الضربات الأميركية وخطر التصعيد في العراق

الضربات الأميركية وخطر التصعيد في العراق

منذ بدء عملية طوفان الأقصى في فلسطين المحتلة، تتعرّض قواعد ومصالح أميركية في محال وجودها بالعراق وسورية لهجمات، يمكن وصفها بأنها “غير فعّالة” لكنها مؤثرة، من خلال استخدام طائرات مسيّرة أو قذائف الهاون، وبحسب نائبة الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية سابرينا سينغ، فإن القوات الأميركية تعرّضت لحوالي 66 هجوماً منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول، كانت حصتها في العراق وحده أكثر من 37 هجوماً تسببت بجرح العشرات من الأميركيين.

وفي العراق تحديداً لم تسعَ واشنطن إلى الردّ العسكري على هذه الهجمات، لأسباب عدة، منها، محدودية تأثيرها، ونوعية الأسلحة المستخدمة في الهجمات، والعلاقة مع حكومة السوداني التي لم تشأ الإدارة الأميركية أن تضعفها أو تحرجها تجاه المعارضين لسياسته في الإبقاء على الوجود الأميركي في العراق.

وفي يوم 21 أكتوبر تعرّضت قاعدة عين الأسد غربي الأنبار لهجوم بصاروخين باليستيين، تسبّبا بجرح جنود أميركان وأضرار مادّية، ولكن واشنطن، هذه المرّة، لم تتجاوز هذا الهجوم، بل ردّت بضربات جوية مثّلت أول ردة فعل مؤثرة ضد أهداف لمليشيات مدعومة من إيران، تسببت بمقتل ثمانية أشخاص من حزب الله العراقي المدعوم إيرانياً وجرح أربعة.

ولأنها تعلم جيداً أن رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني يتمتع بسيطرة محدودة على المليشيات المدعومة من إيران، والتي تمثّلها كتلة “الإطار التنسيقي” التي رشّحته لتولّي منصبه، والتي تُحدّد ضوابطها خط سير حكومته وقراراتها الحاسمة، فإن واشنطن أوعزت إلى القيادة المركزية الأميركية، التي تتحكّم بدرجة كبيرة بالخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك بينها وبين هذه المليشيات، إلى التصرّف بعملية تمثل رداً على قصف القاعدة بسلاح “مؤثّر”، وأيضاً ردعاً لبقية المليشيات الولائية المختلفة التي بدأت بالمزايدة فيما بينها لإثبات عدائيتها تجاه الوجود الأميركي.

“السلاح المؤثّر” الذي لم يتطرّق إليه أحد في مدلولات الردّ الأميركي العنيف تجاه مليشيا حزب الله، يعود إلى فترة الرئيس السابق دونالد ترامب. أكدت حينها مصادر من داخل إيران ومن المخابرات العراقية وأخرى غربية، أن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى لحلفائها في العراق، كما أكّدت أن إيران بدأت بمساعدة تلك الجماعات على البدء في صنع بعض هذه الصواريخ التي تنوعت بين صواريخ زلزال وفاتح 110 وذو الفقار، مداها بين نحو 200 و700 كيلومتر، ومن خلال التسجيل الذي عرضته مليشيا حزب الله بعد عملية ضرب قاعدة عين الأسد يتضح بوضوح أن الصواريخ وقواعدها تمثل أحد أنواع الصواريخ المشار إليها، بل ظهر بوضوح أن العجلة التي حملت قواعد هذه الصواريخ، إيرانية، ما يعني انتقال موضوع استهداف القوات الأميركية من أدوات هجوم عراقيةٍ محليةٍ إلى أدوات هجوم إيرانية بقدرات تدميرية أكبر ودقّة إصابة الأهداف بشكل أكبر.

تغيير إيران وحلفائها في العراق وسورية قواعد الاشتباك يعني وضع الرئيس بايدن في زاوية حرجة، خصوصاً في عام الانتخابات الأميركية

تغيير إيران وحلفائها في العراق وسورية قواعد الاشتباك يعني وضع الرئيس الأميركي جو بايدن في زاوية حرجة، خصوصاً في عام الانتخابات الأميركية، ومع تزايد ضغوط الرأي العام الأميركي والدولي على أسلوب إدارته الحرب في غزّة، وتجاهله عمليات الإبادة الجماعية للمدنيين التي ترتكبها إسرائيل هناك، بما يعني حشره في زاوية منع نشوب حرب إقليمية تستهدف فيها قواته في جميع مناطق انتشارها، وخصوصاً تلك الموجودة في العراق وسورية.

خطر التصعيد في العراق قائم، خصوصاً مع ضعف القرار الرسمي العراقي المضغوط من الفريقين القويين؛ واشنطن وطهران، والذي لا يملك القدرة على صدّهما، ذاك أن تمدّد مليشيات الحشد الشعبي، وسيطرتها على القرارات السياسية للعراق من جهة، ووجود قوات أميركية داخل قواعد عسكرية محصّنة في طول العراق وعرضه تحوي خيرة أسراب الطائرات وأجهزة المراقبة والاتصالات، مع تحكّم مطلق بالاقتصاد العراقي عبر بوابة الفيدرالي الأميركي. وهنا يبدو المشهد وكأن العراق ملعب النفوذ لكلا الفريقين، وأن جسّ نبض إرادة كل طرف يرتبط بممارسات على الأرض، بما يعني ذهاب خطوط التماسّ إلى أبعد من ضربات متفرّقة فقط.

طهران وواشنطن أمام اختبار دقيق وصعب، فالأولى تريد أن تحافظ على نفوذها في مناطق تمدّد هذا النفوذ، كما أنها تريد لي الذراع الأميركية في مناطق عدة، وخصوصاً في العراق، لتقبل التفاوض معها، ومن ثم الإقرار بها شريكاً قوياً في الشرق الأوسط الذي سيتشكل من جديد بعد حرب غزة الحالية، أما الثانية (واشنطن) فهي إما في حالة من إعادة التفكير في وضعها العسكري في العراق، وإمكانية إجراء انسحاب تدريجي للقوات هناك وإعادة ضبط سياستها هناك، وهناك حسابات دقيقة لفوائد هذا الوجود يقابلها أضراره مع ازدياد أذرع إيران في دول عديدة خارج إيران، كما تقابل هذه الحسابات حسابات أخرى لحجم الفائدة التي ستحققها روسيا وإيران والقوى المتحالفة معها في حال تركت واشنطن المنطقة الحيوية في الشرق الأوسط لها.