طهران – أعلنت إيران منذ فترة طويلة أن هويتها السياسية تتعارض مع هوية العالم الغربي، فيما أعربت قيادتها عن اهتمامها بالحفاظ على العلاقات التجارية والتكنولوجية مع الدول الغربية. ولكن القرارات والعمليات تتّبع التقاليد المحلية وتغرق في الجمود على المستويين السياسي والثقافي.
وعلى الرغم من أن الأيديولوجيا تُعتبر السبب الجذري لهذا الانقسام، يقول التفسير البديل إنها تعكس في الواقع المخاوف الأمنية التي تتماشى مع اعتبارات بكين وموسكو الخاصة، حيث يمكن أن يقوّض التكامل السياسي مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، قبضة الدولة على المجتمع، ويتحدى خطاب نخبها، ويؤدي إلى تفريغ تقاليدها الثقافية.
ويقول الباحث محمود ساريو غلام في تحليل على موقع معهد الشرق الأوسط إن المخاوف من هيمنة القوة الناعمة الأميركية والأوروبية على أعلى المستويات تشكل في مثل هذه الدول عاملا أساسيا في قرارها بالتمييز بين العلاقات التجارية وغيرها مع الدول الغربية. وبالتالي، يعدّ إبعاد الولايات المتحدة أولوية لأمن النظام في الصين وروسيا وإيران.
لا توجد احتمالات لحدوث تحول نوعي في السياسة بالنظر إلى الشخصيات الموجودة في السلطة والأجندة الحالية
ويضيف ساريو غلام أن علاقات إيران التي أعيد تنشيطها مع الصين وروسيا على مدى العقد الماضي لا تتعلق بالهوية بقدر كونها انعكاسا للمخاوف الأمنية على المدى القصير إلى المتوسط.
وتعدّ لذلك دوافع المحور نحو الشرق سياسية. كما يعمل هذا المحور على تعزيز نظرية المسافة حول الغرب، والتي تتوافق مع سياسة السيادة المطلقة والاكتفاء الذاتي الاقتصادي التي اتبعتها العديد من الدول الآسيوية والأفريقية إثر انتهاء حقبة الاستعمار في الستينات.
ويشكّل هذا الموقف حالة مختلفة في نظام دولي متكامل بعمق. فعلى سبيل المثال، تهدف عضوية الهند في مجموعة بريكس (مجموعة الاقتصادات الناشئة التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) ومنظمة شنغهاي للتعاون إلى توسيع قدراتها التحوطية وفرص المساومة المتاحة لها في مجال التجارة والاستثمار والأمن والتكنولوجيا والاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة.
وربما يمكن تطبيق هذه الأهداف لفهم القرارات التي اتخذتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وغيرها من البلدان النامية للانضمام إلى مجموعة بريكس أيضا. ويبدو أن إيران تنتمي إلى معسكر المجموعة المنقسمة الذي يخشى الهيمنة الغربية.
وتبدو مجموعة بريكس، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، أقرب إلى انعكاس للمزاج السياسي من كونها هيكلا لبناء وفاق وعمل جماعي. وتتشكل المنظمتان أساسا بدوافع سياسية صينية وروسية لإبراز القوة خارج نطاق الولايات المتحدة العالمي، مهما كانت هذه الدوافع احتفالية وغير فعّالة.
ولا تتمتع أي من المنظمتين بالانسجام الداخلي ولا يتوحد أعضاؤها بهدف مشترك.
وحدد أحد التقييمات أن الهند والبرازيل كانتا متخوفتين من عضوية إيران في مجموعة بريكس، في حين دفعت الصين وروسيا باتجاه هذه الخطوة.
ونتج التردد عن الخوف من أن تبدو المجموعة معادية للولايات المتحدة بشكل مفرط.
وتبدو المواجهة داخل المنظمتين بين الهند والصين الأكثر وضوحا. وتبقى الهند عضوا في هذه المنظمات التي تقودها الصين، بينما هي مشاركة رئيسية في الرباعية التي تقودها الولايات المتحدة والتي تضم اليابان وأستراليا.
وتعتبر الهند واحدة من الأعضاء الأربعة في مجموعة “آي 2 يو 2” إلى جانب إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة.
وتشمل الرباعية و”آي 2 يو 2″ أعضاء متشابهين في التفكير. لكن إصدار الصين إدانة لمسؤولين عسكريين هنود متقاعدين بسبب زيارة إلى تايوان كان من بين المؤشرات الأخيرة على التنافر داخل مجموعة بريكس.
وأدت الإدانة إلى تعقيد العلاقة الصعبة بالفعل التي يعود تاريخها إلى اشتباكات 1962 الحدودية.
ومن غير المتصور أن تكون مجموعة بريكس ثقلا موازنا للمؤسسات التي بنتها الولايات المتحدة مثل مجموعة السبع ومجموعة العشرين، نظرا إلى الشراكات واسعة النطاق بين الهند وجنوب أفريقيا مع الغرب، وخاصة مع واشنطن.
وتمكنت الولايات المتحدة على مر السنوات من إدارة 52 تحالفا عسكريا وسياسيا في النظام الدولي.
وتصبح القدرة على التنبؤ بسلوكيات الهند وجنوب أفريقيا داخل مجموعة بريكس صعبة في ظل التزاماتهما المتداخلة وفرصهما الهائلة للتحوط والمساومة.
ويعني تحالفهما الوثيق مع أوروبا والولايات المتحدة أنهما لا تتمتعان بكامل الحرية في التقارب مع السياسات المعادية للغرب التي تنتهجها روسيا والصين.
ويشكل عدم تجانس بريكس لذلك دليلا كافيا على عدم فعاليتها السياسية.
إيران تعاني من صعوبتين حادتين فهي تواجه نقص الاحتياطيات الأجنبية وشبه انعدام الاستثمار الأجنبي
ولجميع أعضاء بريكس (باستثناء روسيا) علاقات متبادلة عميقة مع الولايات المتحدة ولا يمكنهم تعطيل النظام العالمي الذي تقوده. كما أنه ليس لأعضاء المجموعة إجماع حول إلغاء الدولرة، بغض النظر عن إمكانية التطبيق العملي لهذه السياسة.
وليس من الواضح ما إذا كان الرنمينبي فعالا لمعاملات الصرف الأجنبي الدولية في ظل الضوابط التي تفرضها الصين على رأس المال والقيود المفروضة على قابلية تحويل العملة.
ووصف أحد المحللين في المقابل الدولار بأنه “أكسجين النظام الاقتصادي العالمي”.
وتكمن المعضلة الأساسية في ما يتعلق بمشاركة إيران في المنظمتين في أن طهران لا تقيم علاقات طبيعية مع الدول الغربية، وخاصة مع الولايات المتحدة. وتؤكد عضويتها رغبة طهران في الاندماج السياسي وعزمها على ردع أولئك الذين يقولون إنها دولة معزولة.
ولا يمكن أن تغير عضوية منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس مشاكل طهران الاقتصادية، حيث تفرض العقوبات الثانوية الأميركية قيودا هائلة على تفاعلاتها الاقتصادية مع الدول الأخرى.
وليست إيران من الدول الموقعة على مجموعة العمل المالي (فاتف)، ولا يمكن لمعاملاتها المالية الدولية أن تتم وفقا للإجراءات والمعايير العالمية. ولن تغير عضويتها في بريكس هذا.
وتتبع إيران سياسة متسقة لخفض التصعيد مع الولايات المتحدة وبشكل متزايد مع جيرانها العرب حيث يكمن الدافع الأساسي لهذه التغييرات في التغلب على ضائقتها الاقتصادية.
ويؤدي سوء الإدارة الاقتصادية، الذي تفاقم بسبب العقوبات الأميركية، إلى انعدام أمن القيادة الاقتصادي والاجتماعي.
ويمكن تفسير التسوية المؤقتة غير المكتوبة الأخيرة مع الولايات المتحدة حصريا على أنها نتيجة للأزمات الاقتصادية والمالية التي تعاني منها طهران. ويتماشى هذا “التفاهم” أيضا مع السياسة الإيرانية الثابتة تجاه واشنطن: لا تطبيع ولا مواجهة.
“لا تطبيع” لأن المطالب الأميركية لا يمكن تلبيتها لأنها ستؤدي إلى تعطيل الوضع الراهن وهيكل السلطة في إيران، و”لا مواجهة” لأنها إستراتيجية خاسرة.
ويُغذّى وكلاء الشرق الأوسط ليكونوا قوة رادعة تبقي الولايات المتحدة بعيدة بدلا من ذلك.
وأقام المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي أثناء خطابه أمام أعضاء مجلس الخبراء في 10 مارس 2022 العلاقة بين الوجود الإقليمي من ناحية، وقوة النظام وصلابته من ناحية أخرى.
وتهدف الميول التبادلية في السياسة الخارجية الإيرانية في النهاية إلى تعزيز إيراداتها الأجنبية لمعالجة المشاكل الاقتصادية مثل نقص الأموال، وعجز الميزانية، والإنفاق الحكومي المتواصل، والتضخم الجامح.
وتعاني إيران من صعوبتين حادتين بالإضافة إلى الخلل البنيوي التاريخي الذي يعاني منه نظامها الاقتصادي. فهي تواجه نقص الاحتياطيات الأجنبية وشبه انعدام الاستثمار الأجنبي. وتزيد العقوبات الأميركية المشكلتين تعقيدا.
ولا توجد احتمالات لحدوث تحول نوعي في سياسة البلاد الخارجية بالنظر إلى الشخصيات الموجودة في السلطة والأجندة السياسية الحالية.
إيران تساهم من خلال عضويتها في مجموعة بريكس في نظام عالمي مختلف من شأنه أن يعطل الهيمنة الغربية
وكانت أساليب التعامل مع المشاكل تهدف إلى تخفيف الأزمات المالية على المدى القصير إلى المتوسط، فيما لا يشكل انضمام إيران إلى مجموعة بريكس علاجا سحريا للتحديات الاقتصادية الأساسية التي تواجهها.
ويعدّ اليمن العنصر الأقل إستراتيجية من بين جميع مصادر إيران الإقليمية للنفوذ غير المتماثل.
وليس من المستغرب أن تكون إيران على استعداد لمبادلة نفوذها في اليمن مقابل خفض الدعم المالي واللوجستي لجماعات المعارضة الإيرانية.
ويعكس التفاهم الإيراني الأخير مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة سمة أساسية لسياسة طهران الخارجية، وهي أنها وحيدة وغير قادرة في الوقت الحالي على ترسيخ العلاقات والتحالفات الإستراتيجية مع الدول الأخرى. لكن هذه الميزة مقصودة ومُصممة ومُدارة بشكل منهجي.
ويُعتقد أن أي نوع من التحالف الإستراتيجي سيؤدي إلى كبح قدرة الدولة العميقة على المناورة. وسوف تستمر التعقيدات وانعدام الاستقرار الحالي طالما حافظت طهران على سياستها الخارجية الحالية. لكن العلاقة السببية بين سياسة إيران الخارجية وأزماتها الاقتصادية ليست مطروحة للنقاش بشكل كاف في البلاد.
وقد استغرق رفع الولايات المتحدة للعقوبات على العراق المجاور على سبيل الذكر حوالي 13 عاما. وفي هذا السياق، لا توفر العضوية في مجموعة بريكس للقيادة الإيرانية سوى الرضا عن النفس من خلال تمكينها من الاحتكاك بالقوى العظمى، وتوفير فرص التقاط الصور مع قادة الدول الأخرى، ومنحها منصة لإبراز الرؤية والعلاقات العامة في السياسة الخارجية.
وقد تتوهم إيران أنها تساهم من خلال عضويتها في مجموعة بريكس في نظام عالمي مختلف من شأنه أن يعطل الهيمنة الغربية.
وتكمن إحدى القضايا التي فشلت إيران في الاهتمام بها ويمكن فهمها على أنها شكل من أشكال التنافر المعرفي في حقيقة أن الصين تعمل ضمن النظام الرأسمالي الدولي وأن ترتيبها الثاني في الاقتصاد العالمي يرجع إلى هذا النظام نفسه.
وتشبه إيران في منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس لاعب كرة قدم يجلس دائما على مقاعد البدلاء ولا يحصل على فرصة للعب.
وسيتعين على البلاد في هذا السياق السياسي أن تراقب من الخطوط الجانبية كيف تلعب الصين وروسيا والولايات المتحدة في الميدان.
ويمكن قياس دقة ادعاء إيران بأن عضويتها في مجموعة بريكس “إنجاز تاريخي” من خلال حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تتلقاه من الأعضاء الآخرين في المنظمة. لكن من غير المرجح أن تكون الشركات الخاصة أو الحكومية على استعداد للمخاطرة بعملياتها في العالم الغربي في ظل العقوبات الأوروبية والأميركية الضخمة المفروضة على المؤسسات المصرفية والاقتصادية الإيرانية.
ويختم ساريو غلام تحليله بالقول إنه ربما يكمن هدف إيران النهائي في البحث عن بديل سياسي عالمي داعم مثل مجموعة بريكس حتى لا تستسلم للقوة الأميركية والدولار. لكن هذه المظاهر المتفاخرة لبحثها عن مصادر بديلة للسلطة والأمن لا توفر أي أساس لتحقيق فوائد اقتصادية ملموسة.
ولا يمكن لعضوية إيران في مجموعة بريكس أن تحقق فوائد في شكل تجارة، أو استثمار أجنبي مباشر، أو معدلات نمو اقتصادي أعلى، أو نقل التكنولوجيا في مجالات رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي دون علاقات طبيعية مع الغرب.
ويضيف ساريو غلام أنه طالما تعطي السياسة الخارجية الإيرانية الأولوية للأمن على حساب التنمية الاقتصادية الوطنية، لن تؤدي المشاركة في المنظمات تحت مظلة روسية وصينية حصرية إلا إلى إبقاء الوضع الراهن الذي تعيشه البلاد.
العرب