شهدت انطلاقة الحملة الانتخابية لمرشحي الانتخابات المحلية في العراق عمليات إحراق للاّفتات الدعائية لبعض المرشّحين، في ظاهرة وصفها البعض بالتلقائية معتبرين أنّها انعكاس لحالة من عدم الرضا الشعبي على الانتخابات وانعدام للثقة في المرشحين إليها وفي ما تسفر عنه من نتائج.
ووصفها البعض الآخر بأنّها مدبّرة من قبل بعض الكتل والشخصيات المرشحة، مؤكّدين أنّها مظهر على التنافس غير الشريف الذي يشمل استخدام وسائل وأساليب أخرى باتت لصيقة بالمناسبات الانتخابية في البلد، من توظيف للمال السياسي في شراء الأصوات واستغلال للسلطة والنفوذ سواء لتحييد المنافسين أو لإغراء الناخبين أو ترهيبهم، دون استثناء إمكانية استخدام سلاح الميليشيات في ذلك.
وانطلقت الأربعاء الحملات الانتخابية للمرشحين لانتخابات مجالس المحافظات المقرّر إجراؤها في الثامن عشر من ديسمبر المقبل على أن تستمر طيلة خمسة وأربعين يوما لتتوقّف قبل أربع وعشرين ساعة من بدء التصويت الخاص الذي يجرى في السادس عشر من الشهر المذكور.
وتعتبر مجالس المحافظات التي سيجرى التنافس على الفوز بعضويتها بمثابة حكومات محلّية تتمتّع بسلطات هامة من ضمنها التحكّم بمشاريع الإعمار والأموال المخصصة لها والتي كثيرا ما كانت هدفا لعمليات نهب واسعة النطاق تسبّبت في ركود عملية التنمية في أغلب محافظات البلاد.
مقدرات بشرية وتقنية ضخمة مرصودة للانتخابات من قبل الدولة العراقية أملا في إنجاحها وإضفاء مشروعية على نتائجها
وبالنظر إلى أهمية المناسبة الانتخابية، فقد عملت السلطات العراقية على إحاطتها بمختلف ظروف النجاح من خلال رصد إمكانيات بشرية ومالية وتقنية هامة بهدف منح مصداقية لنتائجها، وهو عامل مهمّ في بسط الاستقرار وتحريك عجلة التنمية في المناطق.
ومع ذلك يتحدّث متابعون للشأن العراقي عن وجود العديد من العوائق والعيوب الجوهرية التي تهدّد الانتخابات المحلّية التي ستجرى لأول مرّة منذ سنة 2013، بدءا من عملية الترشّح التي خضعت لعملية غربلة قاسية أفضت إلى استبعاد مرشّحين لأسباب يصفها بعض المستبعدين بالواهية مثل تهمة الانتماء إلى حزب البعث المنحلّ منذ أكثر من عقدين.
كما شهدت عملية الترشّح مقاطعة طوعية من قبل العديد من القوى المدنية والشخصيات سواء المستقلة أو المنتمية حزبيا. ويأتي التيار الصدري الذي يقوده رجل الدين الشيعي مقتدى الصدري في مقدمة المقاطعين.
ويقول المتابعون إنّ غياب الصدريين بما لهم من وزن شعبي كبير عن المناسبة سيحدث خللا في التمثيل السياسي بالانتخابات المحلية لمصلحة القوى الشيعية المنافسة للصدر تقليديا والتي تمثّل تلك الانتخابات بالنسبة إليها وسيلة فعّالة لمواصلة القبض على السلطة في البلاد بما يعنيه ذلك من تحكّم في المقدّرات البشرية والمادية الهائلة التي تنطوي عليها المناطق والجهات.
وتجرى انتخابات مجالس المحافظات العراقية وفقا لنظام “سانت ليغو” الذي تطالب فعاليات شعبية بإلغائه بينما تتشبّث به الكيانات السياسية الكبيرة نظرا لما يمنحه لها من حظوظ في الفوز على حساب الكيانات الأصغر والمرشحين الأفراد. وأسندت مفوضية الانتخابات إجازات لـ50 تحالفا و296 حزبا سياسيا للتنافس على 275 مقعدا في المجالس المحلية.
ومن أكبر عيوب الانتخابات القادمة أنّ الميليشيات المسلّحة ستكون ممثلة فيها من خلال قوى سياسية مرتبطة بها. وبالنظر للانتشار الواسع لتلك الميليشيات في الكثير من محافظات البلاد، فإن سلاحها سيمثّل عامل ضغط على الناخبين، على غرار ما حدث في الدورتين السابقتين من الانتخابات البرلمانية.
ويعتبر إفساد حملات المنافسين بتهديد المشاركين في تلك الحملات أحيانا، وبإتلاف لافتاتهم أحيانا أخرى مظهرا على عدم نضج الممارسة الانتخابية في العراق، ودليلا على إصرار بعض المرشّحين على الفوز باستخدام مختلف الطرق والوسائل، المشروع منها وغير المشروع، وذلك انطلاقا من منظور يَعتبر المواقع والمناصب التي تتيحها العمليات الانتخابية غنائم مادية وسياسية يتعيّن انتزاعها من أيدي الخصوم بأيّ ثمن.
وشهدت مدينة الصدر أحد أكبر الأحياء السكنية شرقي العاصمة العراقية بغداد إحراق لافتات دعائية لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي يتزعّم ائتلاف دولة القانون.
غياب الصدريين بما لهم من وزن شعبي كبير عن المناسبة سيحدث خللا في التمثيل السياسي بالانتخابات المحلية لمصلحة القوى الشيعية المنافسة للصدر تقليديا
وما يزال المالكي رغم فشله الذريع في قيادة السلطة التنفيذية في العراق بين سنتي 2006 و2014 وما خلّفته تجربته في الحكم من كوارث سياسية واقتصادية وأمنية، مشاركا في السلطة من خلال الإطار التنسيقي الذي يضمّ أبرز القوى الشيعية العراقية ويعتبر الطرف الأساسي في تشكيل الحكومة الحالية بقيادة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني.
وتعتبر مشاركة دولة القانون في الانتخابات المحلّية ضمانة كبرى للمالكي للحفاظ على نفوذه ومكانته السياسية في البلاد، خصوصا وأن ائتلافه ينطلق بحظوظ وافرة للفوز في غياب غريمه التقليدي التيار الصدري، ونظرا لما يمتلكه من مقدّرات مالية ضخمة ومن نفوذ كبير داخل أجهزة الدولة. إلى ذلك شهدت مدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار غربي بغداد عمليات تمزيق للافتات وصور مرشّحين للانتخابات المحلّية.
وشملت اللافتات الممزّقة حملة رئيس البرلمان محمّد الحلبوسي الذي يعتبر حزبه أبرز المرشّحين للفوز في المحافظة التي يمتلك فيها الحلبوسي نفوذا كبيرا يعود إلى فترة شغله منصب المحافظ. وتلاحق الحلبوسي اتهامات كثيرة باستخدام منصبه الحالي على رأس البرلمان في التأثير على الناخبين، وكذلك باستخدام أموال عمومية منهوبة في شراء الولاءات والأصوات.
وقبيل الحملة الانتخابية تفجّرت في وجه الحلبوسي قضية فساد تتعلّق بامتلاكه لحسابات بنكية وعقارات في كلّ من الأردن وبلاروسيا، تشكّل ثروة لا تتناسب ودخله المصرّح به رسميا. وسبقت تلك القضية التي أصبحت في عهدة هيئة النزاهة ومكتب مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب اتهاماتٌ للحلبوسي تتعلق باستقطاع نسب من أموال المشاريع في محافظة الأنبار وتقاضي عمولات لقاء منح رخص إقامة بعض المشاريع.
لكن البعض رأى أن إثارة تلك القضيّة في هذا التوقيت بالذات لا يمثّل دليلا على فاعلية أجهزة الدولة العراقية في محاربة الفساد، بقدر ما تدلّ على أنّ تلك الأجهزة مخترقة من كبار الفاعلين السياسيين الذين يستخدمونها في الأوقات المناسبة ضدّ خصومهم ومنافسيهم. وفي ضوء مهدّدات الفشل التي تتربّص بالانتخابات المحلّية تعمل السلطات العراقية على توظيف قدرات مادية وتقنية هائلة لإضفاء المصداقية على المناسبة الانتخابية القادمة. وفي هذا الإطار أعلنت مفوضية الانتخابات عن توظيف 100 ألف كاميرا “لضمان نزاهة وشفافية انتخابات مجالس المحافظات”.
ويعتبر استخدام هذا العدد الكبير من الكاميرات سابقة في الانتخابات العراقية، لكن استخدام التكنولوجيات الحديثة ليس جديدا على المناسبات الانتخابية في العراق حيث سبق اللجوء إلى آلات ونظم إلكترونية لفرز الأصوات وعدّها، لكن المفارقة أن استخدام تلك الآلات والنظم تحوّل في الانتخابات النيابية التي أجريت سنة 2018 إلى أداة إضافية لتوسيع نطاق التزوير، وهو ما أثبتته كثرة الشكايات من قبل قوى وشخصيات شاركت في تلك الانتخابات التي أعقبتها معارك سياسية ضارية وحملات تشكيك كثيفة في نزاهتها وصحة نتائجها.