كان هناك اعتقاد واسع النطاق، وإن كان غير معلن، بين حلفاء أوكرانيا الغربيين، بأنه إذا كان سيُكتب للدعم المعنوي والعسكري لكييف بالتصدع، فإن نقطة الضعف الأساسية ربما تكون الولايات المتحدة الأميركية.
لقد وضعت المناوشات المبكرة بين الطامحين بالمنافسة في الانتخابات الأميركية مسألة الدعم لأوكرانيا في الواجهة، إذ برز دونالد ترمب ممثلاً للتيار المؤيد للإنهاء السريع للحرب، كما بدا الترحيب الذي كان حظي به الرئيس زيلينسكي في واشنطن، في زيارته الشهر الماضي بعد مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أقل إثارة مقارنة بالسابق. إن التسوية التي اتفق عليها أعضاء الكونغرس، والتي سمحت بتفادي الإغلاق الحكومي يبدو أنها تؤكد تلك النقطة، من خلال أن تلك التسوية قد استبعدت حزمة بملايين الدولارات من المساعدات لأوكرانيا التي اقترحها الرئيس بايدن، ولو لفترة موقتة.
لكن وكما تبين، ليست الولايات المتحدة هي الدولة التي تعتبر الحلقة الأضعف، بل إنها سلوفاكيا، الدولة الجارة لأوكرانيا، التي كانت إحدى أقوى الحلفاء المؤيدين لحكومة كييف. ويمكن أن تليها بولندا، مما يجعل دولتين من بين دول خط المواجهة الأول في الحرب الأوكرانية ــ واثنتين من أشد المؤيدين لكييف حماسة ومن كانتا أكثر الأعداء اللدودين لروسيا ــ مسؤولتين عن فتح أول شقوق في حائط التضامن الأوروبي والغربي.
لعل الأمر الأكثر إثارة للقلق، بالنسبة إلى البقية، هو حقيقة حدوث التحول السياسي في سلوفاكيا نتيجة انتخابات ديمقراطية أجريت الأسبوع الفائت. والأمر نفسه قد يحدث أيضاً إذا جرى اتباع المثال السلوفاكي من قبل بولندا، التي ستجري انتخاباتها البرلمانية في الـ15 من الشهر الجاري. بعبارة أخرى، فإن أي تغيير في سياسات الحكومة بخصوص الملف الأوكراني من شأنه أن يعكس تفويضاً شعبياً، لا مجرد خلافات داخلية بين الأحزاب [كما هي الحال في الولايات المتحدة] وعملية تسجيل نقاط في ما بينها.
لقد كتب الفوز في الانتخابات السلوفاكية لروبرت فيكو Robert Fico – بعدما أثبتت نتائج أولية خطأها – الذي كان متصدراً بين المرشحين خلال الحملة الانتخابية، وهو الذي سيشكل على الأرجح الحكومة المقبلة وسيصبح أيضاً رئيس وزرائها الجديد. لا حاجة لكي يتم التأكيد أن فيكو، وهو سياسي مخضرم يبلغ من العمر 59 سنة، الذي سيتولى السلطة على رأس الحكومة للمرة الرابعة، لم يكن المرشح المفضل من قبل شركاء سلوفاكيا في الاتحاد الأوروبي.
ولا يأتي فيكو إلى منصبه من دون إرث شخصي ثقيل – بما في ذلك موقفه الغامض في شأن وفاة الصحافي الذي ساعد على إطلاق عملية استقالته عام 2018، إضافة إلى ادعاءات بالفساد تلاحقه باستمرار، وميله إلى الاشتراك في مواقفه الفلسفية والسياسية مع أقل الزعماء الأوروبيين شعبية وهو رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان – لكنه كان قد قاد حملة حزبه “سمير” Smer (الحزب الديمقراطي الاجتماعي)، الانتخابية مطلقاً الوعود بأن يعمل على إنهاء كل الدعم العسكري لأوكرانيا، والذي يعكسه شعار حزبه المقدس ” ليس حتى طلقة نارية واحدة”، والضغط من أجل بدء المفاوضات مع روسيا لإنهاء عمليات القتل.
حكم الموقف الأوروبي المختصر حول نتائج الانتخابات يتلخص في اعتبار أن السوفاكيين اختاروا التصويت لشخصية خطرة، وصديقة لبوتين، وعدوة لأوكرانيا. لم تكن تلك النتيجة غير مرحب فيها فقط لمعظم حكومات الدول الأوروبية، بل إن توقيتها جعل منها أمراً أكثر إحراجاً بشكل مضاعف، مع تزايد الإدراك بأن الهجوم الأوكراني المضاد في فصلي الربيع والصيف الذي طال انتظاره من قبل أوكرانيا لم يرقَ إلى تحقيق ما كان منتظراً منه، والتقارير تقول إن بعض الدول الغربية في الأقل يبدو أنها بدأت تعاني نقصاً في مخزون ذخائرها والمعدات الأخرى التي ترسلها إلى أوكرانيا.
كثير من الاعتبارات ذاتها تغذي أيضاً الانتخابات في بولندا، على رغم أنها تتعلق هناك بإعادة انتخاب حزب “القانون والعدالة” Law and Justice Party، بدلاً من انتصار حزب “الائتلاف المدني” المعارض Civic Coalition، الذي يعتقد بأنه وفي الوقت نفسه المرجح بشكل أكبر، وفق نتائج الاستطلاعات الأخيرة، ومن شأنه أن يكون النتيجة الأسوأ لناحية استمرار الدعم لأوكرانيا والعلاقات مع بروكسل. هناك أيضاً شكاوى طويلة الأمد من أحزاب المعارضة، وتتعلق بكيفية استخدام حزب “القانون والعدالة” لفترة حكمه كي يقوم بإعادة هندسة النظام العدلي في البلاد وأيضاً النظام الانتخابي بشكل يصب في مصلحته. ولكن فوز المعارضة في الانتخابات هو أمر لا يمكن استبعاده تماماً أيضاً.
إلى جانب ذلك، من المهم التوقف لملاحظة بعض الحقائق التي تجعل من نتائج انتخابات سلوفاكيا، وأياً كانت النتائج في بولندا، أكثر تعقيداً مما يبدو عليه الوضع للوهلة الأولى. أولاً، قد تكون سلوفاكيا دولة على خط المواجهة في ما يتعلق بالحرب الأوكرانية ــ ولكن مع عدد سكانها الذي لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة، فهي تعتبر دولة صغيرة من وجهة النظر الأوروبية، ناهيك إذا ما قورنت بالمستويات العالمية.
ثانياً، السياسي فيكو وحزبه “سمير” Smer، ربما نجحا في الفوز بعدد أكبر من الأصوات مقارنة بمنافسيه الآخرين، لكن مجموع ما كسبه الحزب لا يعدو كونه 23 في المئة من أصل إجمالي عدد المقترعين، وهو ما يشير إلى أن 77 في المئة من الذين أدلوا أيضاً بأصواتهم قاموا بدعم حزب آخر. بعد فوات الأوان، ربما تضخمت آمال أحزاب المعارضة بسبب ما تمناه الغير خارج البلاد، إلا أن حزب “سمير” Smer تصدر في النهاية الاستطلاعات بنسبة واضحة، لكن ثاني أكبر الأحزاب قد نجح في الفوز بحصة 18 في المئة من أصوات الناخبين. وهذا يشير إلى أن الحكومة في سلوفاكيا قد تتشكل من ائتلاف في نهاية الأمر.
وذلك يعني أن ما نعتبره، وربما بشكل مبسط للغاية، بأن حزب فيكو المعادي لأوكرانيا، وقاعدته المؤيدة لروسيا، ربما سيضطر إلى التخفيف من حدة مواقفه، أقله إلى الدرجة التي ستفرضها عليه عملية المشاركة في السلطة، فنسبة 23 في المئة هي نسبة قليلة للغاية حتى للوصول إلى جمع نسبة الغالبية البسيطة أي 51 في المئة.
والمشكلة الثالثة التي سيواجهها فيكو وسلوفاكيا تتعلق بالاقتصاد الذي يعاني مشكلات، والحكومة المقبلة التي سيشكلها لن تكون في موقع القادر على تحدي [إرادة] بروكسل، حتى لو أرادت القيام بذلك.
كثير من هذه التحفظات نفسها يمكن أن نطبقها على دولة بولندا. فحتى لو نجح حزب القانون والعدالة البولندي في الفوز بالسلطة من جديد، ففي الغالب إنه سيحكم من خلال ائتلاف. ولكنه سيكون ائتلافاً تكون له فيه الكلمة الفصل بشكل أكبر من الائتلاف الذي قد يشكله فيكو في سلوفاكيا. إن حزب “الائتلاف المدني” البولندي Civic Coalition ، الذي يقوده السياسي المخضرم المؤيد لأوروبا دونالد تاسك، هو أيضاً مؤهل للاحتفاظ بصوت مؤثر حتى لو كان خارج السلطة.
وليس من الواضح أيضاً إن كانت التصريحات الأكثر تشدداً حيال أوكرانيا والتي يصدرها وزراء الحكومة الأوكرانية الحالية، ومن ضمنهم رئيس الوزراء ماتيوس موراويكي Mateusz Morawiecki، مرتبطةً بشكل أكبر بالدعاية الانتخابية أم بالنهج السياسي للدولة بعد الانتهاء من الانتخابات. ذلك إضافة أيضاً إلى كل من الحظر (المخفف حالياً) على واردات الحبوب الأوكراني الرخيصة، ومسألة التعليق الكامل لعملية توريد الأسلحة إلى حكومة كييف. إن عوامل الشعور بعدم الثقة بين وارسو وكييف مؤهلة ربما للبقاء من دون شك، ولكن هل ستتمسك حكومة يقودها حزب القانون والعدالة بعد إعادة انتخابه بمسألة التراجع عن دعم أوكرانيا السابق إلى ذلك الحد؟
إذا حدث ذلك، فإن من شأنه أن يكون مؤثراً بشكل أكبر من أي التفاتة ضد أوكرانيا تنفذها سلوفاكيا. إن بولندا تحتل المرتبة الخامسة بين أكبر دول الاتحاد عدداً للسكان، وهي كانت من بين الدول الأكثر دعماً لأوكرانيا تماماً مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، كما قامت بتقديم نفسها على أنها الدولة التي تقود عملية دعم أوكرانيا أوروبياً. لكن أن تقوم بولندا بالتعاطي بهذا البرود وبصورة راديكالية مع كييف من شأنه أن يفتح هوة كبيرة في مسألة الوحدة الأوروبية. فبولندا يمكنها أن تقدم نفسها على أنها الدولة التي تقود كتلة من دول أوروبا الوسطى، تتألف من كل من سلوفاكيا والمجر أيضاً، والتي تروج لتغيير في السياسات المتعلقة بأوكرانيا.
في السابق، كان يمكن أن يقوم الفرنسيون بمثل هذا الدور، أو حتى الألمان أو الإيطاليين، والذين كان يمكنهم أن يكونوا الأكثر “تردداً” حيال مسألة تقديم الدعم لأوكرانيا. حالياً، إن ألمانيا قد تقدمت على المملكة المتحدة بوصفها أكبر موردي السلاح الأوروبيين إلى أوكرانيا، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد توقف عن الحديث – في العلن على الأقل – عن الرغبة في عدم إهانة روسيا.
ولكن كيف سيؤثر ضعف الدعم بين دول كانت الأكثر حماسة في يوم من الأيام في مساندتها لأوكرانيا – وهو تحول مدعوم بتفويض انتخابي – على الحكومات والرأي العام في مناطق أخرى من الاتحاد الأوروبي؟ وهل سيكون ذلك تمهيداً لتحطم تضامن الاتحاد الأوروبي مع كييف؟ هل يمكن أن يتراجع ذلك الدعم، أو أن يصار إلى تحييد أثره من خلال التعويض عنه من خلال تقديم الدعم المادي إلى كييف من بروكسل؟ أو أن سلوفاكيا ستكون العصفور [الذي يقيس مستويات ثاني أكسيد الكربون] في منجم الفحم، وهي بمثابة الدليل على تزايد التعب جراء الحرب في الدول الأوروبية كافة؟
حتى الآن، فاجأ الاتحاد الأوروبي كمجموعة نفسه بخصوص درجة بقائه متحداً وراسخاً في مواقفه. وزراء خارجية الاتحاد قاموا أخيراً بزيارة جماعية إلى كييف في تعبير بليغ عن دعمهم – لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ولعكس رمزية تتعلق بمستقبل انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن إذا ما أدت الانتخابات في بولندا إلى تحويل موقف سلوفاكيا من مجرد استثناء إلى اتجاه عام، فإن دولاً أخرى قد تبدأ بالتساؤل هي أيضاً عن السبب وراء تحملها عبء دعم أوكرانيا، إذا كان من قام برفع الصوت المعارض بقوة للاجتياح الروسي لأوكرانيا يقومون اليوم بالتراجع عن مواقفهم. من المحتمل أن حوارات دبلوماسية تجري حالياً خلف أبواب موصدة في محاولة للتخفيف من أثر أي أضرار ربما تلحقها تطورات كهذه.