كلما زادت الاكتشافات المهمة في مجال الطاقة زاد تنافس الدول الأجنبية على تعزيز التحالف مع مصر، القوة الإقليمية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وخاصة التنافس بين الصين والولايات المتحدة اللتين تتصارعان على بسط نفوذهما السياسي والاقتصادي في المنطقة.
واشنطن – يسعى الغرب منذ غزو روسيا لأوكرانيا في العام الماضي إلى تعويض النفط والغاز اللذين لم يعد يتلقاهما من موسكو بمصادر موثوقة توفّر إمدادات ثابتة. وبذلت الصين وروسيا المدركة لهذه الحاجة قصارى جهدهما لحرمان الغرب من أي فرصة للحصول على الطاقة. وتريد بكين وموسكو الإسراع في إنشاء “شبكة طاقة موحدة” عربية، وهذا عامل حاسم إضافي في النظام العالمي الجديد لسوق النفط.
ويقول المحلل سايمون واتكينز في مقال لموقع أويل برايس الأميركي إن “الفكرة الأساسية تعكس وجهة النظر حول كيفية بسط السيطرة على الأشخاص أو البلدان، وهي نفسها التي تبناها الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت الذي يرى أن مسك الشخص من موضع حساس يعني السيطرة على قلبه وعقله”.
وفي هذا السياق تعني السيطرة على شبكة كهرباء شرق أوسطية موحدة أن الصين وروسيا ستكونان قادرتين على ممارسة المزيد من السلطة على البلدان التي تعتمد على تلك الطاقة.
وتقع مصر في قلب خطط الشبكة الكهربائية الموحدة، مما يزيد من أهمية الإعلانين الأخيرين الغربيين عن الاكتشافات الجديدة الكبرى في هذا البلد.
وصدر الإعلان الأول عن إحدى الشركات الأساسية التي كانت رائدة في محاولات الغرب الهادفة إلى تأمين إمدادات نفط وغاز جديدة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي شيفرون. ووفقا لعملاق النفط والغاز الأميركي من المقرر أن ينطلق حفر أول بئر استكشافية للنفط والغاز الطبيعي في منطقة امتيازها في البحر الأحمر بمصر خلال النصف الأول من سنة 2024.
وتتبع ذلك مسوحات زلزالية مكثفة ودراسات جيولوجية وجيوفيزيائية جمعت الشركة بياناتها في وقت سابق من هذا العام.
ويعدّ هذا جزءا من دفعة إستراتيجية كبيرة تتبعها شيفرون والحكومة الأميركية لضمان بقاء مصر حليفا رئيسيا في النظام العالمي الجديد لسوق النفط. وتلقت البلاد دفعة حيوية في 2019 عندما فازت شيفرون بأول جولة مناقصة مصرية دولية للتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأحمر.
ويقول المحلل الأميركي إن مصر تعتبر مهمة في العالم العربي لعدة أسباب تدركها الولايات المتحدة. وهذا ما يجعل واشنطن تسعى لتعزيز نفوذها في البلاد وإبقائها خارج دائرة نفوذ الصين وروسيا.
وكان العالم العربي ينظر إلى مصر لعقود على أنها الداعم الرئيسي لأيديولوجيا “القومية العربية” التي تؤمن بأن القوة الدائمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالوحدة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية العربية عبر البلدان المختلفة التي ظهرت بعد الحربين العالميتين.
وكان أقوى مؤيد لهذه الفترة هو الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي تولى السلطة من 1954 إلى 1970. ويمكن القول إن خليفته الأيديولوجي كان الرئيس حافظ الأسد الذي حكم سوريا من 1971 إلى 2000. وكان من أبرز علامات هذه الحركة في ذلك الوقت تشكيل اتحاد الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا من 1958 إلى 1961، وتشكيل أوبك في 1960، وسلسلة الصراعات مع إسرائيل خلال تلك الفترة، ثم الحظر النفطي العربي من 1973 إلى 1974.
وتأمل الولايات المتحدة من خلال جذب القائدة العربية إلى صفها في تعويض البعض من التأثير الجيوسياسي السلبي السعودي بعد ميل الرياض لصالح الكتلة الصينية – الروسية.
وتعتبر مصر سياسيا وتاريخيا زعيمة في العالم العربي مثل السعودية. وتدرك الصين هذا، وتسعى منذ فترة طويلة من خلال حليفها الرئيسي في الشرق الأوسط، إيران، إلى جر مصر إلى مشروع شبكة الكهرباء الموحدة.
وشهد العام الماضي إعلانا عن زيادة تعاون القاهرة وعمّان في مشاريع توصيل الغاز داخل الأردن بخبرات مصرية من خلال شركات قطاع البترول المتخصصة. وأُعلِن قبل ذلك عن موافقة العراق على إعادة تصدير النفط الخام من كركوك إلى مصفاة الزرقاء في الأردن.
وأخذت هذه الصفقة إمدادات الكهرباء القادمة من إيران في الاعتبار، لأن البلاد زودت العراق تاريخيا بما يتراوح بين 30 و40 في المئة من حاجته إلى الكهرباء، ووقّعت مؤخرا على أطول صفقة منفردة بينها وبين بغداد لمواصلة نفس الاتجاه.
وفي نفس الوقت تقريبا أعلن وزير الكهرباء العراقي حينها، ماجد مهدي حنتوش، الانتهاء من خطط استكمال توصيل الكهرباء بين العراق ومصر في غضون السنوات الثلاث المقبلة. وكان من المقرر أن يُدعم هذا المشروع بخطوط الشبكة الموازية التي عززتها إيران من حيث الكهرباء المباشرة وتبادل الغاز. وفي 2019 قال وزير الطاقة الإيراني آنذاك، رضا أردكانيان، إن “هذا سيكون جزءا من المشروع الشامل لإنشاء سوق كهرباء عربية مشتركة”.
وأصبحت شركة شيفرون مع ذلك موجودة الآن بقوة في مصر، واكتشفت في وقت سابق من هذا العام حقلا ضخما للغاز البحري في المنطقة، مع شريكتها الأوروبية في الموقع، إيني الإيطالية. وأعلنت الشركتان، اللتان تمتلك كل منهما حصة 45 في المئة في امتياز منطقة نرجس البحرية التي تبلغ مساحتها 1800 كيلومتر مربع (مع امتلاك شركة ثروة للبترول المصرية الحصة المتبقية البالغة 10 في المئة)، أنهما توصلتا إلى اكتشاف غاز جديد مهم في بئر الاستكشاف نرجس – 1.
الولايات المتحدة تأمل من خلال جذب القائدة العربية إلى صفها في تعويض البعض من التأثير الجيوسياسي السلبي السعودي بعد ميل الرياض لصالح الكتلة الصينية – الروسية
وأعلنت الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) المملوكة للدولة انطلاق تقييم الكمية الدقيقة للاحتياطيات في البئر وعن خطط مع شيفرون وإيني وثروة لبدء الإنتاج في أقرب وقت ممكن.
ولا ينبغي أن يستغرق ذلك وقتا طويلا، حيث تقول شركة “فيسلز فاليو” المتخصصة في القطاع البحري إن لإيني منصة على بعد حوالي 40 كيلومترا إلى الجنوب الغربي من موقع نرجس. وتبع هذا الاكتشاف إعلان في ديسمبر 2022 عن تحديد شركة شيفرون لـ3.5 تريليون قدم مكعبة على الأقل من الغاز من بئر نرجس – 1 في شرق دلتا النيل، على بعد حوالي 60 كيلومترا شمال شبه جزيرة سيناء. وتشغّل شيفرون (إلى جانب كونوكو فيليبس الأميركية) الآن حقلي ليفياثان وتمار الضخمين في إسرائيل ومشروع أفروديت قبالة سواحل قبرص. ووفقا لرئيس شركة شيفرون العالمية للاستكشاف والإنتاج، كلاي نيف، “يتمتع شرق البحر المتوسط بموارد وفيرة من الطاقة، ويقود تطويرها التعاون الإستراتيجي في المنطقة”.
ويرى واتكينز أن إعلان شركة النفط والغاز البريطانية العملاقة شل أكد أن مصر تُعتبر الآن طرفا رئيسيا جديدا للتحالف الغربي للولايات المتحدة وأوروبا، حيث ستنطلق الشركة في تنمية المرحلة العاشرة بمنطقة امتياز غرب الدلتا العميق في البحر المتوسط.
وعملت شل وشريكاها، الهيئة المصرية العامة للبترول وشركة بتروناس الماليزية المتخصصة في أعمال الاستكشاف والإنتاج النفطي، على تنمية امتياز غرب الدلتا العميق عبر تسع مراحل، وفقا لبيانات الشركة.
ويتكون الامتياز من 17 حقلا للغاز تتراوح أعماقها المائية بين 300 متر و1200 متر وتمتد على ما يقارب 90 – 120 كيلومترا من الشاطئ. واعتبر وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا، في تأكيد على التداعيات الطاقية والسياسة الأوسع لهذه الصفقات الأخيرة، أن هذه الخطوة مهمة نحو إطلاق المزيد من الإمكانات الهيدروكربونية في منطقة دلتا النيل الغنية بالموارد الطبيعية. وأضاف “نؤكد على تعزيز شراكتنا طويلة الأمد مع شركة شل التي تساهم بدور مهم في تطوير موارد الطاقة في مصر، ودعم خطط الدولة لأن تصبح مركزا إقليميا للطاقة”.
العرب