تتعرّض غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 لحرب إسرائيلية إبادية، هي الأشرس في العالم في التاريخ المعاصر، لجهة الكثافة النيرانية ووتيرة القصف والتدمير الممنهج والقتل والتهجير والاعتقال ونزع الأنسنة عن الضحايا واستهداف البنى التحتية والمستشفيات وقطع المياه والكهرباء وحرق الأراضي الزراعية والمواشي في رقعة جغرافية محدودة المساحة (363 كيلومتراً مربعاً) محاصرة منذ العام 2007، عالية الكثافة السكانية ومعدومة الموارد الاقتصادية الذاتية الكافية لإعالة أهلها. وتتعرّض الضفة الغربية والقدس الشرقية في الوقت نفسه لحملات قمع وعمليات اغتيال وسطو على الأراضي تقوم بها عصابات من المستوطنين يساندهم الجيش الإسرائيلي. ويجري كلّ هذا في ظلّ تواطؤ رسمي أمريكي وأوروبي ودعوات أممية وعربية عاجزة إلى وقف إطلاق النار.
وتدور بموازاة ذلك مواجهات بين سياسيين وأكاديميين وصحافيّين وحقوقيين في أكثر من بلد وداخل أكثر من مؤسسة، يحاول فيها المعنيّون إثارة قضايا أو استخدام مصطلحات لتوصيف ما يجري والتموضع الصريح تجاهه، في حين ينحو كثر نحو الانصياع لرقابة مُحابية لإسرائيل أو الصمت وادّعاء الحياد تجاه مقتلة مستمرة لأسباب ترتبط غالباً بحسابات مهنية أو بجهل أو تعصّب وعنصرية.
وإذا كان ما سبق ذكره يخصّ البلدان والمؤسسات الغربية والاصطفافات والسياقات فيها بشكل أساسي، إلا أن العديد من جوانبه يخصّ المواقف تجاه العالم العربي أيضاً، لا سيّما مشرقه، ويضع أحياناً المسألة الفلسطينية في مقارنة مع المسألة السورية على نحو يُفضي إلى اختباء البعض خلف الواحدة لتبرير التمنّع عن الانخراط في المواجهات المرتبطة بالأُخرى من ناحية، وإلى تنافس مظلوميّات، يُشارك فيه فلسطينيون وسوريون، من ناحية ثانية.
ويُفيد التوقّف هنا عند أربعٍ من القضايا المرتبطة بما ورد والنظر إلى ما تشي به سياسياً وثقافياً وأخلاقياً.
القضية الأولى تتعلّق بازدواجية المعايير. وهي ظهرت بدايةً خلال سنوات الثورة والحرب السورية لجهة اختفاء أصوات كثر من الناشطين والمثقفين والسياسيين العرب والغربيين وإيثارهم السكوت تجاه همجية النظام الأسدي وجرائمه وحلفائه الروس والإيرانيين بحق السوريين وفلسطينيّي سوريا، في وقت كانت أصواتهم تصدح سابقاً لاستنكار الجرائم الإسرائيلية في فلسطين والأمريكية في العراق. وها هي تعود اليوم معكوسة، إذ يختفي كثر ممّن ناصروا الشعب السوري في كفاحه المرير على مدى سنوات واتّخذوا المواقف سجالاً وتوثيقاً ضدّ جزّاريه، فيسكتون تماماً في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية ومجازرها اليومية بحقّ الفلسطينيين في غزة.
القضية الثانية، عطفاً على سابقتها، ترتبط بتنافس مظلوميّات بين فلسطينيين وسوريّين يتلطّى خلفه الصامتون (الغربيون) ويتذرّعون كلّ من موقعه به لإخفاء ازدواجية معاييره أو تهافت مواقفه. الأمر بدأ مع اندلاع الثورة السورية (والثورات العربية) العام 2011 التي أثارت خشيةً لدى فلسطينيين من تراجع الاهتمام الإعلامي والسياسي بقضيّتهم لصالح قضايا أُخرى، فلجأ بعضهم إلى التقليل من شأن الأهوال في سوريا مقارنة بما تعرّضوا ويتعرّضون له في الأراضي المحتلة. ونقف على الأمر إياه اليوم لدى سوريّين (ولَو أنهم قلّة) يُذكّرون بما أصابهم في حمص وحلب والغوطة ودرعا وإدلب أو داخل السجون الأسدية لِيعقدوا المقارنات بين قلّة التعاطف الشعبي العالمي مع مأساتهم وسِعتِه مع مأساة غزة.
وقد استفاد من الأمر في الحالتين من لا موقف له تتماسك معاييره السياسية والأخلاقية: فاختبأ خلف فلسطين ومواقف بعض الفلسطينيين عددٌ ممّن أيّدوا النظام الأسدي أو صمتوا عن جرائمه، ويختبئ حالياً خلف سوريا وندرة التضامن مع قضية شعبها على مدى عقد كامل بعض من لا يجرؤون على المجاهرة بمعارضة الفظائع الإسرائيلية وحرب الإبادة المتواصلة في غزة.
القضية الثالثة تتّصل بتحجّج قسم من «المحلّلين» والكتّاب بالقوى السياسية وثقافتها في الحالتين الفلسطينية والسورية لاتخاذ الموقف من كفاح الشعبين الفلسطيني والسوري. هنا أيضاً يبرز الرياء السياسي على نحو سافر ونافر. فبعض من أخذ على السوريين في السنوات الأخيرة إسلاموية القوى المقاتلة ضد الأسد ليرفض تأييد ثورتهم لا مانع لديه اليوم من الدفاع عن حماس. وبعض من يُعيب على حماس ثقافتها وحساباتها وتحالفاتها الخارجية ليتمنّع عن اتخاذ موقف لا لُبس فيه تجاه البربرية الإسرائيلية لم يكن يُقيم الحساب إياه تجاه الوضع السوري، لا بل كان أحياناً يهجو من يُقيمه من خصومه.
القضية الرابعة تتعلّق بموقف وعظي يدّعي حكمة وجرأة في نقد ما يبدو سائداً في الأوساط «المسلمة» أو ما يُعدّ «عاطفياً» في التعامل مع شؤون «الشرق الأوسط». وهو لا يظهر فقط عند كتّاب وإعلاميين وسياسيّين غربيّين فوقيّين في لغتهم رغم تواضع مستواهم التعليمي والثقافي وضحالة معرفتهم بشؤون سوريا وفلسطين والمنطقة، بل صار أيضاً منحىً يتّخذه عربٌ اكتشفوا مؤخّراً جوانب من الحياة في الغرب، فباتوا يبتذلون مواقف تدّعي العقلنة وبرودة التحليل ويتمسّحون بـ»معلّقين» غربيّين يظنّونهم مراجع فكرية.
والحال أن انفلات «العواطف» وانعدام الحسّ الحقوقي وتحويل القانون الدولي إلى وجهة نظر يتداول بها جهّال هي منذ أكثر من شهرين واقع معظم وسائل الإعلام الغربي المرئي الخاص وبرامجها «الحوارية» (وكانت عليه أيضاً خلال سنوات الحرب السورية الأكثر ضراوة). ويمكن لولا فداحة المواضيع المطروحة أن يتسلّى واحدنا بتِعداد كمّ البلاهات والمغالطات التي تُرتكب فيها عن قلّة دراية أو عن انفعالات (عنصرية) أو عن عمد تزويرٍ ليقف على مدى الانحطاط الذي بلغته، والذي يتخطّى مسألة ازدواجية المعايير أو الانحيازات السياسية ليلامس قضايا جوهرية في الأحوال الغربية اليوم، حيث اليمين المتطرّف والمزايدات والخطابات الشعبوية ورقاعة معظم النخب السياسية باتت تهدّد عدداً من مكتسبات الدول والمجتمعات التي تراكمت على مدى العقود التالية للحرب العالمية الثانية.
لحسن الحظّ أن الخطاب الحقوقي وهيئاته المختصة والمستقلة ما زالت حاضرة، وأن صحفاً عريقة في عواصم الغرب وحواضره الكبرى، ومثلها مؤسسات أكاديمية ومجتمعية وسياسية وطبّية مرموقة ما زالت تعيد الاعتبار لثقافةٍ ولقيَم إنسانية كونية، وتدافع عمّا هو الأكثر إشراقاً وتنويراً في ما قدّمته الثقافة الغربية للعالم.
في أي حال، ليس في ازدواجية المعايير أو في الانحيازات لأسباب مختلفة قديمة أو مستجدّة ما يفاجئ. المفاجئ بالفعل هو الهوان الذي يتعامل به مثقفون بانوا لفترات ملمّين بوقائع ومتمسّكين بمواقف تستند إلى القانون الدولي وحقوق الإنسان والعدالة ورفض حصانة المنتهكين من سوريا إلى أوكرانيا، فإذا بهم إذ مسّ الأمر مجرمي الحرب الإسرائيليين، يتراجعون ويعلكون مقولات ضعيفة الحجّة السياسية والقانونية والأخلاقية، ممّا يُسقط مصداقيّتهم في مواقف سابقة، بمعزل عن صوابها وصواب ما دافعت عنه.
يبقى أن الفلسطينيين، كما السوريّين، مستمرّون في البحث عن سبل النجاة والحياة وسط الموت والمظالم المسلّطة عليهم، وهذا في ذاته أهمّ مقاومة لأعدائهم مهما تكاثروا ومهما تواطأ السفهاء معهم، هنا أو هناك.