في 17 يونيو (حزيران) 2023، حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين احتفالاً خاصاً عند الواجهة البحرية لمدينة سان بطرسبرغ احتفاء بذكرى ولادة ثلاثة رايات هي علم الاتحاد الفيدرالي الروسي بألوانه الثلاثة، المعروف أيضاً بعلم بطرس الأكبر وقد ظهر رسمياً عام 1693؛ والعلم الإمبراطوري الروسي الذي أوجده القيصر ألكسندر الثاني عام 1858؛ والعلم الأحمر، مع شعار المنجل والمطرقة الذي تبنته الدولة السوفياتية قبل 100 عام واستعمله جوزيف ستالين في ما بعد. وقد تابع بوتين الاحتفال من متن سفينة فيما عزفت الفرقة الفيلهارمونية الوطنية وكورس سان بطرسبورغ النشيد الوطني الروسي الذي يتضمن، بفضل قانون أصدره بوتين عام 2000، اللحن نفسه الذي اعتُمِد في حقبة سلفه ستالين. وقد أقيمت مراسم الاحتفال قبالة برج “مركز لاختا”، البناء الأعلى في البلاد، الذي يضم أيضاً المركز الرئيس، البالغة قيمته 1.7 مليار دولار، لشركة “غازبروم” Gazprom، شركة الغاز التي تديرها الدولة (الروسية)، وقد غدت رمزاً أساساً آخر لروسيا بوتين.
ووفق بعض الاعتبارات، لم يكن مفاجئاً اختيار هذه الأعلام. ومنذ إطلاق روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا خلال فبراير (شباط) 2022، غدت الإمبريالية القومية الستالينية، الأيديولوجيا الفعلية لنظام بوتين. وبشكل وثيق، ترتبط تطلعات روسيا الإمبريالية بالقيصر بطرس الأول الذي أعلن نفسه الإمبراطور الأول لجميع روسيا بعد انتصاره في “حرب الشمال العظمى” عام 1721، وألكسندر الثاني، الذي نُصِّبَ إمبراطوراً على روسيا وملكاً على بولندا، واعتُبِر الدوق الأكبر لفنلندا. وكذلك شدد بوتين على أن الاتحاد السوفياتي، خصوصاً في انتصاره على ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، حينما استنهض ستالين الشعور القومي أكثر من الماركسية بغية التحشيد والتعبئة وتجنيد السكان؛ تابع مسار روسيا الإمبريالي تحت اسم آخر. وبالطبع، لم يشر بوتين علناً إلى ستالين، ولم يعلن نفسه خليفة له. لكن الكرملين، طوال أكثر من عقد، صوّر الحقبة الستالينية باعتبارها مرحلة من العظمة ساد فيها احترام التقاليد الإمبريالية والاعتزاز بالقيم الوطنية. وفي فترة أقرب، تحوّل بوتين عبر اللغة السلطوية التي يعتمدها، وكذلك تشدده إزاء الانشقاق والمعارضة، إلى شبيه لستالين في آخر أيام حكمه في ختام أربعينيات القرن العشرين ومطلع خمسينياته. إلا أن القيصرين (بطرس الأول وألكسندر الثاني)، وستالين، اعتبروا الإمبراطورية أيضاً طريقة لبلوغ ما افترضوا أنه الدولة الحديثة. وفي مطلع القرن الثامن عشر، استلهم بطرس الأول الابتكارات الغربية وضمنها التطورات المحققة في مجال بناء السفن وغيرها من التكنولوجيات، والأفكار الغربية المتعلقة بإدارة الحكومات، واستحضر حتى أنماط اللباس. وبعد مرور قرن، ألغى ألكسندر (الثاني) القنانة والعبودية، ونفّذ إصلاحات قضائية تقدمية تأثرت بالنماذج الأوروبية. وفي حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، اندفع ستالين نحو التحول الصناعي ومواكبة التطورات ذات المنحى الغربي، حتى مع تحويله الماركسية من أيديولوجية أوروبية حديثة إلى ماركسية– لينينية سوفياتية كلّفت عدداً لا يحصى من الأرواح البشرية. في المقابل، بدا انفتاح بوتين على الغرب قصير العمر إلى حدّ ما، إذ انتهى عام 2003، بعد أقل من أربع سنوات من توليه السلطة، وذلك حينما سيطر تماماً على البرلمان، وأقدمت سلطاته بناءً على اتهامات ملفقة، على اعتقال مخائيل خودوركوفسكي، الملياردير الذي يعمل في مجال الاستثمار وأحد رموز السوق الحرة والتفكير المستقل في روسيا.
والآن، يسعى بوتين إلى تحقيق أمر مختلف عن كل ما أنجزه أولئك الحكام السابقون، يتمثل بإمبراطورية من دون حداثة أو تحديث. ومن أجل أن نفهم بشكل كامل التدخل الروسي المستمر في أوكرانيا وكيفية تسويغه للشعب الروسي، من الضروري الالتفات إلى هذا الدافع والتأمل فيه. إذ أحيا بوتين الفكرة الإمبريالية الروسية عبر ضم القرم عام 2014، ومضى قدماً بعد ثماني سنوات في إحياء تلك الفكرة عبر إطلاق “العملية الخاصة”. وقد تبنى أيضاً، بدعم من التعاليم التجريدية والعتيقة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، صيغة أقدم من الأيديولوجيا القومية يتجسد العدو فيها بالغرب المنحط، ويكون لروسيا، وفق تلك الصيغة، دوراً مسيحانياً [بمعنى تخليص البشر من الخطايا] قدريّاً يتمثل بمقارعة الغرب وتأثيره المؤذي. وإذا فتح بطرس الأول نافذة نحو أوروبا، وفق ما ذكر ذات مرّة الشاعر الروسي الشهير بوشكين، فإن الرجل المتربع في الكرملين اليوم، وبعد مرور ثلاثمئة سنة، يسدّ تلك النافذة.
على أن إعادة التوجيه الدراماتيكية هذه للدولة الروسية، والتي يقوم بها بوتين، ليست فريدة أو غير مسبوقة. إذ إن روسيا، منذ بداية القرن التاسع عشر على الأقل، تأرجحتْ مراراً نحو الغرب وضده؛ وينطبق ذلك الأمر عينه على موقفها من الأفكار الغربية الحديثة المتعلقة بسلطة الدولة، والمفاهيم المتعلقة بموقع روسيا في العالم والأفكار القومية والرجعية. وحصل أمر مشابه تماماً بالنسبة إلى مواقف الدولة من الستالينية. وفي ثلاث مرات خلال السنوات السبعين الماضية، أثناء حقبتي الزعيمين السوفياتيين نيكيتا خروتشوف في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، وميخائيل غورباتشوف في ثمانينيات القرن الماضي، وحقبة الرئيس الروسي بوريس يلتسين في تسعينيات ذلك القرن نفسه، سعى القادة السوفيات والروس إلى تخليص البلاد من الأفكار والقواعد الستالينية، ولم ينتج من ذلك إلا عودة تلك المفاهيم، حتى ولو ضمنياً.
وعلى مدى جزء كبير من القرن الماضي، تشكلت الأفكار السياسية الروسية على وقع الصراع بين التوجهات الليبرالية والتوتاليتارية، أو ما يمكن تسميته بمساعي تفكيك الستالينية، من جهة، ومساعي إعادة إرسائها من الجهة الأخرى. في المقابل، يتمثّل ما يفاجئ على نحو خاص في حالة روسيا بوتين بمدى الجمع بين مسعى إعادة إرساء الستالينية، وبين النزعة الإمبريالية المضادة والمعادية للحداثة. ففي سياق إحياء بعض أكثر الصيغ تطرفاً مما عُرِفَ في القرن التاسع عشر بـ “الفكرة الروسية” التي تعني في الأصل تميّز روسيا ومكانتها المعنوية الرفيعة، لكنها مثّلت في الواقع توسعاً عسكرياً محضاً؛ ارتكز بوتين على تقليد أيديولوجي خبيث كي يرسم في آن معاً، ملامح حملته في أوكرانيا ورؤيته الطويلة الأمد للسلطة والحكم. وعلى رغم أن البوتينية قد تكون محدودة زمنياً، إلا أن حالة تطورها حاضراً، وجذورها الممتدة إلى فكرة معاداة الغرب، تشير إلى أن انكسار سيطرة بوتين على المجتمع الروسي قد يحتاج إلى ما هو أبعد من نتيجة الحرب [في أوكرانيا].
الإمبراطورية الروسية المقدسة
على مدى معظم حقبات التاريخ الروسي تمثّل ركنا الدولة الروسية الأساسيان بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبالجيش. وقد عملت أصوات أجراس الكنائس على تنظيم وضبط حياة الروس اليومية في الأزمنة القديمة. وكذلك تكاملت أصوات الأجراس في ما بعد مع هدير المدافع الروسية في ميادين القتال أثناء بداية حقبة أوروبا الحديثة. وإذ جسّد الجرس نظام الدولة السائد والمسيطر، فإن المدافع دعمت ذاك النظام بالقوة المادية والفعلية، وحلّت محله أحياناً. وفي دراسته التي وضعها عام 1966 وتناولت الثقافة الروسية بعنوان “الأيقونة والفأس” The Icon and the Axe، أشار المؤرخ الأميركي جايمس هـ. بيلينغتون إلى واقعة تذويب أجراس الكنائس في البلدات والأرياف والأديرة الروسية أثناء أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر، بغية صنع المدافع للجيش الروسي. في السياق عينه، وضمن إطار إحيائه وتمجيده قيم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المحافظة والقديمة، ومثابرته على إعادة عسكرة البلاد؛ صنع بوتين صيغته الخاصة من مبدأ “الجرس والمدفع”.
4
نهاية الفكرة الروسية
وترافقت رموز السلطة تلك، مع صعود روسيا كإمبراطورية أساسية في القرن الثامن عشر، وتكاملت مع تصورات أوسع عن الدولة الروسية. وكبداية، جرى تجاهل التناقضات البادية من تأرجح روسيا وانجذابها نحو أوروبا وعصر الأنوار [تميز بفلاسفة ومفكري الثورة الفرنسية كجان جاك روسو ومونتسكيو وفولتير وديدرو، وقد أرسوا أفكاراً من نوع العقد الاجتماعي والنظام الدستوري المستند إلى شرعية معطاة من الشعب، ومبدأ فصل السلطات والمواطنة المتساوية قانونياً ودستورياً]. إذ استطاعت الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية التوافق مع فولتير حتى مع استمرارها في استعباد الفلاحين. وبعد انتصارها على نابوليون عام 1812، اكتسبت روسيا شعوراً وطنياً ووحدوياً جديداً، إضافة إلى موقعٍ ضمن النظام الأوروبي، على رغم أرستقراطيتها الرجعية. وقد جاء فشل “ثورة ديسمبر” عام 1825 التي قادها ضباط من الأرستقراطية الروسية رفضوا الولاء للقيصر الجديد نيكولاس الأول، وسعوا للتخلص من الحكم الأوتوقراطي؛ كي يكشف مدى الحاجة إلى حركة تحديث وفق التوجه الأوروبي. لكن خلال حكمه، آثر القيصر المحافظ نيكولاس (1825- 1855) الرجعية على الإصلاح. وفي تلك الفترة، شرع مفكرون روس بصياغة أيديولوجية شاملة للدولة.
وفي عام 1832، وضع وزير الثقافة، الكونت سيرغي أوفاروف، مفهوماً سمّاه “الأرثوذكسية، الحكم المطلق، والوطنية”. وفي أحد جوانبه، يحمل ذلك تأثيراً أوروبياً. إذ إن أوفاروف، على غرار أرستقراطيين روس آخرين، فكّر وكتب بالفرنسية. وتحدث الألمانية، وحافظ على علاقة مع الروائي الألماني غوته. في المقابل، رأى أوفاروف أن الأفكار الغربية تشكل خطراً على روسيا، وسعى إلى التدقيق في نزعة تحديثية من شأنها زعزعة أسس السلطة القيصرية، أو ما أسماه “الحكم المطلق” (الأوتوقراطية). ووفق مبدئه، شكّلت الأرثوذكسية، أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، أداة الحفاظ على هوية روسيا المنفصلة، فيما عملت النزعة الوطنية على تأمين الرابط بين القيصر والشعب. وحتى قبل وضع الصيغة الأخيرة لهذا المبدأ، عبّر أوفاروف بوضوح عن أهدافه التوسعية. ففي رسالة إلى نيكولاس (الأول) عام 1832، كتب أوفاروف إن “طاقة السلطة المطلقة تمثل شرطاً ضرورياً لوجود الإمبراطورية”.
يشن الكرملين حرباً على الذاكرة
وفي الأثناء، خلال تلك الفترة عينها، برز توجّه ثان ضمن التفكير الروسي حيال الدولة، مع ولادة حركة الـ”سلافوفيل” Slavophile [تعني حرفياً، محبي السلافيين]. وابتداءً من أربعينيات القرن التاسع عشر، دار سجال بين التغريبيين [المتأثرين بالغرب وحداثته] وأنصار حركة “سلافوفيل”، وصار موضوعة أساسية في التنظير السياسي بروسيا. واعتبر التغريبيون أن الدولة القيصرية تمثّل حالة رجعية، ورأوا أن روسيا لا يمكنها منافسة القوى العظمى في الغرب إلا عبر تحديثات وصيغة دستورية أوروبية المنحى. كذلك لم يرضَ أنصار الـ”سلافوفيل” عن سلطة القيصر المطلقة، لكنهم اعتبروا أن روسيا المبنية على قيمها الفريدة الخاصة، تفصلها مسافة عن الغرب وهي متفوقة عليه معنوياً وأخلاقياً. بيد أن تلك الرؤية الرومنطيقية تطورت تدريجاً إلى شيء آخر. وبخلاف السلافوفيليين الأوائل الذين عارضوا الاستبداد، دافع خلفاؤهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن الاستبداد، معتبرين أن كل محاولة لتقييد الحكم المطلق [الأوتوقراطية] ستضعف أو تقوّض، مكانة روسيا في العالم. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دُفِعَتْ تلك الأفكار في اتجاه جديد من خلال أعمال الفيلسوف والمفكر الروسي نيكولاي دانيلفسكي. وفي كتابه المؤثر والمعنون “روسيا وأوروبا” (1869) Russia and Europe، اعتبر دانيلفسكي أن روسيا والبلدان السلافية تنتمي إلى نوع أو نمط ثقافي تاريخي، ما شكل نظرية استدعت سجالاً واسعاً وطبعت بداية الحركة القومية السلافية الكبرى. ومن بين تنظيرات عدّة، تطلّع ذلك المفكر دانيلفسكي إلى إرساء اتحاد بين جميع الأمم السلافية يُحكم من القسطنطينية، أو التي يطلِق عليها الروس اسم “مدينة القيصر” [“تسارغراد” Tsargrad]. كذلك رَمَقَ دانيلفسكي الغرب وأفكاره التحديثية بنظرة شك عميقة. وفي هذا الخصوص، كتب “أوروبا ليست غريبة عنا وحسب، بل إنها معادية أيضاً”. ولطالما وجدت تلك النظريات أصداءً في كلام بوتين عن روسيا كـ”دولة حضارة” تحدِّدُها مُعارضتها لنظرائها الأوروبيين. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، خلال اجتماع لـ”نادي فالداي” Valdai Club، المنتدى السنوي الذي تستضيفه روسيا منذ عام 2004 وضم في أوقات سابقة محللين وباحثين مرموقين في السياسات الدولية، استند بوتين إلى دانيلفسكي مباشرة كي يشرح السبب الذي يستدعي مقاومة الغرب. وفي عام 1856، أضاف الروائي فيدور دوستويفسكي رؤيته الخاصة لحالة روسيا الاستثنائية وشخصيتها الفريدة عِبْرَ وضعِه نظرية “الفكرة الروسية”. وعلى رغم علاقته الوطيدة بالثقافة الأوروبية، رأى دوستويفسكي، على غرار آخرين من حركة “سلافوفيل”، أن الغرب يعيش حالة تراجع، وروسيا الصاعدة ستحل مكانه. وقد تناول هذه الفكرة في رسالة إلى الشاعر أبولون مايكوف عبّر فيها عن إعجابه بتلميح الشاعر إلى قدرة روسيا “على إكمال ما بدأه الغرب”. وبحسب دوستويفسكي، يتوجب على الدولة أن تؤدي دور “حارس المسار الخاص للبلاد” وتحيي النظام الأخلاقي المسيحي الكوني الذي سبق عصر الأنوار، أي القيم التي سادت قبل أن يصبح الأوروبيون مهووسين بأفكار التقدم والحرية وحقوق الفرد. ثم اتّخذت تلك الرؤية، تدريجاً، أشكالاً أكثر تطرفاً. وخلال حقبة الحرب العالمية الأولى، تبنت موجة من الفلاسفة والليبراليين والمحافظين الوطنيين فكرة الحرب التطهيرية التي يمكن للأمة من خلالها تجديد نفسها، وتوحيد شعبها، ومواجهة الحداثة الانحلالية التي اجتاحت أوروبا. وتداخلت تلك الأفكار مع الدعوات القومية السلافية الكبرى وحلم الإمبراطورية السلافية، وعملت على تغذية توجه قومي إمبريالي جديد.
بوتين خلال حضوره قداس عيد الميلاد وفق التقويم الأرثوذكسي قرب موسكو، يناير 2022
بوتين خلال حضوره قداس عيد الميلاد وفق التقويم الأرثوذكسي قرب موسكو، يناير 2022 (رويترز)
في مسار موازٍ، ظهر ضمن أيديولوجية الدولة في القرن التاسع عشر اتجاه فكري آخر أرخى ظله المديد على الدولة الروسية، وتمثل بأطروحة “روما الثالثة”. فخلال العقد السادس من القرن التاسع عشر بدأ المفكرون الروس الإمبرياليون بالترويج لفكرة من القرن السادس عشر وتعتبر أن موسكو خليفة روما والقسطنطينية مركز المسيحية في العالم، والوريثة الشرعية للإمبراطورية البيزنطية، والمملكة المسيحية الأخيرة، وتتمتع بالتالي بقدر مسيحاني. وبالفعل، بالنسبة إلى كثيرين ضمن اليمين الروسي المتطرف، تلتزم الدولة (الروسية) على الدوام مهمة الدفاع عن قيمها وروحيتها التقليدية ونشرها في العالم. وفي خطاب خلال أبريل (نيسان) ألقاه البطريرك كيريل، رأس الكنيسة الأورثوذوكسية الروسية وأحد المفوهين الأساسيين في عرض آراء الكرملين؛ تقصّى كيريل المؤشرات على تلك المهمة المسيحانية وصولاً إلى هزيمة روسيا أمام “فرسان تيوتون” Teutonic knights عام 1242 وإلى انتصارها على المغول عام 1380. [تأسست الأخوية العسكرية الكاثوليكية المسماة فرسان تيوتون في إمارة عكا الصليبية عام 1190 وأديرت من ألمانيا. واشتهرت بنشرها الكاثوليكية في البلقان والدفاع عنها في دول شرق أوروبا].
وورد في خطبة كيريل، “ألم يكن هذا ما حارب من أجله الأمير المقدس ألكسندر نيفسكي؟ ألا يمثل هذا السبب الذي قاتل أسلافنا العظماء من أجله في “سهل كوليكوفو” Kulikovo Field؟ [في تلك المعركة، تواجهت قوات من موسكو قادها أميرها، مع قوات الإمبراطورية المغولية. شكلت انتصار الروس بداية لانحسار نفوذ المغول في روسيا وجوارها. وتُكرّم ذكرى تلك المعركة في روسيا سنوياً في 7 نوفمبر الذي يسمّى يوم الشرف العسكري].
بوتين بمواجهة الشيطان
للمفارقة، لم تتمتع سوى قلّة من تلك التقاليد والأفكار الرجعية بحضور وازن حينما تولى بوتين زمام السلطة قبل 23 عاماً. وفي ذلك الوقت، غرقت موسكو ما بعد حقبة الاتحاد السوفياتي بالأفكار الغربية. وفي الثمانينيات من القرن العشرين، إبّان حكم غورباتشوف، تخلّت الحكومة السوفياتية تدريجاً عن الضوابط الاشتراكية وانفتحت على الأفكار الليبرالية. من ثم، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، نفذ الاقتصادي الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء في روسيا، إيغور غايدار، بدعم من الرئيس الروسي بوريس يلتسين، إصلاحات دراماتيكية وجّهت هياكل الإمبراطورية الماركسية التي سادت طيلة سبعين سنة، نحو اقتصاد السوق عبر مؤسسات سياسية حديثة وفق النمط الغربي. وعلى رغم السجال الذي أثارته عملية إعادة الهيكلة الشاملة تلك، إلا أنها ساعدت على استهلال فكرة جديدة عن روسيا. إذ تمثّلت إحدى مبادئ غيدار الأساسية برؤيته عن استحالة بناء اقتصاد ليبرالي على قياس إمبراطورية، ونجاح الإصلاحات يفترض من البلاد أن تعيد تحديد نفسها كدولة– أمة.
في السنوات الأولى من رئاسته، لم يعارض بوتين عملية التحديث المتواصلة والمستندة إلى مبادئ السوق. لكنه منذ البداية أعرب علناً عن أسفه لانهيار الإمبراطورية السوفياتية وسعى إلى سبل جديدة في معاودة السيطرة على المجتمع الروسي. واستفاد من تحرير اقتصاد البلاد ومواردها الطبيعية المربحة، الأمر الذي سمح له بمنح الموالين مكافآت سخية وتشديد قبضة الدولة على النظامين السياسي والاقتصادي. وحين عاد إلى الرئاسة عام 2012 بعد أن تولى المنصب ديمتري ميدفيديف لولاية واحدة، بدأ في إنهاء الإصلاحات الليبرالية التي سبق له ولميدفيديف أن دعماها. حينها، عند تلك النقطة، غدا بالفعل متبنياً للنظام السلطوي والقمعي بصورة معلنة. وشرع باستخدام الأيديولوجية المحافظة لتبرير تبدّله. وراح يزداد انزعاجاً من الغرب. إذ زعم إن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يعاملوا روسيا كشريك متساوٍ، ولم يعبأوا لمصالحها، بل أثاروا المعارضة داخل روسيا وحرّضوا منظمات المجتمع المدني ضد الحكومة. وكذلك راح يشعر بحاجة أقل للإبقاء على مظاهر التعددية السياسية وحرية الرأي. ووفق رؤية الكرملين اليوم، تمثلت مهمة اقتصاديي روسيا الليبراليين بالحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وبات من المستطاع تقليصهم إلى مجرد تكنوقراط.
جاء ضم القرم في عام 2014 نتيجة لتلك التطورات بأكثر من كونه الحدث الذي غيّر وجهة أفكار بوتين المتعلقة بالسلطة أو تطور النظام السياسي الروسي. وحتى مع استمرار روسيا في تزويد أوروبا بمعظم حاجاتها من الغاز والنفط واستفادتها من الاستثمارات والتكنولوجيات الغربية، ظل بوتين مهتماً أكثر بفكرة قديمة وروحانية عن الدولة الروسية التي اعتبرها إمبراطورية. وفي عام 2013، بدأ فعلياً بتصوير الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كركيزة لروسيا التي تضم الأراضي التاريخية التي خسرتها عام 1991 [عام تفكك الاتحاد السوفياتي]. وفي هذا السياق، ذكر بوتين، “في قلب الأمة الروسية والدولة الروسية المركزية، تكمن القيم الروحية التي توحد جميع الأراضي الأوروبية الشاسعة التي تقع فيها اليوم روسيا وأوكرانيا وبيلاروس. إنه فضاؤنا الروحي والمعنوي المشترك”.
ومع حلول عام 2022، تبنّى بوتين وكثيرون ممن حوله بفاعلية صيغ الأفكار الأكثر تطرفاً ضمن التوجه القومي– الإمبريالي الروسي. وقد شاع في أوساط بوتين تكرار لازمة تفيد بأن الغرب في حالة انحدار أخلاقي وروحي، وروسيا الصاعدة ستحل مكانه. ومنذ بداية “العملية الخاصة” في أوكرانيا، استخدم الكرملين تلك المزاعم في تسويغ انقطاع العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة وتبرير تصاعد عمليات القمع الشاملة بحق المجتمع المدني الروسي. وتضمن ذلك شنّ حملات على منظمات حقوق الإنسان المقربة من الغرب، وإصدار قوانين تستهدف الأشخاص المثليين وعابري الهويات الجنسية، وقيود واسعة جديدة على المنظمات والأفراد الذين يعتبرون “عملاء للأجانب”. ويرى منظّرو بوتين الآن أن روسيا لا يمكنها الثبات في موقعها المدافع عن الحضارة إلا عبر دمجها طموحاتها الإمبراطورية المتجددة بتعاليم الكنيسة وقيمها المحافظة. ووفق ألكسندر دوغين، المفكر القومي المتشدد الذي يُزعم أنه فيلسوف الكرملين، في يونيو الماضي، “إننا نخوض حرباً من أجل السلام”.
واليوم أخذت كييف مكان القسطنطينية أو “مدينة القيصر” في منطق الجناح اليميني الروسي، وذلك مع إقدام بوتين بفاعلية على إسناد دور بيزنطية المفقودة إلى أوكرانيا. إذ إن الأخيرة، بحسب الدعاية السياسية الصادرة من الكرملين، تقع في قبضة الغرب الخطير و”الشيطاني”، وتعتدي على أراضي روسيا التاريخية والأراضي الشرعية للكنيسة. في هذا الإطار، ضمن منشور كَتَبَهُ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 على “تليغرام”، منصة المراسلة التي تحظى بشعبية واسعة عند الروس، اعتبر ميدفيديف حرب روسيا في أوكرانيا حرباً مقدسة ضد الشيطان، محذراً من أن موسكو قد “ترسل جميع أعدائنا إلى نار جهنم”.
أشخاص يحتفلون بانتصار روسيا على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، موسكو، مايو 2023
أشخاص يحتفلون بانتصار روسيا على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، موسكو، مايو 2023 (رويترز)
الإمبراطور من دون رداء
يتمثل جزء مما يجعل نظام بوتين شديد الخطورة بالطريقة التي اعتمدها هذا النظام في تبسيط الأفكار التقليدية إلى أقصى حد. وأثناء حقبة الكونت أوفاروف في مطلع القرن التاسع عشر، وفق ملاحظة المؤرخ أندريا زورين، “استُدعِيَ الماضي كي يحل مكان مستقبل خطير وغير واضح بالنسبة للإمبراطورية”. وبرأي أوفاروف، تمثّل الطبقة الأرستقراطية والكنيسة الأرثوذكسية “آخر البدائل في مواجهة الأوْرَبَة [فرض النمط الأوروبي]”. لكن، مع مطلع القرن العشرين، راح الأيديولوجيون القوميون يستخدمون بالفعل فكرة تمايز روسيا واستثنائيتها للدفاع عن توجه صريح نحو العسكرة. في عام 1929، كتب الفيلسوف الروسي غيورغي فيدوتوف الذي غادر روسيا السوفياتية إلى فرنسا، إن “الفكرة القومية الروسية، غدت فجّة على نحو مذهل. وكذلك غدا أعيان الدعوة السلافية مسحورين بالقوة العارية، مما أفقدهم البعد الأخلاقي”، تابع ملاحظاً. وفي الوقت الذي كتب فيه فيدوتوف تلك الكلمات، بدأت الدولة السوفياتية بالفعل بتطبيق ما أشار إليه ذلك المفكر. إذ اعتبر ستالين عام 1929 “عام التحول الكبير”، بما يعني بدء فرض التصنيع الذي تطلب عمالة قسرية وإلزامية التأميم وتجريد الفلاحين من جميع مصادرهم. وبعد عام من ذلك أوجدت السلطات السوفياتية الـ”غولاغ” [وكالة حكومية أُنيط بها إدارة شبكة من معسكرات العمل القسري]، الذي تلته بعد فترة قصيرة حقبة من القمع الشامل. على أن كلمات فيدوتوف تلك ربما امتلكت اليوم أهمية أكبر. ومع استمرار النزاع في أوكرانيا بات هوس الكرملين بالقوة العارية أكبر وأكثر وضوحاً. وتساوي “الفكرة الروسية” بصيغة بوتين، خطوة تتجاوز قليلاً التوسع الإقليمي وقمع الاعتراض الداخلي في إطار الدفاع عن دولة مقدسة. وقد تزامن اعتناق النظام لهذه الفكرة، بصيغتها الأكثر فجاجة، مع تحوله من صيغة سلطوية ناعمة إلى ما بات يبدو الآن أشبه بتوتاليتارية هجينة تستلهم المبادئ الستالينية. وإضافة إلى القمع الكامل للمجتمع المدني والإعلام المستقل، والقمع الوحشي لكل أشكال الانشقاق والمعارضة، تفرض الدولة راهناً متطلبات سياسية جديدة على الروس أنفسهم. فلم يعد مسموحاً للناس، في حالات كثيرة، مجرد الإذعان السلبي للنظام وفق ما فعلوه خلال سنوات ماضية؛ بل بات عليهم التعبير عن دعم نظامهم السياسي على الملأ وبصوت عال. وقد أدرجت المدارس الروسية اليوم في مناهجها دروساً إلزامية في “الوطنية”، وكُرِّسَتْ كتب مدرسية لإيراد التأويلات الصحيحة لأفعال بوتين، وبات يطلب من المواطنين الروس أحياناً المشاركة في تظاهرات مؤيدة لبوتين. وهكذا يفرض الرئيس الروسي نظاماً توتاليتارياً يسعى من دون منازع إلى وضع السردية التي تشرح للمجتمع والبلاد ما يجري من حوادث ووقائع، مع فرض ما ينبغي على الروس أن يفكروا به تجاه كل ذلك.
وفي هذا الجانب، ربما تمثّلت أكثر الممارسات دلالة بجهود كبح المعرفة في ما يتعلق بالاضطهاد السياسي أثناء الحقبة السوفياتية. وفي أواخر 2021، قبل فترة وجيزة من اجتياح أوكرانيا، أغلقتْ الحكومة الروسية مؤسسة “ميموريال” Memorial، المنظمة المكرسة لحفظ ذكرى جرائم حقبة ستالين. وفي نهاية المطاف، لم يعد نظام بوتين يعتبر حملات ستالين وقائع سلبية. بيد أن إغلاق “ميموريال” ليس سوى مثل واحد في سياق حملة طمس أوسع. إذ سبق لسلطات مدينة “تفير”، منذ عام 2020، أن أزالت لوحة تذكارية من موقع الإعدام الجماعي لأسرى الحرب البولنديين خلال الحرب العالمية الثانية، وقد شكّلت تلك الواقعة جزءاً من حملة قتل جماعي فظيعة في ربيع 1940 تعرف باسم مجزرة “كاتين”، نفذها عملاء جهاز الشرطة العسكرية الستاليني، “أن كي في دي” (NKVD)، سلف الـ”كي جي بي”. ومنذ ذلك الحين، يسعى الإعلام الروسي، وكذلك البرلمان، إلى إعادة كتابة تاريخ “كاتين”، مع إعادة صوغ السردية السوفياتية التي تلقي مسؤولية المجزرة على النازيين. وقد تسارعت وتيرة هذه الحملة خلال العام الماضي. وفي أبريل (نيسان)، لاحظ سكان منطقة “بيرم” الروسية أن نصباً يستذكر البولنديين والليتوانيين الذين رُحّلوا من ليتوانيا عام 1945، تعرض للإزالة. وبعد أسابيع عدة، دُمّر نصب وصليب في موقع قبور جماعية لليتوانيين الذين أعدموا على يد عملاء “أن كي في دي” قرب مدينة “إركوتسك” في شرق روسيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين. وفي يوليو (تموز) 2023، أزيل نصب يكرّم البولنديين من مقبرة “ليفاشوسفو” التذكارية في مدينة سانت بطرسبورغ. وقد أُرسِيَتْ المقبرة عام 1990 تكريماً لضحايا القمع السياسي الستاليني. والأرجح أن السلطات المحلية في المناطق المذكورة تنهض بعمليات الإزالة تلك. إذ شعرت السلطات المحلية، بموازاة النزاع في أوكرانيا، بالتبدّل في المناخ الأيديولوجي الروسي. ويخوض بوتين حرباً ضد الذاكرة. وبحسب الكرملين، فإن ضحايا القمع السياسي في الماضي، كانوا خصوماً للدولة الروسية على غرار أشباههم في الوقت الراهن من معارضي بوتين وخصومه. وبهدف ربط ممارسات بوتين الانتقامية بقضية عادلة، يحتاج النظام إلى طمس سجل ستالين. إذ استندت ديكتاتورية ستالين إلى القومية والإمبريالية والقوة العارية، وإلى ما غدا عداءً متصاعداً تجاه الغرب. وأدت الستالينية إلى موت الملايين في الـ”غولاغ” وأرجعت تطور البلاد إلى الخلف عشرات السنين، وجعلت كثيرين يعيشون في خوف مستمر من الاعتقال والتوقيف. في المقابل، غرقت أوتوقراطية بوتين عبر إضافتها على الوقائع الراهنة أبعاداً مسيحانية وموقفاً أيديولوجياً معادياً تجاه الغرب، في مستنقع عبثي داخل أوكرانيا لا ينتج منه سوى دمار هائل، وتراجع نمو الاقتصاد الروسي، وفرض وعي معادٍ للحداثة على عقول النخبة وعموم المجتمع الروسي. هكذا تأتي عودة “الفكرة الروسية” إلى الكرملين اليوم، نتيجة قرنين من الفساد الأيديولوجي. وقد عملت مخاوف متكررة تجاه الغرب على تحفيز تلك العودة. ووفق ما لاحظ الديبلوماسي الأميركي جورج كينان في سياق “برقيته الطويلة” من موسكو إلى وزير الخارجية الأميركي عام 1946، فإن الحكام الروس “خافوا على الدوام من الاختراق الأجنبي، وتهيبوا من التواصل المباشر بين العالم الغربي وعالمهم، وخافوا مما يمكن أن يحصل إن عرف الروس حقيقة العالم خارج بلدهم، أو عرف الأجانب حقيقة الداخل الروسي”. “نتيجة لذلك”، كتب كينان، “لقد تعلموا [حكام روسيا] السعي إلى الأمن عبر صراع متواصل ومميت لتدمير القوة المنافسة بشكل كلي، من دون مواثيق وتسويات معها”. وفي روسيا بوتين قاد هذا التوجه إلى “العملية الخاصة” في أوكرانيا التي مثلت تحويراً خبيثاً لفكرة “الدفاع عن أرض الأجداد” في مواجهة الغرب، في وقت لم يهاجم فيه أحد أرض الأجداد تلك. ويطلب من المواطنين في السياق المخاطرة بأرواحهم من أجل هذه الفكرة، وقد حُوّل الفتية الروس إلى وقود للحرب.
كشك للصحف في مدينة روستوف أون دون يعرض تقويما للعام 2024 تظهر عليه صورة الرئيس بوتين
كشك للصحف في مدينة روستوف أون دون يعرض تقويما للعام 2024 تظهر عليه صورة الرئيس بوتين (أ ف ب)
المؤامرة ضد روسيا
في دخوله عالم الضرورة الأيديولوجية، أطلق الكرملين قوى لا يسهل على الدوام إعادة لجمها. أحد الأمثلة المفاجئة على ذلك هو يفغيني بريغوجين، اللص والمحتال المُدان الذي أعاد تأسيس نفسه كصاحب سلسلة من المشاريع كان آخرها شركة مطاعم مفضلة منْ قِبَل الكرملين، ثم مجموعة “فاغنر” للمرتزقة التي دعمها الكرملين أيضاً. وينبغي ألا يساء فهم تمرد بريغوجين في يونيو 2023 بوصفه تحديّاً مباشراً لنظام بوتين. إذ إن بريغوجين، ككل شخصية أخرى حول الرئيس الروسي، من منتجات ذلك النظام، إضافة إلى كونه تجسيداً لفكرة القوة العارية. لو ظهرت لديه مسائل يختلف مع بوتين إزاءها، فإنها تبقى مسائل “أسلوبية”، وفق ما ذكر مرة الكاتب والمنشق أندريا سينيافسكي، ساخراً من تمايزه (بوتين) عن النظام السوفياتي. لكن، في الوقت عينه، يُعتبر بريغوجين نتاجاً لرأسمالية الدولة البوتينية، حين بدأ الكرملين بتوزيع عائدات الضرائب إلى عدد من العملاء والمحظيين. هذا ما انحدرت إليه روسيا بوتين. إلى نظام إقطاعي يقوم فيه القائد الأعلى بمنح قطع من الملكيات إلى أزلامه أو مشتغلين عندهم، وذلك على حساب مواطنيه”. وقد تقاضى أحد أولئك المحظيين، بريغوجين نفسه، أكثر من مليار دولار من أموال الدولة، أي أموال دافعي الضرائب، كي يشكل جيشاً خاصاً لا يخضع تماماً لسيطرة الدولة. وقد سُمح له لوقت قصير بإثارة الفوضى من دون أن يتلقى، في نهاية المطاف، أي عقاب على غرابة تصرفاته. لا يمكن تفسير ذلك الوضع غير السوي إلا بطبيعة نظام بوتين الأوتوقراطي المغرق بالشخصانية، والحاجة إلى شعار الدفاع عن أرض الأجداد إزاء هجمات الغرب، والترويج لنفوذ روسيا العسكري في الخارج، على غرار ما يحصل في أفريقيا مثلاً. وفي هذا الإطار، حاز بريغوجين أهمية لأنه أمّن المادة البشرية القابلة للاستهلاك. وقد شعر، في تلك الحالة، أنه ربما يخسر تعاقده مع الدولة، فقرر استعراض قدراته. لم يكن هدفه إزاحة بوتين، بل أن ينظر إليه (إلى بريغوجين) كشريك متساوٍ مع الرئيس. إلا أنه ارتكب خطوة أولى خاطئة وبالغ في تقدير قوته. وفي فورته تلك، اختل بريغوجين وأخاف بوتين، لكنه لم يزعزع على نحو جدي سيطرة الأخير على السلطة.
والمفارقة أن الكرملين بدا أقل قلقاً بشأن الإمكانية الحقيقية لمزيد من حركات التمرد في الداخل، مقارنة بقلقه إزاء أخطار متخيلة من الخارج. وفي الحقيقة، يتمحور المفهوم الأيديولوجي الأساسي للنظام، ببساطة، حول خطر متخيل وحيد يمثّله الغرب في الخارج المتربص بروسيا بغية تدمير دولتها. وقد عبّر عن ذلك سيرغي كيريينكو، النائب الأول لرئاسة الإدارة البوتينية والطبيب الأساسي في الكرملين، بالكلمات التالية، “هدف أولئك الذين يحاولون القتال ضد روسيا اليوم واضح جداً. إنهم يريدون من روسيا أن تكف عن الوجود”. ويشير المسؤولون الروس إلى ذلك على نحو صاخب باعتباره “تحدياً حضارياً” أو “خطراً وجودياً”. إن بساطة تلك الفرضية جعلتها أساساً منطقياً رئيساً لـ”العملية العسكرية الخاصة” المستمرة في أوكرانيا، وقد بات المسؤولون الروس أخيراً، بمن فيهم بوتين، يسمونها حرباً، علماً أنهم يعاقبون الروس العاديين إذا سمّوها كذلك.
سيجد بوتين الكلمات المناسبة لتقديم الهزيمة على أنها انتصار
لم يكن الروس بالتأكيد يسعون للتضحية بأنفسهم من أجل الدولة قبل فبراير 2022. ولم يظهر ترويج الحكومة لفكرة الموت البطولي “في سبيل أرض الأجداد” إلا بعد انطلاق “العملية العسكرية الخاصة”. والآن، يجادل بوتين بأن الموت في ساحة المعركة يعني حياة لا تعاش عبثاً. وبحسب تصريح له في نوفمبر 2022 أمام مجموعة من الأمهات اللواتي قتل أبناؤهن في المعارك، “دافع الموت بالنسبة لبعض الناس ليس واضحاً، بسبب الفودكا أو أمور أخرى ربما، وحياتهم تمرّ من دون انتباه. لكن أبناءكم يعيشون. هل تفهمون هذا؟ لقد حققوا أهدافهم”. سبق لهذه الفكرة أن تغلغلت في الثقافة الروسية. خذوا مثلاً نجم البوب الروسي “شامان”، الذي حولته آلة البروباغندا في الكرملين إلى لسان حال النزعة التوسعية العسكرية. في أغنيته الأحدث “هيا ننهض” Let’s Rise، لا يكتفي بزعم أن “الله والحق إلى جانبنا” بل يدعو الروس إلى تمجيد الذين سقطوا (في الحرب)، “أولئك الذين ألفوا أنفسهم في الجنة ولم يعودوا بيننا”.
كذلك غدتْ الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، عبر مساعدتها في تعزيز النزعة الحربية، أداة أيديولوجية ودعائية مهمة بيد النظام؛ إلا أنها أيضاً فقدت رسالتها المسيحية. خذوا مثلاً حالة الأب إيوان بوردين الكاهن القروي المسالم في منطقة كوستروما شمال شرقي موسكو. فبعد أن أبلغ عنه أبناء رعيته، جرى تغريمه بجرم تشويه سمعة الجيش في عظاته، وفي مارس (آذار) 2023 حظر من إقامة القداديس. وقد أصدرت المحكمة الأبرشية الروسية حكماً اعتبر أن سلمية بوردين تتعارض مع تعاليم الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية (وقد أشار بوردين عن حق إلى أن الكنيسة (الروسية) اليوم تخدم الدولة، لا المسيح).
دبابات أوكرانية تشارك في تدريب بمنطقة تشيرنييف في خضم الغزو الروسي لأوكرانيا
دبابات أوكرانية تشارك في تدريب بمنطقة تشيرنييف في خضم الهجوم الروسي على أوكرانيا (أ ف ب)
في المقابل، تبقى الأداة التي تفوق حتى مراسيم الكنيسة وأحكامها في القوة، متمثلة بعملية إعادة كتابة التاريخ من قبل الكرملين. وقبل فترة طويلة من اجتياح أوكرانيا، رأى عالم الاجتماع الروسي ليف غودكوف قد أن الحكومة راحت تبث في الكتب المدرسية الروسية فكرة أن البلاد “وحدة قومية تتبلور مع توسع الإمبراطورية”. وضمن هذا التأطير يأتي استعمار الأراضي المجاورة كي يعبّر عن التفوق القومي الروسي فيما “يدمج مصالح النظام ومصالح الشعب” (بحسب نكتة متداولة في موسكو، “روسيا تقع عند حدود أي بلد تريده”). وبالتطابق مع الكتب المدرسية في حقبة ستالين، التي تدخّل الأخير بشخصه في كثير منها، تتخطى الكتب المدرسية اليوم مقدار المطولات الاستثنائية التي أوردها التربويون والرسميون الأوفياء للنظام بغية تطويع التاريخ وفقاً لأفكار إمبرياليي بوتين وقومييه. وتأتي “فكرة تعليم التاريخ الروسي في مؤسسات التعليم العالي غير المتخصصة بالتاريخ” التي وضعتها الحكومة حديثاً وبدأ تطبيقها في شتاء 2022 – 2023، كي تعبّر عن أمرين أساسيين. الأول يتمثل بالتشديد على أهمية السلطة المركزية القوية التي تعتبرها هذه الفكرة “أساسية للحفاظ على الدولة الوطنية”. ويتمثل الأمر الثاني بتأويل الوقائع التي استدعت تحركاً روسياً في أوكرانيا، من بينها، بحسب وثيقة مسوغات الفكرة المذكورة، “محاولة خلق ‘حزام عدم الاستقرار’ حول روسيا” و”رفض” الولايات المتحدة وحلف الناتو “مناقشة الأمور التي تهدد أمن روسيا”، وهي أمور، بحسب الوثيقة المذكورة، أوجدها الغرب. ووفق الوثيقة نفسها، فإن القيادة الأوكرانية، “حولت ‘أوكرانيا’ إلى دولة ‘معادية لروسيا’، وتأهّبَتْ ‘لإعادة القرم ودونباس’، بمساعدة حلف الناتو”، إلى سلطة كييف. وبحسب الحكومة (الروسية) فإن ذلك الأمر شكّل الخطر الوجودي الذي “قاد إلى حتمية العملية العسكرية الخاصة التي بدأتها روسيا عام 2022”.
ما بعد الحكم الأوتوقراطي
إن محاولة بوتين لإحياء الإمبراطورية من خلال القوة العارية تبوء اليوم بالفشل. وبالكاد يتمكن النموذج الإمبريالي راهناً من الوقوف على قدميه ولم يعد بالإمكان إحياؤه. في المقابل، يبرز السؤال عن مدة الوقت الذي سيظل فيه الروس العاديون متقبلون للبوتينية، والمسيحانية الروسية، والتبريرات الواهية التي تقدمها الدولة إزاء استخدامها القوة العسكرية. وتتضارب الأدلة بشأن ذلك. وبحسب مركز “ليفادا سنتر” Levada Center، المنظمة المستقلة للأبحاث، فإن تمرد بريغوجين أثّر بشكل ضئيل على معدلات التأييد التي يحظى بها بوتين. وبنظر الروس العاديين، لقد ربح بوتين المعركة وبقيت البلاد هادئة نسبياً. وربما يكون المجتمع الروسي مجيشاً، لكن ليس جميع المواطنين منخرطين في القتال، وقد تمكن بوتين من أن يظهر لأولئك الذين ليسوا في أرض المعركة أنه يمكن للدولة الاستمرار في تأمين أوضاع عيش مقبولة نسبياً. وربما لا يثق الناس بالسلطات، بيد أن ذلك لا يمنعهم من تأييد النظام وزعيمه الذي يبقى من دون منافس، أو حتى إظهار ولائهم له عند الضرورة.
ومنذ زمن بعيد، اعتاد المواطنون الروس العاديون على تجاهل آرائهم الخاصة، ومالوا إلى اتباع الأفكار التي تمليها الدولة عليهم. خذوا مثلاً القانون الذي استخدم لاعتبار أفراد روس محددين، من بينهم كاتب هذه السطور، “عملاء للأجانب”. ووفق استطلاع أجراه “مركز ليفادا” في أكتوبر 2021، بعد وقت قصير من تمديد العمل بهذا القانون، أيَّدَ 36 في المئة من المستطلعين زعم الحكومة بأنها تسعى إلى حصر “التأثير السلبي للغرب على بلادنا”. لكن/ مع حلول سبتمبر (أيلول) 2022، بعد مرور ثمانية أشهر على “العملية الخاصة”، فإن 57 في المئة من المستطلعين وافقوا على فكرة مفادها بأن للحكومة أسباباً وجيهة في اعتبار أفراد روس مرموقين عملاء للأجانب. وباختصار، من المستطاع القول إن الأيديولوجيا قد تنجح، شرط أن تختصر إلى نقاط بسيطة يجري حشوها في عقول الناس. في المقابل، كشف التمرد الذي لم يبدُ أحد خلاله ملتفاً حول بوتين، مدى تضارب مشاعر الناس والجمهور العام في الموقف من النظام. يمكن لبوتين المراهنة على لا مبالاة الشعب التي سمحت له بأخذ البلاد في مغامرة عسكرية كارثية، واستدامة تلك المغامرة، وسمحت له أيضاً، على نحو سريع، بإنهاء تمرد فاشل. لكن هذه اللامبالاة ذاتها قد تغدو قاتلة إذا تعرض النظام فعلاً للتهديد. لطالما اعتاد الروس على أن يكونوا مراقبين سلبيين للحوادث، لكنهم غير مستعدين للدفاع عن رئيسهم. وعلى نحو مماثل، يوجّه روس كثيرون إدانات إلى أولئك الذين غادروا البلاد بغية تلافي التجنيد، لكنهم أيضاً يخشون الاستدعاء للخدمة العسكرية. وكذلك يعتبرون الأوهام العتيقة عن الغرب الشيطاني والمكانة الخاصة لروسيا التي تطرحها الدولة عليهم، متناقضة مع أساليب عيشهم الحديثة والمدينية المتأثرة بالغرب. وعلى رغم تمجيد نظام بوتين للتسلح والنزوع الإمبراطوري، يبقى الرفاه المالي بالنسبة إلى أكثرية الروس أشد أهمية من تلك الشعارات. وقبل عام 2022، وجد باحثون اجتماعيون أن أكثرية واضحة من الروس يرون أن عظمة البلاد تكمن في نجاحها الاقتصادي وليس في جبروتها العسكري. وإلى درجة معينة، استطاعت الحكومة تجسير تلك الفجوة الأيديولوجية بين الدولة والشعب من طريق تأمينها مداخيل أفضل للذين يخدمون في الجيش. وتنتشر في موسكو اليوم الملصقات التي تحمل رسالة مفادها إن القتال في أوكرانيا هو “العمل الحقيقي” “للرجال الحقيقيين” وليس قيادة سيارة أجرة أو العمل في الحراسة الأمنية، مثلاً. وضمن هذا الإطار، تعتبر التعويضات المالية التي تتقاضاها عائلات الجنود الذين يقتلون في المعارك أو يتعرضون لإعاقات دائمة، محفزاً آخر. وفي يونيو 2023، تباهى بوتين بنمو المداخيل الحقيقية في روسيا، بيد أن القطاع الخاص يشهد حالة ضمور. ويرجع ذلك إلى أن ارتفاع المداخيل لم يصدر من ذلك القطاع، بل جاء من التحويلات الكبيرة التي لم يسبق لها مثيل من خزائن الدولة، سواء كان ذلك عبر التعويضات الاجتماعية، أو عبر زيادة الرواتب خصوصاً للقوى الأمنية، وعناصر الخدمة العسكرية، وأفراد المرتزقة. إذاً، يأتي هذا النموّ من التدمير والموت، لا من الابتكار أو الإنتاجية.
تتمثل إحدى الإشارات التي تظهر لنا مقدار المسافة التي قطعتها روسيا في الانحدار نحو التوتاليتارية، بفرض الفكرة الرسمية حول مجريات الحوادث. وفي مرحلة سابقة من حقبة بوتين، تمتع المجتمع الروسي بتنوع كبير في النقاشات والتيارات السياسية. وتمتع الفكر الليبرالي في توجهاته المختلفة، التي تبناها عديد من السياسيين الروس، بتأثير وحضور لافتين؛ كذلك أمكن متابعة النقاشات السياسية وسماع وجهات النظر البديلة. لكن ما لبثت تلك الليبرالية أن غدت العدو الأساسي لبوتين. ويقبع مؤيدوها المعروفون في السجون اليوم، أو أنهم طردوا من البلاد، إضافة إلى تدمير قنواتها الإعلامية وأدوات بثها المعلومات. ولم تعد مساءلة سياسات الحكومة الآن محظورة وحسب، بل تعتبر فعلاً معادياً للدولة.
في نهاية مراحل توتاليتارية سابقة، اعتادت روسيا أن تقلب مسارها. في هذا الإطار، يمكن ذكر “الإصلاحات الكبرى” التي أطلقها ألكسندر الثاني عام 1861، وعملية تفكيك الستالينية التي أطلقها خروتشوف عام 1956، وبيريسترويكا غورباتشوف عام 1985، وإصلاحات يلتسين عام 1992. لكن من المستبعد أن يعني وقف العمليات الروسية في أوكرانيا نهايةً للبوتينية كظاهرة سياسية وأيديولوجية. وسيجد بوتين الكلمات المناسبة لتقديم الهزيمة على أنها انتصار. وفي الأحوال كلها، بالنسبة إلى المواطنين الروس، ستبقى “الفكرة الروسية” المطرقة التي بوسع الدولة إبقاءها فوق رؤوسهم. في مناخات الدكتاتورية الشخصانية لن يتحرك البندول نحو الاتجاه الآخر إلا حين يتنحى الديكتاتور أو يغادر المشهد. وتملك البوتينية فرصة للاستمرار بعد بوتين، إلا أن التاريخ الروسي، بما فيه تاريخ الستالينية، يشير إلى أنه ما إن يختفي الحاكم المطلق، حتى تبدأ حقبة جديدة من الليبرالية في الظهور. وبعد ستالين، حظي الناس بفرصة للتفكير والتنفس، على رغم بقاء النظام شيوعياً. وعلى نحو مماثل، ستعني نهاية البوتينية حتماً بداية عملية تفكيك للبوتينية، بيد أن البنية العميقة للدولة ستنجو لبعض الوقت على الأرجح. وبالطبع، قد يأتي التغيير من داخل النظام نفسه. وتاريخياً، على الأقل، جاء كل انتقال سياسي في روسيا من القمة. من الممكن أن تنبثق مجموعة جديدة من الإصلاحيين من أوساط المعتدلين ضمن النخبة الراهنة، أي أنهم سيكونون ليبراليين ممن ما زالوا يخدمون في الحكومة أو يعملون في مؤسسات الخدمة المدنية. وسيكون على هذه المجموعة أن تقرر مدى رغبتها في تغيير البلاد على نحو جذري. وإذا انطلقوا في مسار جديد من التحديث والانفتاح على الغرب، فإن الأمر قد يستدعي نزاعاً بين أوساط البوتينيين السابقين وبين النخبة المقابلة العائدة من الخارج أو الخارجة من السجون. كذلك تبقى إمكانية ظهور مسار برغماتي أو تصالحي بعد ذلك، كنتيجة من حصول تسوية بين النخبة (البوتينية) وبين النخبة المقابلة (العائدين من المنفى والخارجين من السجون). وهذا الأمر لا يمكن استبعاده، حتى إن بدا تخيله الآن صعباً. بالتالي، قبل ولادة صيغة جديدة أكثر إيجابية وأقل مسيحانية للدولة الروسية، يتوجّب على “الفكرة الروسية” أن تموت.