القاهرة– أظهر تأكيد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على أهمية التركيز على ملف الأمن الغذائي على المستوى الوطني وتأمين سُبل العيش للملايين من المواطنين، عمق التحديات التي تواجهها الدولة وضرورة أن تصوب الحكومة سياساتها وتتحاشى الارتباك في التعامل مع روافد هذا الملف الاقتصادية والاجتماعية.
وعكست طلبات إحاطة في البرلمان قُدمت ضد الحكومة أخيرا، بسبب التخبط في تصورات حماية الأمن الغذائي في البلاد، اتساع الهوة بين ما تسوق له الحكومة من خطط وإجراءات طموحة، والواقع على الأرض؛ حيث ساءت علاقتها بالمزارعين، ما دفع الكثير منهم إلى التمرد على سياساتها في ذروة تحديات إقليمية صعبة.
وحذر أعضاء في مجلس النواب المصري من استمرار التعامل مع مطالب المزارعين باستخفاف، وقد تكون لذلك تداعيات سلبية على خطط تأمين الغذاء، وهو ما يثير مخاوف الشارع بالتزامن مع مخاطر أمنية وسياسية تحدق بالبلاد، تصاعدت حدتها مع اندلاع الحرب على قطاع غزة.
ويرى نواب في البرلمان المصري أن تلبية احتياجات المزارعين يجب أن تكون لها أولوية عند الحكومة، باعتبارهم حائط الصد لتحقيق جزء مهم في قضية توفير الأمن الغذائي وسط تقلبات عالمية، وتجنيب مصر ضغوطا خارجية من أي دولة في مسألة استيراد الغذاء، مع تصاعد التحديات الإقليمية.
نواب في البرلمان المصري يرون أن تلبية احتياجات المزارعين يجب أن تكون أولوية لدى الحكومة
وتسبب تراجع المساحة المزروعة بمحصول القطن هذا العام مثلا في غضب برلماني على الحكومة، واتهامها بأنها تراخت في تقديم حوافز جيدة إلى المزارعين، وتجاهلت مطالبهم المرتبطة بتوفير الأسمدة بأسعار مناسبة، ثم شراء المحصول منهم بأسعار لا تحقق لهم الحد الأدنى من العائد المادي.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة قبل أيام عن السعر الاسترشادي لمحصول القمح ليكون ثمن الإردب الواحد 1600 جنيه (نحو 50 دولارا)، لم يلبّ ذلك طموحات شريحة من المزارعين، ما يهدد خطط التوسع في زراعته محليا، بما يضع على الحكومة عبء توفير العملات الأجنبية التي تحتاجها لاستيراد القمح.
وتستورد مصر ما يزيد عن 54 في المئة من حاجتها إلى القمح حاليا، وكان يمكنها تقليص هذه النسبة لو ضاعفت المحفزات المقدمة إلى المزارعين لتوسيع مساحة الرقعة المخصصة للقمح، لكنها وضعت خططا لا تشجعهم على التعاطي معها بجدية.
وتصر وزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر على إلزام المزارعين بتسليم ما يوازي 60 في المئة من إنتاج القمح إلى الحكومة بالسعر الذي تحدده وإلا يتعرض المزارع إلى السجن والغرامة المالية، وهي سياسة مرفوضة من أغلبية المزارعين، ويرونها ظالمة وتعرضهم إلى خسائر فادحة.
ولا تزال خطوات الحكومة في ملف تحقيق الأمن الغذائي بعيدة عن رؤية الرئيس السيسي الذي يريد بناء علاقة قوية مع المزارعين باعتبارهم حلقة مهمة لنجاح إستراتيجية توفير الاكتفاء الذاتي من الغذاء، في ظل تصاعد حدة التوترات الإقليمية.
وقررت الحكومة تخفيض واردات الغاز الطبيعي لشركات الأسمدة أخيرا، ومحاولة استيعاب الانعكاسات السلبية لهذا الأمر على معدلات الإنتاج وما يترتب عليه من ارتفاع في أسعار الأسمدة وعدم توفيرها للمحاصيل الزراعية، وهي إشكالية معقدة دفعت نواب البرلمان إلى الهجوم على الحكومة من أجل التدخل الفوري لحلها في أقرب وقت.
واضطر عبدالعزيز حسنين، وهو مزارع مصري لديه خمسة أفدنة في ريف محافظة البحيرة بشمال غرب القاهرة، إلى زراعة أرضه بمحاصيل تجلب له عائدا مناسبا، بغض النظر عن حاجة البلاد إلى السلع الغذائية الأساسية، مثل الأرز والقمح والذرة والفول وغيرها، طالما أن صوت المزارع لا يصل إلى الحكومة.
وقال لـ”العرب” إن “المزارع الذي يفترض أنه صمام الأمان للأمن الغذائي لا تتحقق مطالبه، وتتعامل معه الحكومة كمن يبحث عن مصالحه الشخصية فقط، مع أنه يرغب في تحديد سعر مناسب للمحصول، وتوفير حاجاته من الأسمدة بعيدا عن جشع التجار”.
وأكد أن الحكومة تعامل المزارع المصري بسياسة الترهيب، وإذا لم يستجب تهدده بالغرامة، مع أنها تروج لاستصلاح مئات الآلاف من الأفدنة في الصحراء وتستجدي الناس للذهاب إلى هذه المناطق وزراعتها مقدمة إليهم مزايا سخيّة، وهذا يكشف عن تناقض بين تعاملها مع مزارعين لديهم حلول لأزمة معقدة وبين خطتها للتوسع زراعيا.
ويعاني بعض المواطنين من أزمة توافر السلع الأساسية في الأسواق، مثل الأرز والسكر وزيت الطهو، وإن تواجدت فأسعارها مرتفعة بسبب انخفاض المساحات المخصصة للمواد الغذائية، أو لأنها مستوردة من الخارج بالعملات الصعبة.
الحكومة تعامل المزارع المصري بسياسة الترهيب، وإذا لم يستجب تهدده بالغرامة، مع أنها تروج لاستصلاح مئات الآلاف من الأفدنة في الصحراء وتستجدي الناس للذهاب إلى هذه المناطق
وذكر نادر نورالدين، مستشار وزير التموين سابقا وأستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، لـ”العرب” أن “الحكومة مطالبة بإعادة هيكلة السياسة الزراعية على نحو أوسع لتحقيق الأمن الغذائي وتخفيض فاتورة الاستيراد وعدم التأثر بالتقلبات العالمية، وهذا يتوقف على إعادة النظر في العلاقة مع المزارعين وتقريب المسافات بينها وبينهم”.
وأشار إلى أن الحكومة ترى عدم جدوى دعم الأسمدة للمزارعين، مع أن ذلك قد يقلل الفجوة الاستيرادية للسلع الأساسية بنسبة تصل إلى 50 في المئة، وهذا مثال بسيط على طريقة تحقيق الأمن الغذائي، “وللأسف هناك مزارعون يهتمون بمحاصيل تحقق لهم ربحا ولا تعنيهم احتياجات الدولة”.
ولفت نورالدين في تصريحه لـ”العرب” إلى أن تعامل الحكومة مع المزارعين كشركاء في التنمية ضروري لمواجهة تداعيات الأزمات العالمية في الغذاء، ما يتطلب حوارا واسعا حول السياسة الزراعية، وتحسين العلاقة مع المزارعين بالاستجابة لمطالبهم، فلا يمكن زرع محصول لا تحتاجه السوق المحلية أو لا يدر عائدا مناسبا.
ويظل الخطاب الحكومي الموجه إلى المزارعين في مصر محاطا بشبهة الاستعلاء، باستثناء عبارات الامتنان التي يوجهها الرئيس السيسي إلى المزارعين على فترات متلاحقة لامتصاص الغضب المكتوم داخلهم من تخاذل بعض المسؤولين في تلبية احتياجاتهم.
ويشعر الكثير من المزارعين بأن الحكومة ترفض الظهور كأنها تحت رحمتهم، وتأبى أن يستغل بعضهم الأزمة الاقتصادية وشُح الدولار في تصاعد المطالب بما يفوق قدراتها، لذلك ترغب في السيطرة عليهم بعقوبات أفقدت أصحاب الأراضي تجاوبهم مع زراعة محاصيل غذائية حيوية.
ويؤدي استمرار تعامل الحكومة مع المزارعين بطريقة تفتقد للحنكة أحيانا إلى تفاقم مشاكل الأمن الغذائي، لذلك يرى مراقبون أن عليها أن تفرّق بين الظروف العادية والتوقيتات الصعبة التي تتطلب حُسن إدارة العلاقة مع هذه الشريحة، لأن أزمة الغذاء يمكن أن تتصاعد مع تعاظم التحديات الإقليمية التي تحاصر مصر من اتجاهات مختلفة.
العرب