مع تعثّر العمليات العسكرية الروسيّة في أوكرانيا وفشل موسكو في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المعلنة، يتعاظم دور حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة منذراً بنشوء نظام عالمي جديد يتجاهل دور مجلس الأمن ويبشّر بنشوء نظام مستجدّ تكون فيه القوّة الاقتصادية العسكرية والقيم الديمقراطية المعايير الوحيدة للحضور الدولي.
الهزائم العسكرية تكون عادة بداية حقبات جديدة. فهزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان سرّعت في تفكيكه، وهزيمة روسيا في أوكرانيا ستؤدّي حتماً إلى مرحلة جديدة من توازنات القوى والتحالفات الدولية.
بعد أقلّ من أربع سنوات انتقلت الولايات المتحدة من موقف سلبيّ ومتشكّك تجاه حلف الناتو، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى داعم قويّ لإحياء هذا الحلف في عهد إدارة الرئيس جو بايدن. هدّد ترامب بالانسحاب من الحلف لأنّ الدول المشاركة تعتمد على الدعم المادّي للولايات المتحدة ولا تريد زيادة إنفاقها العسكري بشكل ينسجم مع ناتجها القومي. في المقابل رأت إدارة بايدن أنّ مصلحة الولايات المتحدة تكون بقيادة العالم الحرّ من خلال إقامة تحالفات مع دول “تتشارك القيم معها”. الشكوك في فعّالية الناتو تبدّدت مع اجتياح موسكو لأوكرانيا وفشلها في الإطاحة بنظام فولوديمير زيلينسكي وتحقيق أهدافها العسكرية والاستراتيجية.
انكشاف المؤسّسة العسكرية الروسية
إنّ مسارعة دول الناتو والولايات المتحدة إلى مساعدة كييف عسكرياً واقتصادياً ساهمت إلى حدّ كبير في إحباط المخطّطات الروسيّة في أوكرانيا. وأظهر التعاون الاستخباري بين هذه الدول قبيل بدء العمليات العسكرية وخلالها بشكل واضح عمق انكشاف المؤسّسة العسكرية الروسية أمام أجهزة الاستخبارات الغربية.
إنّ نجاح الناتو في مواجهة روسيا في أوكرانيا شجّع الولايات المتحدة على المضيّ بسياسة مواجهة التحدّيات من خلال قيادة تحالفات سياسية وعسكرية
كانت لفشل خطط موسكو نتائج عكسية في ما يخصّ توسّع حلف شمال الأطلسي.
منذ تفكّك الاتحاد السوفيتي كان الهاجس الروسيّ عدم انضمام دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى منظومة الناتو. ومع استتباب الأمر في الداخل للرئيس فلاديمير بوتين، انتقل إلى تثبيت دور روسيا في الخارج وانتهاج سياسة أكثر عدوانية تجاه أوكرانيا. لكنّ آمال بوتين باستعادة دور موسكو اصطدمت بوحدة الناتو وتصميمه على معاقبة موسكو بعدما لجأت إلى استعمال القوّة لفرض إرادتها على أبواب أوروبا الغربية. ومنذ أيّام قليلة انضمّت السويد إلى حلف الناتو بعد رفع الفيتو التركيّ، ووُعدت أوكرانيا بالنظر في طلب انضمامها إلى الحلف، لكن بعد نهاية الحرب مع روسيا لتجنّب مواجهة مباشرة بين دول الحلف وروسيا لأنّ المادّة الخامسة من معاهدة الحلف تنصّ على أنّ الهجوم على أحد أعضاء الناتو هو هجوم على جميع أعضائه. وبرز في قمّة الناتو الأخيرة في ليتوانيا دور تركيا الفاعل في هذه المنظومة بعد تشكُّك البعض في أحقّية والتزام تركيا قيم الحلف. لقد استطاع الرئيس رجب طيب إردوغان من خلال مناوراته السياسية مع روسيا ومعارضته بداية ثم قبوله لاحقاً انضمام السويد إلى المنظومة الغربية العسكرية، من تفعيل الوجود التركي في التحالف الغربي وإظهار إمكانية لعب دور أكبر في النزاعات الدولية، خصوصاً أنّ تركيا هي البلد المسلم الوحيد داخل منظومة “الناتو”. وبذلك تكون مغامرة بوتين ساهمت في تحويل هواجسه إلى حقيقة تهدّد مستقبله السياسي ودور موسكو في العلاقات الدولية في المدى المنظور.
قيادة التحالفات
تأتي رغبة الولايات المتحدة في قيادة العالم من خلال تحالفات إثر تجارب أميركية غير مشجّعة خاضتها أثناء قيادتها الأحاديّة للعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فكانت مرحلة مكلفة مادّياً وعسكرياً أدّت إلى نفور وتباعد مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين. وبرز ذلك أثناء الاجتياح الأميركي للعراق وفي الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول الإرهابية.
إنّ نجاح الناتو في مواجهة روسيا في أوكرانيا شجّع الولايات المتحدة على المضيّ بسياسة مواجهة التحدّيات من خلال قيادة تحالفات سياسية وعسكرية. في المواجهة الكبرى مع الصين، تقوم الدبلوماسية الأميركية بنسج تحالفات مع دول تخشى إمكانية تحوُّل القوّة الاقتصادية الصينية إلى أداة لفرض الإرادة الصينية، سواء عبر التهديد باجتياح تايوان أو تطويع اليابان من خلال التحدّيات اليومية للملاحة البحريّة في بحر اليابان، وتراقب واشنطن النشاطات العسكرية الصينية في شرق آسيا والتنسيق العسكري والمناورات البحريّة بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
إقرأ أيضاً: أميركا – السعوديّة: تسارع على سكّة التباعد؟
أمام هذا المشهد من التحدّيات على الساحة الدولية، تبرز محدودية مجلس الأمن وقدرته على مقارعة واحتواء هذه النزاعات. لقد نجحت الأمم المتحدة ومجلس الأمن في تجنّب حرب عالمية، كانت السبب الأساس لإنشائهما، إلا أنّ مجلس الأمن فشل في إنهاء الصراعات الإقليمية وحلّ النزاعات التاريخية، فتحوّل إلى منبر للسجالات الدبلوماسية ومواكبة النزاعات وتوفير آليّات تبريد في حال تحقّق إجماع بين الدول الكبرى. إنّ دور ألمانيا في تسليح أوكرانيا ومواجهة روسيا وتحفيز اليابان على العودة إلى النشاط العسكري المحظور عليها دستورياً منذ عام 1945، ستطرح بجدّية فعّالية الصيغة الحالية للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن في ظلّ غياب ألمانيا واليابان وربّما الهند.