تلجأ إيران وتركيا إلى القوة المميتة في الكثير من الأحيان لضبط النزعات الانفصالية الكردية داخل أراضيهما، إلا أن العراق وسوريا لا يمتلكان هذا الخيار ما يعقد مهمتهما ويجعلهما أكثر عرضة للانفصالية من أنقرة وطهران.
واشنطن – من بين عدد لا يحصى من قضايا ما بعد الاستعمار وما بعد الاستقلال في الشرق الأوسط، تظل المسألة الكردية قضية دائمة. وقد أدى التداخل الجغرافي لكردستان مع الدول القومية الحديثة إلى تغذية التطلعات الكردية لتقرير المصير، حيث يجد الأكراد أنفسهم مقسمين بسبب الحدود، وغالباً ما يواجهون درجات متفاوتة من التمييز والتهميش. وسعى الأكراد منذ فترة طويلة إلى إنشاء دولة كردية مستقلة تتجاوز الحدود، إلا أن هذا يتعارض مع المصالح الوطنية لكل من إيران وتركيا وسوريا والعراق أيضا.
ويقول عمر أحمد في تحليل على موقع ميدل إيست مونيتور إنه خلافاً للقوتين الإقليميتين، تركيا وإيران، اللتين تتخذان بشكل روتيني تدابير استباقية لحماية سلامة أراضيهما ضد شبح الانفصالية الكردية، فإن الدولتين العربيتين المتجاورتين تجدان نفسيهما في صراع مع هذا التهديد.
وفي كلا البلدين، وقعت مؤخرا اشتباكات عرقية أعادت إشعال المخاوف الأمنية القديمة. وفي أواخر الشهر الماضي، نظم أبناء العشائر العربية والتركمان في مدينة كركوك شمال العراق اعتصاماً احتجاجياً ضد الأمر الذي أصدره رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أواخر الشهر الماضي بتسليم مبنى قيادة العمليات المشتركة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وقوبلت هذه المظاهرة باحتجاج مضاد من الجالية الكردية، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة شاركت فيها قوات الأمن، مما أسفر عن مقتل ثلاثة متظاهرين وإصابة عدد آخر. وقبل سيطرة الجيش العراقي على المدينة الغنية بالنفط من قوات البيشمركة في عام 2017، كانت بمثابة المقر الرئيسي للحزب بعد أن استولت الميليشيات الكردية على المدينة متعددة الأعراق عندما انسحبت منها القوات العراقية في مواجهة تهديد داعش.
◙ تركيا وإيران تحافظان على موقف صارم ضد الأكراد داخل أراضيهما، وتلجآن إلى القوة لضبط الأوضاع
ويريد الأكراد أن تكون المدينة ذات الأهمية الإستراتيجية جزءًا من إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي، مع تطلعات طويلة المدى للاستقلال الكامل. ولفتت أزمة كركوك انتباه تركيا أيضا، التي لها تاريخها الخاص في مكافحة التمرد ضد الانفصاليين الأكراد. وفي 3 سبتمبر، أعرب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن مخاوف أنقرة بشأن هذا التطور خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان في طهران.
كما دعا فيدان السلطات العراقية إلى وضع حد للوجود المتزايد لجماعة حزب العمال الكردستاني المسلحة في كركوك. ويعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي أغسطس، خلال زيارته الأولى إلى العراق منذ توليه منصبه، دعا الدبلوماسي التركي بغداد أيضًا إلى تصنيف حزب العمال الكردستاني على هذا النحو.
وفي سوريا، تصاعدت التوترات العرقية في الجزء الشرقي من البلاد في الآونة الأخيرة، وكثفت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، وهي تابعة لحزب العمال الكردستاني، هجماتها على محافظة دير الزور ضد السكان العرب، مما اضطر المئات منهم إلى الفرار من قراهم. وفي وقت سابق الأسبوع الماضي، اندلعت اشتباكات بين قوات سوريا الديمقراطية والقبائل العربية المحلية، حيث قاومت الأخيرة الهجمات الكردية التي تهدف إلى السيطرة على عدة بلدات في المحافظة.
وفي حديثه في وقت سابق من هذا الشهر حول قضيتي الاضطرابات العرقية في العراق وسوريا، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ما يتعلق بالأخيرة “لقد حذرنا الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا من أنه لا ينبغي لها التعاون مع المنظمة الإرهابية الانفصالية، وإذا استمرت في التصرف بهذه الطريقة، فإن مصالحها الخاصة والمنطقة سوف تعاني في المستقبل”.
ويقول محللون إن الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل قد رأتا، في أوقات مختلفة، قيمة في التحالف مع الجماعات الكردية لتعزيز مصالحهما في الشرق الأوسط. وقد أدى هذا التلاعب الإستراتيجي إلى زيادة الشكوك في كل من إيران وتركيا. ولدى الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، تاريخ في دعم الأكراد في العراق وسوريا. وفي السنوات الأخيرة، وفي إطار الجهود المبذولة لمكافحة داعش، لعبت هذه الشراكة دورًا أساسيًا في الهزيمة الإقليمية للكيان، لكنها أدت أيضا إلى احتكاك مع القبائل والمجتمعات العربية التي ادعت التمييز وسرقة الموارد الطبيعية في ظل الحكم الكردي.
ولدى إيران، باعتبارها قوة إقليمية مهيمنة طبيعية في المنطقة، مجموعة من المخاوف الخاصة بها في ما يتعلق بالنزعة الانفصالية الكردية. ويقيم الأكراد الإيرانيون في المقام الأول في المحافظات الغربية للبلاد، حيث واجهوا فترات من الاضطرابات ودعوات إلى المزيد من الحكم الذاتي. ومخاوف إيران من النزعة الانفصالية الكردية ليست بلا أساس، نظراً إلى السابقة التاريخية للانتفاضات الكردية، والتي اندلعت أحدثها بعد وفاة المرأة الكردية الإيرانية مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة العام الماضي.
وأعطى الحرس الثوري الإيراني الحكومة العراقية إنذارًا نهائيًا بحلول 19 سبتمبر الجاري لنزع سلاح “الجماعات الإرهابية” في إقليم كردستان، تحت التهديد باستئناف الضربات المستهدفة. وفي سبتمبر الماضي، نفذ الحرس الثوري الإيراني أكثر من 70 ضربة صاروخية باليستية ضد أهداف معادية. وفي وقت سابق من ذلك العام في شهر مارس، زُعم أن الحرس الثوري الإيراني نفذ هجمات صاروخية ضد مجمع سري للموساد الإسرائيلي في أربيل.
◙ تركيا وإيران تحافظان على موقف صارم ضد الانفصالية الكردية داخل أراضيهما، وغالباً ما تلجآن إلى إجراءات قد تعرض سيادة جيرانهما للخطر
ويبدو أن بغداد تأخذ تهديد طهران على محمل الجد، حيث أعلن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في وقت سابق الأسبوع الجاري، عن اتخاذ خطوات لإبعاد المسلحين الإيرانيين الأكراد عن الحدود. واستهدفت العمليات التركية والإيرانية السابقة حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، وهو فرع إيراني لحزب العمال الكردستاني المتمركز في المنطقة الحدودية بين العراق وإيران.
وتنبع هذه التصرفات من حقيقة أنه لا أنقرة ولا طهران ترغبان في رؤية سوريا والعراق وقد أصبحا دولتين قويتين مرة أخرى، لكن ليس لديهما مصلحة أيضًا في رؤية الأكراد يستغلون هذه الهشاشة لبناء حكومات محلية مستقلة، أو حتى حكومات مستقلة في سوريا على المدى الطويل. وما يزيد الأمور تعقيداً أن الخصمين الإقليميين سعى كل منهما لتقويض نفوذ الآخر في مواجهة الأكراد في العراق، حيث تدعم تركيا الحزب الديمقراطي الكردستاني في حين تدعم إيران حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المنافس.
ويتنافس البلدان أيضاً على النفوذ في كركوك، حيث يقال إن إيران لها اليد العليا “بفضل عوامل مثل القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية وعلاقات طهران مع قوات الحشد الشعبي والقسم الشيعي من المجتمع التركماني”. وتحافظ تركيا وإيران على موقف صارم ضد الانفصالية الكردية داخل أراضيهما، وغالباً ما تلجآن إلى إجراءات قد تعرض سيادة جيرانهما للخطر. وفي المقابل، وباعتبارهما دولتين ضعيفتين نسبياً، فإن العراق وسوريا يفتقران إلى القدرة على تبني مثل هذا النهج، وبالتالي يتحملان العواقب المستمرة للانفصالية الكردية غير الخاضعة للرقابة داخل حدودهما.
العرب