بدت إسرائيل منحازةً، وبوضوح، لروسيا ضد تركيا في قضية إسقاط طائرة السوخوي على الحدود التركية السورية، ولم يقتصر الأمر على الإعلام، المتجنّد كالعادة، المتشفّي والسعيد بورطة أردوغان مع فلاديمير بوتين، حسب التعبيرات الدارجة، وإنما تعدّاه إلى التصريحات الرسمية المتعاطفة مع موسكو، والكاشفة، في السياق، عن طبيعة التفاهمات الروسية الإسرائيلية، وحتى عن التحالفات الجديدة في المنطقة التي تحاول إسرائيل، كعادتها، وبانتهازية فائقة، تحقيق أكبر فائدة ممكنة منها.
لم يبدأ التصعيد الإسرائيلي ضد تركيا في الحقيقة مع قصة إسقاط طائرة السوخوي، وإنما انطلق، قبل ذلك، مع تفجيرات باريس، الشهر الماضي التي أقحمت تل أبيب نفسها فيها لنفاق أوروبا، ووضع نفسها في صلب المعركة العالمية ضد الإرهاب، بما في ذلك المقاومة الفلسطينية طبعاً. وقد فضح التصعيد ضد تركيا عزوف إسرائيل عن محاولة التقارب والصلح مع تركيا الجديدة التي تضع القضية الفلسطينية مكوّناً أساسياً من مكونات العلاقة بين الجانبين. إضافة طبعاً إلى قناعة تل أبيب بأن في وسعها الاستفادة من التدخّل، أو الاحتلال الروسي لسورية، من أجل تحقيق مصالحها مجاناً، ومن دون الاضطرار لدفع أي ثمن أو أثمان استراتيجية لتركيا، لا سورياً ولا فلسطينياً.
تبدى هذا المنحى، أي التصعيد ضد تركيا، والإيحاء بالتوقف عن السعي إلى تطبيع العلاقة معها، والاعتماد، في المقابل، على الحلف الجديد مع موسكو، تبدى بشكل واضح، بل فظّ أكثر، مع قصة إسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية على الحدود التركية مع سورية. فقد بدت معظم التعليقات الإسرائيلية شبيهة بإعلام الحشد الشعبي الإقليمي معادية ومتشفية بتركيا، التي ورّطت نفسها في صراع مع الدبّ الروسي، حسب اللغة المستخدمة التي وصلت إلى حد المراهنة على بوتين، لكي ينتقم من أردوغان، ويحقق ما عجزت عنه إسرائيل تجاه الزعيم التركي الذي يشيطنه الإعلام الإسرائيلي، كما بعض التصريحات الإسرائيلية الرسمية، ويصوّره خصماً عنيداً للدولة العبرية، ليس سياسياً، وإنما فكرياً أيضاً.
في مقابل هذا الانتقاد لأردوغان، كالت الصحافة الإسرائيلية المديح لبوتين، وقد اقتبست عن رئيس الموساد السابق، أفارايم هليفي، وصفه الرئيس الروسي بضابط المخابرات الممتاز والمحارب العنيد ضد الإرهاب (يقصدون الإسلامي طبعاً)، مع الانتباه إلى الإعجاب الكبير الذي يكنه كل من أفيغدور ليبرمان وإيهود باراك للزعيم الروسي الذي وصل إلى حد اعتباره القدوة والأمثولة في محاربة الإرهاب، وملاحقة الإرهابين حتى المرحاض، كما يحلو لباراك القول ناقلاً عن بوتين، ومتغزّلاً به.
رسمياً؛ وإضافة إلى التصريح المتبجح والمنافق لأحد قادة سلاح الطيران، والذي قال فيه إن إسرائيل ما كانت أبداً لتسقط طائرة روسية، حتى لو اخترقت أجواءها، وهو ما حصل بالفعل، على أي حال كان، لافتاً كلام المسؤول السياسي الأمني لوزارة الدفاع، الجنرال عاموس جلعاد (منصب لا مثيل له في العالم) الذي قال، في المركز الثقافي في بئر السبع، إن الطائرات الروسية تستخدم الأجواء الإسرائيلية في عملياتها ضمن تفاهمٍ، يسمح أيضاً لإسرائيل باستخدام الأجواء السورية، للقيام بعملياتها ضد حزب الله.
اكتملت الصورة مع تصريح، وبالأحرى تصريحين لوزير الدفاع موشيه يعلون، قال، في أولهما، إن طائرات روسية اخترقت المجال الجوي الإسرائيلي، حيث تم التعاطي مع الأمر بمرونة وأريحية. وفي ثانيهما، وهو الأهم، كما نقلت الإذاعة الإسرائيلية في 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال يعلون إن نشر صواريخ إس 400 لن ينال من حرية حركة الحركة للطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية، ضمن تفاهم سياسي أمني، تم التوصل إليه بين الجانبين.
ترسم التصريحات السابقة، في الحقيقة، صورة المشهد أو التفاهم الإسرائيلي الروسي، وتفسر لماذا ابتعدت وتبتعد تل أبيب عن أنقرة، بينما اقتربت وتقترب من موسكو.
لا تضع روسيا، وعلى عكس تركيا، القضية الفلسطينية عاملاً من عوامل العلاقة بين الجانبين، وفي حرب غزة الصيف قبل الماضي، مثلاً، بدت اللهجة الروسية الرسمية متفهمة لما تقوم به إسرائيل في دفاعها عن نفسها في مواجهة الإرهاب. وضمنياً، سعت موسكو إلى القول إن ما تمارسه في أوكرانيا يتساوق مع ما تمارسه تل أبيب في غزة.
هذا طبعاً بعكس الموقف التركي الرسمي، وحتى الشارع التركي الذي يعتبر أن الشعب الفلسطيني هو الأحب إليه. وهذا أحد القواسم المشتركة الرئيسية، ربما بين تركيا الجديدة وتركيا القديمة، علماً أن الأخيرة صوّتت ضد قرار تقسيم فلسطين في 1947، وخفضت مستوى العلاقة مع إسرائيل مرتين على خلفية القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، كما أن الطفرة في العلاقات بين الجانبين في التسعينيات كانت نتاجاً مباشراً لاتفاق أوسلو الذي أوحى، أو أعطى، الانطباع، خصوصاً بعد قيام السلطة، أن عربة الحل باتت على السكة، وأن العداء انتهى، أو في طريقه إلى الانتهاء بين العرب وإسرائيل.
أما تجاه الملف السوري، فقد بدا التناغم الإسرائيلي مع الموقف التركي القائل بضرورة إسقاط نظام بشار الأسد، مؤقتا وتكتيكيا وانتهازيا، علماً أن تل أبيب لا تمانع ببقاء نظام الأسد، طالما أن هذا يتماشى مع مصالحها، أو يحققها، بعكس تركيا التي ترى أن مصالحها في سورية موحدة ديمقراطية، ونافذة لها للانفتاح على محيطها العربي والإسلامي لا يمكن أن تتحقق سياسياً وأخلاقياً، طالما بقي الأسد في السلطة.
كان التفاهم الإسرائيلي مع روسيا، إذن، أسهل وبدون ثمن أو أثمان جدية، وإذا ما أرادت روسيا الاحتفاظ بنظام الأسد حامياً لمصالحها في سورية المدمرة والمقسمة، فلا بأس إسرائيلياً في ذلك، طالما أنه لا ينال أو يؤثر سلباً على المصالح الإسرائيلية، والخطوط الحمر الرئيسية التي وضعتها تل أبيب. وتتضمن هذه الخطوط الحمر عدم القيام بعمليات ضد إسرائيل، أو فتح جبهة جديدة ضدها، انطلاقاً من هضبة الجولان، وعدم نقل أي أسلحة نوعية أو كاسرة للتوازن، إلى حزب الله، مع حق إسرائيل بالقيام بما تراه مناسباً للدفاع عن تلك الخطوط الحمر ومصالحها بشكل عام.
تفهمت موسكو الموقف الإسرائيلي، ووافقت، كما قال جلعاد ويعلون علناً، على الحفاظ على المصالح الإسرائيلية في سورية، بما في ذلك حركة الطائرات في الأجواء، وتنفيذ غارات ضد أهداف تابعة لحزب الله وحتى للنظام نفسه، خصوصاً مع التماهي الكبير بين الجانبين في السنوات الأخيرة.
بدت المفارقة، أو السوريالية ربما، في دخول تل أبيب الفظ والمباشر على معادلة أن السماء لروسيا والأرض لإيران والميليشيات الأفغانية العراقية واللبنانية التابعة لها، وبموافقة روسية طبعاً، بحيث باتت المعادلة المحدثة أن السماء لروسيا وإسرائيل والأرض لإيران وحلفائها، مع أحقية تل أبيب في ضرب هؤلاء متى رأت ذلك متناسباً مع مصالحها وخطوطها الحمر.
للمفارقة، أيضاً، سعت تل أبيب، وبشكل غير مباشر، إلى الاستفادة من المعادلة المماثلة في العراق، حيث السماء للأميركيين والأرض للإيرانيين والمليشيات التابعة لها، كما قال علناً أيضاً الجنرال قاسم سليماني، وحصلت تل أبيب على ثمن، بل وأثمان لتلك المعادلة، ليس فقط عبر المضي في تدمير العراق، وإعادته سنوات وعقوداً إلى الوراء، وإنما عبر سلة عسكرية وأمنية واقتصادية تعويضية كبرى، بحجة أن تلك المعادلة كانت أحد البنود الضمنية أو غير العلنية للتفاهم النووي الأميركي الإيراني.
سعت إسرائيل إلى الاستفادة من الانكفاء الأميركي عن المنطقة الذي تم أساساً بالتفاهم مع الحشد الشعبي الإقليمي، أو حلف الأقليات المذهبي الذي تقوده طهران، بينما تسعى، الآن، جاهدة إلى الاستفادة من الاحتلال الروسي الفظ لسورية، بالتفاهم مع حلف الأقليات نفسه، علماً أن تل أبيب مولعة تاريخياً بالتحالف مع الأقليات، سواء كان ذلك مع سعد حداد وجيش لبنان الجنوبي في لبنان، أو مع الملا البرزاني والأكراد في العراق، وحتى مع قبائل الدينكا في جنوب السودان، وهذا سبب إضافي، ربما لابتعادها المضطرد عن أنقرة التي تتموضع شيئاً فشيئاً في قلب الأكثرية الإسلامية الممتدة من ماليزيا حتى طنجة.
ماجد عزام
صحيفة العربي الجديد