموال الروسية المجمدة في الغرب إلى حسابات ضمان تدار بفاعلية، فإن إيصال التزامات مالية ضخمة إلى مشاريع وأصحاب مطالبات وحقوق، سيتطلب وقتاً. وقد تفضل الدول أن تبدأ بالاقتصار على توزيع الدخل المتأتي من هذه الحسابات. إلا أن أمناء حسابات الضمانات يحتاجون إلى السيطرة على الأصول الروسية كي تتسنى لهم إدارة وتحويل الدخل المتأتي من تلك الأصول. مع حلول عام 2024، ستكون مرت على أوكرانيا عشر سنوات من الحرب، والسنتان الأخيرتان زادتا من المعاناة والاضطراب على نحو دراماتيكي. وبالتالي، إن أي تأخير إضافي في إحقاق العدالة سيغدو حرماناً من العدالة.
يخشى بعضهم من أن تكون عملية تحويل الأصول الروسية عملية بالغة الاستثنائية، وقد تخيف الدول وتدفعها إلى الامتناع عن الاحتفاظ باحتياطات ضخمة من النقد الأجنبي المرتبط بالدول التي تطبق تلك الإجراءات المضادة. ولأن الولايات المتحدة تعاني ذلك العجز الكبير في الحسابات الجارية، وتمثل مديناً موثوقاً ومتوقعاً بصورة نسبية، وأيضاً لأن معظم التجارات والتبادلات الدولية تجري بالدولار، فإن سندات الخزانة وغيرها من الأصول المقومة بالدولار تشكل احتياطات النقد الأجنبي الأكثر توفراً وسيولة التي يمكن للبلدان الأخرى [أي البلدان غير المشاركة في تطبيق الإجراءات المضادة لروسيا] الاحتفاظ بها.
واستكمالاً، على رغم أن معظم أصول روسيا المجمدة هي باليورو، يخشى بعض المحللين من أن يؤدي تحويلها [أي نقلها إلى صناديق ضمان لتعويض أوكرانيا] إلى تهديد وضعية الدولار في أسواق المال العالمية. وعلى نحو مفهوم، تتردد أصداء تلك المقاربة في أوساط عدد من المصرفيين الذين يزعجهم ذلك النوع من التدخلات السياسية والمعتادين على اعتبار حسابات الدول مقدسة (أي ينبغي أن تبقى مصانة ولا تمس)، على رغم معرفتهم بأنه من الصعب عدم المساس بحسابات الخارجين على القانون العاديين.
واستطراداً، مما لا شك فيه إن بعض المخاوف المزمنة على دور الدولار في الاقتصاد العالمي صحيحة ومبررة، بيد أن تحويل احتياطات روسيا المجمدة بالفعل لن يضيف شيئاً كثيراً إلى تلك المخاوف. فمن ناحية أولى، ستعمل أعمال الولايات المتحدة بالتنسيق مع مصدري عملات احتياطية رئيسة أخرى، على غرار اليورو والين والجنيه الاسترليني. كذلك حتى لو عمد بلد كالبرازيل إلى تبديل حيازاته من النقد الأجنبي من الدولار إلى الرنمينبي (العملة الصينية)، فإن الصينيين بعد ذلك، في الطرف الآخر من تلك التجارة، سيحتاجون إلى مراكمة تلك الدولارات في مكان ما، ربما من طريق الاستثمار في أصول أخرى بالدولار، لأن الصين تدير فائضاً في الحساب الجاري مع الولايات المتحدة. وتذكيراً، إن تحويل الدولارات إلى ذهب يمثل عملية لها محدوديتها، لأنه يتوجب على الدول تحويل الذهب إلى نقود بغية شراء البضائع والحاجات والسلع. وكذلك يحمل الرنمينبي الصيني مخاطره معه، وتتضمن غموض وإبهام وتقلب الحكم في الصين وغياب حكم القانون واستقلاليته.
وثمة أسباب أخرى للشك في إمكان أن تحمل الإجراءات المضادة في حق روسيا، تهديداً لوضعية الدولار. وفي إشارة مبكرة تتعلق بنواياها، أقدمت روسيا على إعادة تقييم المخاطر السياسية المرتبطة بمقتنياتها من الدولار عام 2018، فعملت بصورة ظاهرة إلى تحويل أكثر من 80 مليار دولار إلى ذهب، وحولت مبالغ أخرى إلى عملات غير الدولار، وفتحت حسابات خارجية بالدولار كتلك الموجودة في غرفة مقاصة “يوروكلير” ببلجيكا وجزر كايمان البريطانية. بيد أن هذه الخطوات لم تولد أي تأثير ملحوظ في قيمة الدولار الذي سجل ارتفاعاً خلال تلك الفترة نفسها.
لا تملك روسيا دفاعاً فاعلاً يجنبها تسديد التعويضات لأصحاب الممتلكات التي صادرتها
ويضاف إلى ذلك أن عملية تجميد الأصول الروسية التي نفذتها الدول الغربية في فبراير (شباط) 2022 شكلت بالفعل صدمة في الدول التي لديها أسباب منطقية للخوف على احتياطاتها الدولارية. إذ إن المخاطر السياسية المتزايدة الآن يجري تقدير أكلافها إلى حد كبير ضمن مخصصات الأصول في البنوك حول العالم. وفي هذا الإطار، حاولت البرازيل والصين وغيرهما من الدول، التخلي عن الدولار في تجارتهما المالية. لكن، لم تؤد تلك الخطوة إلا إلى تأثير طفيف في قيمة الدولار، الذي ما زال معتمداً في 90 في المئة من معاملات القطع الأجنبي العالمية.
ووفق كولن وايس، الخبير المالي الدولي في “مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي” Federal Reserve Board of Governors، فإن “قرابة ثلاثة أرباع الأصول الأميركية التي تستحوذها حكومات أجنبية [كانت] بيد حلفاء” منذ عام 2022. وفي النتيجة، حتى لو عمدت أسواق ناشئة واقتصادات نامية عدة (من ضمنها دول رئيسة في تصدير النفط) إلى التوقف عن استخدام الدولار واستبدلته بالرنمينبي، فإن الأثر النهائي لذلك سيكون طفيفاً.
وحاضراً، تعمل الصين على بيع الدولارات لحماية عملتها من الانخفاض المفرط. وفي حال حدوث ذلك النوع من التبدلات الكبرى في الاحتياطات، فقد تتوقف الصين عن بيع الدولارات، أو تبدأ حتى، بدل ذلك، ببيع عملتها لمنعها من الارتفاع أكثر من اللزوم. ولجأ الاحتياطي الفيدرالي نفسه إلى بيع احتياطات الدولار على نطاق واسع بالتوازي مع إلغائه برنامج شراء السندات المعروف ببرنامج “التيسير الكمي” [أي شراء السندات بهدف ضخ كميات من العملة في الأسواق]. وإذا اقتضت الضرورة، يمكن للاحتياطي الفيدرالي أن يقلب مسار تلك السياسات، ويتشدد إزاء حدوث ركود مقلق.
تحذير لذوي التوجهات العدوانية
في الإطار نفسه، قد ترد روسيا على الإجراءات المضادة التي تتخذها الدول. لكنها، إلى حد ما، فعلت ذلك في وقت سابق من طريق مصادرتها غير القانونية للأملاك الخاصة التي يملكها أجانب. وبالتالي، إذا نفذت روسيا خطوات تأميم إضافية فسيأتي ذلك بوصفه استكمالاً للطلاق الاقتصادي المؤلم مع أوروبا وأميركا الشمالية واليابان، الذي شرعت به روسيا حينما وسعت اجتياحها لأوكرانيا عام 2022. كذلك لا تتمتع روسيا بدفاع فاعل يجنبها تسديد التعويضات لأصحاب الممتلكات التي صادرتها. إذ لم تغز فنلندا وألمانيا (الدولتان اللتان أممت روسيا ممتلكاتهما على الأرض الروسية) أية دولة أخرى. وبناء على بنود وتفاصيل اتفاقات الاستثمار، قد تبدأ الهيئات التحكيمية في إصدار الأحكام في حق روسيا. وإذا لم تسدد الأخيرة التعويضات لضحاياها، فإن مطالباتهم ودعاويهم تنضم لمطالبات ودعاوى أخرى نابعة من الحرب، وبالتالي، فقد تتجمع تلك القضايا كلها ضمن عملية مطالبات واسعة ستغدو مؤهلة للحصول على تمويل مصدره الأصول الروسية المحولة [أي التي ستحول إلى صندوق ضمان لتعويض أوكرانيا]. وكذلك من شأن التنازع بشأن إجراءات نزع الملكية [عمليات المصادرة التي أجرتها موسكو] أيضاً أن تؤدي إلى أحكام قضائية تستهدف الأملاك الروسية التي لم تجمد بعد.
وإضافة إلى الرد الروسي، فإن دولاً عدة تخشى السابقة التي تقدم عليها والمتمثلة بتحويل الأصول الروسية، إذ يقلقها أن تلجأ دول أخرى متضررة إلى تأميم الأملاك الأجنبية ربما في سياق إجراءات مضادة تنهض بها حكوماتها للحصول على تعويضات جراء مظالم تعرضت لها في الماضي. لكن هذه المسألة قديمة.
وعلى مدار أجيال، عمدت دول عدة إلى تأميم أملاك أجنبية اعتبرتها استملاكات غير مشروعة أو من تركة الاستعمار. وفي بعض الحالات أدت المفاوضات إثر هكذا عمليات تأميم إلى تسديد تعويضات في نهاية المطاف. لكن في حالات أخرى، هذا الأمر لم يحصل. قلة ممن درسوا ما حصل لبلدان طبقت تأميمات غير تعويضية على غرار فنزويلا، يودون تكرار ذاك النموذج. وبالتالي، تستقبل تلك الحكومات مستثمرين أجانب وتتسامح معهم لأنها تعتقد أن مصلحتها تكمن في ذلك.
بالتالي، من المستبعد أن تغفل تلك الحكومات كل تلك الاستثمارات والتضحية بمصالحها ورفاهيتها لمجرد أن بعض الدول ضبطت الأصول الروسية وحولتها لتسديد التعويضات لمصلحة ضحايا الحرب الأوكرانية. أما بالنسبة إلى الأصول المالية الأكثر سيولة، تملك الدول الأجنبية عادة سلطة قانونية تقتصر على الحيازات المالية بعملاتها الخاصة. ويعني ذلك أن لا سلطة تشريعية لها على حسابات بالدولار واليورو والين والجنيه الاسترليني.
في سياق متصل فمن شأن تحويل الأصول الروسية، إضافة إلى كونه سابقة خطرة، أن يشكل تحذيراً صارماً لدول أخرى تفكر بشن حروب عدوانية. وسيكون ذلك بمثابة تذكير عن مدى ضخامة أكلاف انتهاك القواعد الدولية في عالم ما زال شديد الترابط.
إذاً، يمثل أي برنامج جديد عن التعافي الاقتصادي الأوروبي يتمحور حول أوكرانيا ويمول بواسطة الأصول الروسية، شرطاً أساسياً للفوز بالسلام، إضافة إلى أنه شرط أساسي للانتصار في الحرب ومواجهة استراتيجية الممطالة والتدمير الروسية. ووقعت روسيا في خطأ أدى إلى ترك وسائل تتكفل باستدامة وتمويل مثل ذلك البرنامج، في أيدي الدول الحرة،. وبالتالي، بات متوجباً على الأخيرة أن تبني على ذاك الخطأ بالتحديد.
اندبدنت عربي