منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، أُثيرت التساؤلات واشتعلت التكهنات حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه رد إسرائيل على الإهانة التي لحقت بها. تضخّمت هذه التساؤلات منذ الأيام الأولى للحرب، وذلك مع أخذ القصف الإسرائيلي على القطاع وتيرة غير معهودة، دفعت شراستها وكثافتها إلى التساؤل عن أهدافها، وإذا ما كانت تتجاوز فكرة الرد العسكري إلى ما هو أبعد من ذلك.
تعززت هذه التساؤلات بفعل التصريحات الإسرائيلية التي أكدت أنها تريد أن تقضي تماما على حركة حماس في غزة، وأعلنت منذ بدء العملية البرية دعوتها الصريحة لأهالي شمال غزة للهجرة جنوبا، مع تركُّز القصف (خلال تلك المرحلة) في مناطق الشمال، بما يشمل المستشفيات والمخابز والمدارس، لتدفع كل هذه التحركات والتصريحات إلى محاولة استكشاف النيات الإسرائيلية حول إمكانية تهجير أهالي القطاع إلى خارجه وخوض حرب مفتوحة مع المقاومة، وهو ما وضع “سؤال التهجير” عنوانا لمعظم التحركات الدبلوماسية، وموضوعا مفصليا في تحليل المشهد.
التهجير.. مسلسل مستمر منذ النكبة
اعتمدت العصابات الصهيونية في عملية تهجيرها للفلسطينيين في عام 48 بشكل أساسي على مجموعة من المجازر التي ارتكبها بحق بعض القرى الفلسطينية، (مواقع التواصل)
وفقا لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (PEBS) وحتى عام 2023، بلغ عدد الفلسطينيين الموجودين في أراضي ما يُعرف اليوم بـ”دولة فلسطين”، أي في الضفة الغربية وغزة، 5.48 ملايين شخص، وهو ما يُشكِّل قرابة 38% من نسبة الفلسطينيين الذين بلغ عددهم 14.5 مليون شخص (1) حول العالم، ما يعني أن 62% من الفلسطينيين يعيشون خارج أراضيهم، وهو وضع يعود بشكل أساسي إلى الحدثين الأساسيين في تاريخ القضية الفلسطينية اللذين رسّما الواقع على الأرض اليوم؛ حرب عام 1948 (النكبة) وما تبعها من حملات تهجير قسري حتى عام 1949، وحرب الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 (النكسة).
اعتمدت العصابات الصهيونية في عملية تهجيرها للفلسطينيين في عام 1948 بشكل أساسي على مجموعة من المجازر التي ارتكبتها بحق بعض القرى الفلسطينية، وحاولت من خلالها أن ترهب الفلسطينيين وتدفعهم إلى مغادرة أراضيهم، وهي حالة ساهمت فيها المذبحة بالتوازي مع البروباغندا التي ترافقت معها، وتُعَدُّ مذبحة دير ياسين النموذج الأساسي في هذا السياق، التي تعتبرها العديد من الدراسات حدثا مفصليا في تهجير الفلسطينيين عام 1948 (2)، واستمر الاحتلال بتهجير الفلسطينيين بوضوح إلى غاية منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
اتجه الفلسطينيون المُهجَّرون في أكثر من اتجاه، ابتداء من الضفة وغزة وصولا إلى الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق، وهي المناطق التي تلقت الوزن الأكبر من اللجوء الفلسطيني، إلى جانب مجموعات عديدة لجأت إلى مختلف دول العالم. على سبيل المثال، يضم الأردن اليوم أكثر من أربعة ملايين فلسطيني مُجنَّس ولاجئ، فيما تضم جزر الكاريبي البعيدة بضعة آلاف من الفلسطينيين.
غير أن الهجرات الفلسطينية بدأت -وفقا للعديد من المصادر- قبل عام 1948 (3) نتيجة الضغوط التي مارسها الانتداب البريطاني والعصابات اليهودية على الفلسطينيين، ومع ذلك، فإن تهجير الكتلة الكبيرة عام النكبة، التي بلغت قرابة 700 ألف فلسطيني (4)، كان النقلة النوعية في مشروع الإحلال، التي أظهرت طبيعة العقلية الاستعمارية التي تمتلكها هذه العصابات. كما أن التهجير استمر بين حرب عام 1948 وحرب عام 1967، وقد شكَّلت تلك الأخيرة المحطة الأساسية الثانية في هجرة الفلسطينيين، التي سُمِّي معظم مهاجريها بـ”النازحين”، وتوجه معظمهم إلى الأردن، وتُقدَّر أعدادهم بأكثر من ربع مليون (5)، كما توجَّه جزء منهم إلى مصر، وكان جزء كبير منهم من المهجرين عام 1948.
لم تتوقف الهجرة الفلسطينية مع حرب 1967، فمع أنها كانت الحرب الكُبرى الأخيرة التي أطلقها الاحتلال لتوسيع أراضيه ونتج عنها تهجير واسع، فإنه لم يتوقف بعدها عن ممارسة سياسات قهرية وترحيلية رفعت من كلفة العيش المادية والمعنوية على الفلسطينيين في أراضيهم، مما ولّد حالة تهجير صامت وبطيء رصدها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بالأرقام عام 2016 (6)، وهي سياسات شملت التضييق الاقتصادي، وهدم المنازل، والسيطرة على الأراضي، وتقييد الحركة، والاعتقالات، وتكثيف السياسات الأمنية، حيث دفعت هذه السياسات مجتمعة بكثير من الفلسطينيين، وخصوصا الشباب والنخب العاملة والمتعلمة، إلى البحث عن فرص في الخارج.
لم يتوقف الاحتلال بعد حرب 67 عن ممارسة سياسات قهرية وترحيلية رفعت من كلفة العيش المادية والمعنوية على الفلسطينيين في أراضيهم، مما ولّد حالة تهجير صامت وبطيء (الأونروا)
تُظهر هذه الشواهد أن الاحتلال الإسرائيلي رغم مزاعمه المستمرة بالسعي لتحقيق ما جاء في اتفاقية أوسلو وتطبيق ما يُعرف بـ”حل الدولتين”، فإن ممارسته السياسية والعسكرية على الأرض تكشف عكس ذلك تماما، حيث يستمر في اقتطاع الأراضي الفلسطينية في الضفة وبناء المستوطنات فيها، وتطبيق سياسات ترحيل وتضييق على الفلسطينيين في كلٍّ من الضفة والقدس، لدرجة تبدو معها الضفة اليوم إسرائيلية أكثر مما هي فلسطينية. تعكس هذه السياسات أن مشروع السيطرة على كامل الرقعة الفلسطينية هو الأكثر حضورا في مخيلة سلطات الاحتلال، خاصة بعد تصدُّر القيادة اليمينية المتطرفة اليوم للمشهد السياسي هناك. يمكن القول إن أحد أبرز تجليات استمرار حضور مشروع الإحلال في ذهنية الاحتلال هو التغير الكبير الحاصل في أعداد المستوطنين في المناطق الفلسطينية (7) من 40 ألفا عام 1977 إلى 604 آلاف عام 2017، ويتوقّع أن يبلغوا قرابة 1.9 مليون في عام 2050، أي ما يعادل 30% من سكّان الضفة (8) حينها، وهو ما تعززه “سياسة الاستيطان الرعوي” وسياسات أخرى تمارسها دولة الاحتلال بلا هوادة.
يبقى التهجير على ما يبدو حُلما قائما في المخيال الإسرائيلي، ينتظر اللحظة المواتية للشروع في تطبيقه من خلال مؤسساته العسكرية والسياسية، وهذا ما ينعكس في الأفعال الإسرائيلية، وإن تعددت المنطلقات في ذلك بين يسار إسرائيلي يرى في قيام الدولة الفلسطينية خطرا قوميا على كيانه، وبين تيارات اليمين التي تجد في هذا استحقاقا وواجبا دينيا لا بد أن يحدث على خريطة واسعة تتجاوز حتى فلسطين بأكملها، لكن المقدس الأعلى لديهم يقبع في كلٍّ من أراضي السامرة -جبال نابلس- والقدس لتمثيلهما عاصمتين لممالك بني إسرائيل البائدة.
هل يهجّر المهجّرون من غزة؟
عادت الهجرة التي تُمثِّل هاجسا فلسطينيا وعربيا، وفرصة وحلما للاحتلال، لتُطرح مرة أخرى على طاولات السياسيين والمحللين مع تطور المعركة على الأرض في غزة، خاصة أن الاحتلال وضع لحملته هدفا سياسيا وعسكريا بعيدا هو القضاء على حماس ووقف “التهديد” القادم من غزة، وهو ما يعني فعليا تطبيق سياسة “الأرض المحروقة” من أجل السيطرة على غزة التي تتكون على أقل تقدير من “طابقين”، أحدهما فوق الأرض والآخر تحتها.
مع اكتمال هذه الصورة، جاءت التصريحات العربية الرافضة للتهجير وفي مقدمتها تصريحات كلٍّ من الأردن ومصر لتشي أن “الملف الأسود” للتهجير بات مطروحا على الطاولة بغض النظر عن حجمه وتفاصيله والمكونات التي سيشملها. وبدا أن التصريحات الأردنية والمصرية المتكررة حول رفض التهجير هي في جوهرها أصداء لما يتردد في الغرف المغلقة، أو ما تحكيه فعليا خارطة الحرب التي يشنها الاحتلال على الأرض، وهو ما أكدته لاحقا ورقة سياسات صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية ترجمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وتشير إلى أن تهجير الفلسطينيين من غزة نحو سيناء هو الخيار الأكثر مثالية بالنسبة للاحتلال (9).
تؤكد الورقة الإسرائيلية أنه رغم كون عملية التهجير تواجه مجموعة من التحديات على الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية، فإنها تظل الخيار الأفضل لإسرائيل على المدى الطويل، حيث يرى الاحتلال أن نموذج السلطة الفلسطينية، مع أنه “يمكن احتماله”، خيار لم ينجح تماما كما توضح تجربة “حفظ الأمن” في الضفة، كما أن نموذج التخلي عن الاحتلال ومغادرة الأراضي كما حدث في غزة لم ينجح أيضا، ما يُبقي خيار التهجير خيارا أخيرا ومفضَّلا للجانب الإسرائيلي، وهو خيار يواجه عوائق على ثلاثة مستويات رئيسية.
عوائق التهجير
أول هذه العوائق من وجهة نظر الاحتلال هو التحدي الدبلوماسي العالمي، وهو يتعلق بتأثير هذه الخطوة على شرعية إسرائيل ومكانتها الدولية. لقد اكتسبت دولة الاحتلال في مطلع تسعينيات القرن الماضي شرعية لم تحزها سابقا، وذلك بعد مؤتمر مدريد عام 1991 واتفاق أوسلو عام 1993، حيث كانت هناك مجموعة كبيرة من الدول التي ربطت اعترافها بدولة الاحتلال بتوصلها والسلطة الفلسطينية إلى اتفاق سلام، أي إن جزءا لا يتجزأ من شرعية دولة الاحتلال نابع من وجود وقيام دولة فلسطينية، أو الوعود بذلك في أدنى الأحوال. وبهذا فإن إسرائيل عند التفكير في مشروع التهجير الذي يعمل على تصفية وإنهاء مشروع الدولة الفلسطينية، فإنها تغامر بحجم شرعيتها الدولية، ويزداد هذا التحدي تبعا للطريقة التي ستتبعها في دفع الفلسطينيين إلى مغادرة أراضيهم.
في الوقت نفسه، فإن أي عملية تهجير واسعة لا بد لها من حملات سياسية وإعلامية كبيرة وممتدة لإقناع الرأي العام العالمي بها، وبأنها الحل الوحيد المتبقي لـ”استقرار المنطقة” حسب المزاعم الإسرائيلية، وهي العملية التي يأمل قادة الاحتلال أن تُفضي إلى بناء دولة يهودية موحدة على كامل الأرض الفلسطينية. وعموما، يبدو هذا عرضا صعب الترويج، خصوصا من حكومات يمينية يُنظر إلى توجهاتها على أنها نابعة من نزعات دينية متطرفة أكثر من كونها توجهات سياسية “عقلانية”، وهو ما يصعّب عملية اتصال دولة الاحتلال مع العالم.
العائق الثاني ذو طابع إقليمي، وهو يتعلق بمواقف دول الجوار من الخطة الإسرائيلية. واجهت دول المنطقة هجرات فلسطينية عدة مرات، وراهنت في فترات معينة على إمكانية قلب ميزان القوى والصراع عن طريق المواجهة، وفي فترات أخرى على اتفاقيات سلام قد تؤدي إلى تسوية ما من أجل عودة اللاجئين أو على الأقل إقامة الدولة الفلسطينية بمَن فيها من سكان، وهو ما أثبت فشله طوال العقود الماضية، بل على العكس، فقد استمرت إسرائيل بإرسال رسائل مفادها أنها مستمرة بالتوسع والسيطرة على الأراضي وضمّها.
هذا الواقع دفع الدول العربية المحيطة بفلسطين، وعلى رأسها الأردن ومصر، إلى اتخاذ مواقف بدت في صيغتها السياسية والإعلامية حازمة بخصوص تهجير الفلسطينيين، إذ سيُمثِّل ذلك من وجهة نظرها شهادة وفاة رسمية لمشروع الدولة الفلسطينية، مما سيولد تغيرات كبيرة في الإقليم، ويفتح الباب أمام سؤال حرج بخصوص الحدود التي تقف عندها توسّعات دولة محكومة بسلطة يمينية تؤمن بخارطة لدولة إسرائيل تتجاوز حدود فلسطين بأكملها.
لذلك، يُمثِّل تهجير الفلسطينيين لهذه الدول قضية سياسية واجتماعية واقتصادية مركبة، تضعها في تحدٍّ صعب أمام قدراتها وأمام مجتمعاتها، فبالنسبة لعمَّان يُعَدُّ تهجير أهل غزة إيذانا بخطة مماثلة مع سكان الضفة، الأكثر عددا، والمحاذية للأردن. في هذا السياق يجدر القول إن الأردن استقبل بعد لجوء الفلسطينيين عام 1948 و1967 أكثر من موجة هجرة أثرت عميقا على التركيبة الديموغرافية في البلاد، على رأسها موجة هجرة العائدين من الخليج نتيجة حرب الخليج الثانية، ثم هجرات العراقيين والسوريين الناجمة عن تداعيات الربيع العربي، وهو ما وضع عمّان أمام تحدٍّ اقتصادي واجتماعي وسياسي. وحتى ولو عمل العالم على حل الإشكال الاقتصادي الناتج عن أزمة اللجوء بتسويات معينة، فإن أحدا لن يتمكن من حل الأزمة الاجتماعية الناتجة عن تهجير ذي صيغة دائمة.
وبالنسبة لمصر، فإن تهجير الفلسطينيين من غزة نحوها قد لا يُشكِّل أزمة اجتماعية بشكل أساسي نتيجة أن عدد سكانها يقارب 10 أضعاف سكان الأردن، ما يعني احتمالات تأثير أقل على البنية الاجتماعية، لكنه يعني تحديا أمنيا بشكل أساسي، واقتصاديا بشكل ثانوي. فتهجير سكان غزة، المعقل الرئيسي للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، التي تضم فصائل مقاومة مسلحة تقدر أعدادها بعشرات الآلاف، ناهيك بمئات الآلاف من الحواضن الاجتماعية لهذه المقاومة، يعني أن معاقل هذه المقاومة سوف تنتقل بالتبعية إلى مصر وتحديدا شبه جزيرة سيناء، ما يترك القاهرة أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ من وجهة نظرها: فإما التدخل بنفسها لقمع أي مقاومة فلسطينية محتملة من أراضيها، وإما المخاطرة بتحول حدودها الشرقية إلى ساحة مشتعلة للصراع مع إسرائيل، ما يفتح الباب لحرب أوسع نطاقا.
يضاف إلى ذلك الأزمة التي ستواجهها شرعية هذه الأنظمة أمام شعوبها إن هي سمحت بتصفية القضية الفلسطينية، خصوصا أن الدور الذي يُطلب من هذه الدول ليس فقط استقبال المهاجرين، بل العمل على هندسة عملية الهجرة ومنع تبلور مقاومة جديدة، وهو دور يجعل هذه الدول -حال قبوله- شريكة فعليا في عملية التهجير. ونتيجة لذلك، فإن العديد من دول المنطقة أبدت مواقفَ واضحة تعارض هذه الخطوة، وكان الموقفان الأردني والمصري أكثرها وضوحا، حيث اعتبرا ضمنيا أي محاولة تهجير بمنزلة إعلان حرب عليهما، وهو ما يضع الاحتلال أمام تحدٍّ حقيقي مع محيطه الذي يُفترض أن يستقبل اللاجئين.
خصوصية غزة ومجتمعها
كما ذكرنا سابقاً فإن جزءاً مهماً من عملية التهجير التي أتمّتها العصابات اليهودية كان عملية الدعاية والتهويل بخصوص المذابح التي قامت بها، وهو ما دفع الفلسطينيين في كثير من الحالات إلى مغادرة أراضيهم قبل أن يصلهم أفراد هذه العصابات، كما أن جزءاً من أسباب المغادرة كان الاعتقاد بأنها ستكون هجرة مؤقتة، وأن العودة ستكون قريبة مع هدوء الأوضاع، إلا أن خبرة الفلسطينيين وخصوصاً الذين هُجّروا، تثبت عكس ذلك، وهو ما حوّل ذات الفلسطينيين إلى العنصر الأهم اليوم في إجهاض أي محاولة تهجير قبل أي معاملٍ آخر.
معظم أهالي غزة هم فلسطينيون عايشوا الهجرة بحد ذاتها، بما هي فعل ترك الأرض والممتلكات ومغادرتها، أو السياقات المعيشية الصعبة التي أنتجتها بعد ذلك. (الأناضول)
يضم قطاع غزة وفقاً لإحصائيات الأونروا قرابة 2.2 مليون فلسطيني، منهم نحو 1.7 مليون لاجئ (10)، وهو ما يعني أن معظم أهالي غزة هم فلسطينيون عايشوا الهجرة بحد ذاتها، بما هي فعل ترك الأرض والممتلكات ومغادرتها، أو السياقات المعيشية الصعبة التي أنتجتها بعد ذلك، من هنا يجدر القول إن الوعي الذي طوره أهالي القطاع بالأحداث التاريخية ودورها في التهجير، مضافاً إليه خبرتهم الذاتية بخصوص الهجرة، تبني ما يشبه نظام مناعة تجاه مشروع التهجير وخصوصاً ما ينبني منه على أسس نفسية، وهو ما يجعل تهجير المهجرين معادلة تحتاج إلى جهود مضاعفة على رأسها القتل والمجازر التي يحاول الاحتلال أن يأخذها إلى أقصى مدى ممكن منذ بدأت الحرب ولم تجدِ إلى الآن.
كما أن أهالي القطاع عايشوا خبرةً فلسطينية لم يعايشها سواهم، من خلال حروب متكررة واشتباكات قبل تحرير القطاع، تطورت لتأخذ شكل حروب دامية بعد تحريره، وهو ما بنى لديهم حالة من البناء النضالي لذهنية هذا المجتمع بكليته، وعلى مستوى الوسائل والأدوات، وعلى مستوى التوقعات وعلى مستوى الأفكار أيضاً.
إن الحالة النفسية والذهنية التي يمتلكها أهالي القطاع يضاف إليها تلك الصلة بين بنيتهم الاجتماعية وحركات المقاومة، وهي بنية غاية في التشابك، ذلك أن عشرات الآلاف من المقاومين الفلسطينيين المنتسبين للأجنحة العسكرية المختلفة هم أبناء ذات المجتمع، بل إن أجيالاً من الفلسطينيين في الكفاح المسلح بدأت تسلّم أجيالاً بعدها في غزة، ما يعني أن الصلة بين الاجتماعي والسياسي والعسكري هناك لا يمكن فضّها بسهولة، فحين يتم الحديث عن تهجير الغزيين لا بد من فهم هذا الترابط العميق بين المقاومين والمجتمع، والتي تصعّب من حالة التهجير وإنهاء الحالة والفكر النضالي.
كل هذه المعدلات تحكي أن الاحتلال يواجه ظروفاً صعبة ومعقدة في وجه مشروعه للتهجير، لا يجد من حلٍ أمامها سوى الاستمرار في المجازر، والاستمرار بالضغط على العالم وعلى المنطقة للقبول بمشروعه، وهو الذي قد يأخذ كامل المنطقة إلى الانفجار.