الموصل العراقية تنهض من رماد “داعش” وتعيد بناء نفسها

الموصل العراقية تنهض من رماد “داعش” وتعيد بناء نفسها

في الوقت الذي تتعافى فيه الموصل ببطء من مخلفات الحرب، ما تزال هناك مجموعة من التحديات، بما في ذلك المسؤولون الفاسدون ونقاط الضعف المؤسسية في العراق. ‏

كان عماد زكي محمد، 55 عاما، وهو إمام محلي من الموصل، يذهب بانتظام لتلاوة الأذان في جامع النوري الكبير في الموصل، العراق، إلى أن قام ‏تنظيم “داعش” بتفجير المبنى التاريخي ومئذنته المميزة، “الحدباء”، المائلة في حزيران (يونيو) 2017. وكان ذلك آخر موقف للجماعة الإرهابية قبل إعلان هزيمتهم خلال الحرب الطويلة التي خاضتها ضد تحالف القوات العراقية بقيادة الولايات المتحدة. ‏
في العام 2014، عندما استولى “داعش” على مدينة الموصل، أعلن زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، عن إقامة “الخلافة الإسلامية” في جامع النوري الكبير. وفي ذلك اليوم المشؤوم، وخلال المعركة التي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، فقد محمد مسجده المحبوب، وابنه أيضا. وشهد سكان الموصل واحدة من أعنف الصراعات الحضرية منذ الحرب العالمية الثانية. لم يُترك أي شيء بمنأى عن أهوال الحرب.‏
‏ولكن الآن، بعد ما يقرب من عقد من الزمان، أصبح بالوسع سماع صوت محمد مرة أخرى وهو يتلوا الأذان مرة أخرى من المسجد، متجاوزا ذلك الخليط من الأصوات النشاز الصادرة من ضوضاء إعادة بناء -ليس جامع النوري الكبير فقط، وإنما المباني التاريخية الأخرى والمواقع الدينية والمتاحف في الموصل أيضًا.‏
‏بدأ محمد في العودة إلى المسجد قبل عامين للصلاة وتلاوة الأذان. ويقول: “المدينة تعود إلينا الآن. الوضع أفضل. كل ما يريده سكان الموصل الآن هو حياة أفضل”. وكان محمد قد فر، مثل غيره من الموصليين، من المدينة خلال المعركة. وفي السنوات الأخيرة، وبينما يقوم اتحاد من المنظمات الدولية بإعادة بناء المدينة، عادت عائلته والعديد من الآخرين إلى الموصل.‏
ومع ذلك، ما تزال الموصل –ثاني أكبر مدينة في العراق وواحدة من أهم المدن في التاريخ القديم لأنها كانت ذات يوم عاصمة الإمبراطورية الآشورية – في حالة من الخراب. ويمكن مشاهدة لمحات فقط من هندستها المعمارية الجميلة في هياكلها التي فجرتها القنابل؛ حيث ما تزال مبانيها التاريخية منهارة في أكوام من الحطام والواجهات المثقوبة بالرصاص.‏
‏ويبدو كل شارع في المدينة مسكونا بروح المباني العريقة التي مزقتها الحرب، والتي يتم إنعاشها ببطء بينما يعمل العراقيون والجماعات الدولية بلا كلل لإعادة المدينة المنكوبة إلى الحياة.‏
منذ العام 2018، بدأت مجموعة من الجهات الفاعلة العالمية  في إعادة بناء الموصل، وخاصة معالمها الشهيرة. والآن، يعاد بناء مسجد النوري في ‏‏إطار مشروع منظمة اليونسكو‏‏ “إحياء روح الموصل”، الذي يسعى إلى بث حياة جديدة في واحدة من أقدم مدن العالم. ‏
‏وساهمت الحكومة الإماراتية بتقديم مبلغ 50.4 مليون دولار في للبرنامج، وهو ما أشادت به المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، باعتباره “تعاونا غير مسبوق ‏‏لإعادة بناء التراث الثقافي‏‏ في العراق”. ويشمل البرنامج ترميم جامع النوري الكبير، وكنيسة الساعة، وكنيسة الطاهرة التي يبلغ عمرها 800 عام –الرموز التي تؤشر على تنوع الموصل، ومن المقرر الانتهاء من هذه الأعمال بحلول نهاية هذا العام.‏
ترميم “هوية الموصل”‏
‏كما تجري الآن إعادة بناء “متحف الموصل الثقافي”، ثاني أكبر متحف في العراق بعد “المتحف الوطني” في بغداد، ومن المقرر إعادة افتتاحه في العام 2026.‏ و‏كان قد تم استهداف المتحف الثقافي، الذي أطلق عليه الموصليون اسم “هوية الموصل”، في العام 2014 وكاد “داعش” أن يهدمه، وألحق به في الأثناء أضرارا كبيرة ودمر آثارا آشورية رئيسية، بما في ذلك أسد ضخم من نمرود، وتمثالان للآلهة الحامية الآشورية، و”مسلة المأدُبة”، وقاعدة عرش الملك آشورناصربال الثاني. كما قام التنظيم بحرق أكثر من 28.000 من الكتب والمخطوطات النادرة.‏
ابتداء من العام 2018، يقوم على تجديد المتحف كونسورتيوم بقيادة “مجلس الدولة للآثار والتراث العراقي” (SBAH)، وهو جزء من وزارة الثقافة التي تشرف على مشروع الترميم، جنبًا إلى جنب مع متحف اللوفر و”مؤسسة سميثسونيان” و”الصندوق العالمي للآثار” و”مؤسسة التراث الثقافي” (ألِف).‏
‏يعاد بناء “متحف الموصل الثقافي” على غرار هيكله الأصلي الذي صممه المهندس المعماري العراقي الحداثي الشهير محمد مكية. وافتتحه الملك فيصل الثاني في العام 1952 ليحكي قصة شمال العراق في صالات مخصصة لعصور ما قبل التاريخ، والحضر، وآشور والإسلام. وتم فتح المتحف للجمهور في العام 1974.‏
‏”نحن نعيد بناء المتحف وفقًا لتصميمه الأصلي، لكننا نترك أيضًا بعض الأجزاء في حالة التدمير التي هي عليها”، قال زيد غازي سعد الله، مدير “متحف الموصل الثقافي” بينما يشير إلى حفرة عملاقة في “قاعة آشور” بالمتحف، وهي المنطقة الأكثر تضررًا من أعمال “داعش” عندما فجر قنبلة في الأرضية. وفي الجوار، ثمة بقايا من المنحوتات المسمارية الدقيقة والمنحوتات الآشورية المجنحة التي يحاول موظفو المتحف والمرممون من متحف اللوفر إنقاذها.‏
‏ويضيف سعد الله في حديث مع الـ”مونيتور”: “كان داعش يحاول تدمير ذاكرة العراق والشعب العراقي، لكن سكان الموصل يريدون أن تبقى ذكرى الدمار حاضرة. إنهم لا يريدون أن ينسوا ما حدث. إنهم يريدون أن يتذكروا كيف أعدنا بناء المدينة”.‏
من منتصف أيار (مايو) حتى 1 حزيران (يونيو)، أقيم معرض “متحف الموصل الثقافي: من الدمار إلى إعادة التأهيل” في “القاعة الملكية” السابقة التي تم ترميمها حديثًا بجوار المتحف، إيذانًا بأول عرض للقطع الأثرية من مجموعة المتحف منذ  الحرب.‏
في حين أن التدمير الأخير للمتحف على يد “داعش” كان الأقسى، تم إغلاق المتحف الثقافي بشكل متقطع على مدى 20 عامًا -وهي علامة بحد ذاتها على تاريخ العراق البائس ومعاناته الشديدة في العقود الأخيرة، من العقوبات والحرب إلى الهجمات المستمرة للمتشددين.‏
‏تقول أريان توماس، مديرة قسم آثار الشرق الأوسط القديم في متحف اللوفر: “المتحف رمزي لأنه يحكي قصة الموصل ومنطقة شمال العراق بأكملها”. وقالت لـ”المونيتور”: “لم تكن عملية الترميم سهلة. خلال عملية لتقييم الموقع في العام 2019، اكتشفوا قنبلة نشطة على السطح”. وأضافت توماس: “كان التحدي هو معرفة ما الذي يمكننا إنقاذه وترميمه من الدمار، وكيف”، مشيرة إلى أنه كان لا بد من تدريب العراقيين أيضًا على كيفية ترميم المبنى وقطعه الأثرية.‏
‏وأضافت: “كانوا متحمسين للغاية، والعمل ليس سهلا. كيف تتعامل مع ملايين القطع التي فُجِّرت، بعضها ثقيل وبعضها خفيف؟ من نواح كثيرة، تشكل عملية الترميم إعادة الإعمار معجزة”.‏
‏وفقًا لسعد الله وغيره من المتخصصين، ما تزال هناك العديد من القطع الأثرية المنهوبة والمتضررة التي تخص المتحف، والتي لم يتم العثور عليها أو إعادتها بعد.‏
‏إعادة الإعمار تجلب إمكانيات اقتصادية جديدة
‏وفقا لتقرير صدر عن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” في العام 2019، فإن لإعادة إعمار الموصل القدرة على توليد حوالي 80.000 وظيفة مباشرة، و120.000 وظيفة غير مباشرة على مدار خمس سنوات. ويدل هذا التقدير على حجم فرص العمل التي يمكن أن تنشأ عن تطوير البنية التحتية وحدها في المدينة.‏
في حديث مع “المونيتور”، قالت أليساندرا بيروزيتو، المديرة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “الصندوق العالمي للآثار: ‏”تجري عملية إحياء الموصل في جميع مجالات الحياة في المدينة. ويؤدي إنشاء بنية تحتية جديدة إلى الكثير من التوظيف في قطاعات البناء والهندسة، وتوسيع صناعة الخدمات لدعم الاقتصاد المتنامي. وتعد المبادرات الثقافية، مثل إعادة تأهيل متحف الموصل الثقافي، عنصرًا مهمًا في تجديد المدينة، والذي سيجلب الناس إلى المركز -ليس لزيارة المتحف فحسب، وإنما لتناول الطعام في المطاعم والإقامة في الفنادق أيضًا”.‏
‏يقول مواطن عراقي من الموصل لـ”المونيتور” طالبًا عدم الكشف عن هويته: “ينظر الناس إلى الموصل على أنها وصفة للنجاح على الرغم من الجهود التي تبذلها الأحزاب الكردية لإعاقة العملية لأنها لا تتماشى مع مصالحها”.‏
‏وكما أفاد قاسم عبد الرحمن خضر، وهو مترجم عراقي يعمل في الموصل، فقد “نزح العديد من سكان الموصل خلال النزاع، وهم يحتاجون الآن إلى مساكن جديدة أو تم إصلاحها، ويمكن أن تشمل عملية إعادة التأهيل إعادة بناء المنازل وتقديم الدعم لمشاريع الإسكان. وسيشمل ذلك توفير مجموعة من فرص العمل للنجارين والبنائين والسباكين والكهربائيين وغيرهم من الحرفيين المهرة”.‏
التحديات ما تزال قائمة‏
‏ما تزال هناك مجموعة من المسؤولين الفاسدين ونقاط الضعف المؤسسية التي تعترض الطريق. يمكن العثور على عدد ‏‏من خلايا “داعش” المتبقية‏‏ في البلاد، والمتواجدة إلى حد كبير في المناطق الريفية، وكانت هناك بعض محاولات الاختطاف في السنوات الأخيرة.‏
‏وما تزال السياسة العراقية فوضوية وفاسدة، ويمكن أن يتسبب أي توتر متجدد في تعطيل إعادة إعمار الموصل.‏ وثمة تحد رئيسي لإعادة الإعمار هو عدد الألغام النشطة في المدينة.‏
‏داخل منزل توتونجي –وهو قصر عثماني مثير للإعجاب تم بناؤه بين العامين 1808 و1817 مع فناء مركزي يتميز بنقوش رخامية مزينة بفخامة- يعمل الحرفيون الموصليون على إصلاح الزخارف المعقدة.‏ ولأنه يشكل رمزا لماضي المدينة كمركز مزدهر للتجارة الدولية، كاد تنظيم “داعش” أن يدمر المنزل تقريبًا أثناء عملية تحرير الموصل في العام 2017.‏
منذ العام 1981، كان المنزل مُلكًا لـ”مجلس الدولة العراقي للآثار والتراث”. وكان قد تم تجديده حديثًا قبل استيلاء “داعش” على الموصل في العام 2014. ثم استخدمته المجموعة كمصنع للمتفجرات وعانى من دمار كبير.‏
‏الآن، تعمل جامعة بنسلفانيا بشكل وثيق مع مجلس الدولة العراقي للآثار والتراث وجامعة الموصل على ترميم المنزل الرمزي.‏ ‏وقال مصعب جاسم، مدير الموقع العراقي من مجلس الدولة العراقي للآثار، أن ترميم المنزل كان صعبًا ولكنه مجز إلى حد كبير.‏ ويتضمن المشروع ورشة نحت على الحجر لإنتاج بلاط رخام الموصل الفريد من نوعه ودعم الحفاظ على الحرفة من خلال ترميم المنزل الشهير. ونتيجة لذلك، يوفر المشروع وظائف لسكان الموصل.‏
بعد العمليات المعقدة لإزالة الألغام التي نفذها الجيش العراقي، بدأت أعمال الترميم في العام 2020. وما تزال الألغام النشطة موجودة حتى يومنا هذا في المدينة -حيث تُعلَّم الجدران بأنها “آمنة” في المواقع التي تمت فيها إزالة الألغام، وتلون بخط أحمر حيث ما يزال يتعين إزالة الألغام- وقد أسفر انفجار الألغام عن العديد من الإصابات، وحتى وفاة العديد من الأطفال.‏
ويقول جاسم لـ”المونيتور”: ‏”نحن نخاطر بحياتنا من أجل إعادة بناء مدينتنا ورؤيتها حية مرة أخرى. إنه عمل شاق، لكن النتائج جميلة”.‏

الغد