الخصخصة الانتقائية في تونس

الخصخصة الانتقائية في تونس

تعلم تونس في سياستها الرسمية أنها تدعم القطاع الخاص وتوفر له المناخ الملائم للعمل. لكن من جهة ثانية تعود إلى سياسة التأميم القديمة التي تريد من الدولة أن تضع يدها على القطاعات الحيوية المنتجة.

لا أحد يعارض أن تتولى الدولة دورا مهما في النهوض بأوضاع الناس وخدمتهم وتحسين شروط عيشهم، أو أن توفر مجالات تمويل فعالة لتأمين عائدات جديدة وثابتة لخزينتها.

المشكلة أن الزيادة في حجم وصلاحيات القطاع العام لا تؤدي إلى النتائج التي تستهدفها الشعارات السياسية الرسمية. وتجارب التونسيين مع هذا القطاع تظهر أن الأمل فيه محدود وضعيف.

يعتقد الرئيس قيس سعيد في وجود مؤامرة على الدولة تم خلالها تجريدها من أسلحتها الاقتصادية وشركاتها التي تدر الذهب والتفويت فيها لصالح رجال الأعمال. هذا أمر وارد، وقد راجت حكايات عن إفلاس شركات حكومية والتفويت فيها بأثمان بخسة لرجال أعمال مقربين من السلطة.

لكن وجود هذه القصص لا يمكن أن يغطي على حقيقة أن أغلب المؤسسات التي تمتلكها الدولة يسيطر عليها الفساد والمحسوبية وتعاني من ديون كثيرة، وأن الدولة تضخ سنويا الملايين من الدينارات للتغطية على هذا العجز، في حين أنه كان من باب أولى أن يتم ضخ تلك الأموال لتحسين أوضاع الخدمات في مجالات النقل والصحة والتعليم ودعم الفئات الضعيفة والمهمشة.

◙ الرئيس قيس سعيد يعتقد في وجود مؤامرة على الدولة تم خلالها تجريدها من أسلحتها الاقتصادية وشركاتها التي تدر الذهب والتفويت فيها لصالح رجال الأعمال

وهذه الشركات نفسها إذا انتقلت ملكيتها إلى الخواص تصبح أكثر توازنا ومردودية اقتصادية ومالية. والتفسير لا يتعلق فقط بنظرية المؤامرة والحديث عن إفلاس متعمدة لتمليك الخواص شركات ناجحةً.

الحقيقة التي يراها الناس ويلمسونها تقول إن القطاع الخاص أكثر تنظيما وجدوى وأقل فسادا وتبديدا للأموال على عكس القطاع العام الذي يتأسس على فكرة “رزق البيليك”، وتعني اللفظة التونسية ذائعة الاستعمال أن أملاك الدولة بلا رقيب ومتروكة للفساد والتبديد والهدر، وهي تعكس ثقافة عامة تنظر إلى الدولة على أنها مطية للربح غير المشروع.

تراجع التحمّس للقطاع العام ولشعارات التأميم، ليس فقط بسبب نظرية المؤامرة، ولكن بالنظر إلى النتائج التي انتهى إليها تنفيذ هذا الخيار سواء في تونس أو في دول قريبة مثل مصر والجزائر وليبيا.

لقد أثبتت تجربة التعاضد في ستينات القرن الماضي فشل الرهان على منظومة العمل الجماعي بصيغتها الاشتراكية الأولى. ليس مهما البحث في أسباب الفشل ومن يتحمل مسؤولية ذلك، النظرية أم المطبقون، الفكرة أم الفاعلون على الأرض المتحمسون للأيديولوجيا الاشتراكية.

الإيحاء بأن الدولة ماسكة بالحلول الاقتصادية، وأنها الأفضل والأقدر على حماية الشركات والمؤسسات الاقتصادية، توجه ثبت فشله في أعرق التجارب الاشتراكية. وفي دول الجوار التي تجمع المليارات من عائدات النفط والغاز مثل الجزائر وليبيا ظهر بالكاشف أن فكرة التأميم واحتكار الدولة للفعل الاقتصادي لا تمثل رافعة للاقتصاد والإنتاج، وأن الدولة تحولت إلى منفق على شعب متكاسل لا ينتج شيئا، ويأكل من وراء البحار.

يقول الرئيس سعيد إن”الدولة يجب أن تكون هي المحتكر إذا ما استوجب أن يحتكر أحد قطاعا بعينه”، وذلك خلال زيارته الأخيرة إلى مصنع الفولاذ في ولاية (محافظة) بنزرت (شمال تونس).

ومبرر هذا التوجه أن قيس سعيد يعتقد أن الدولة تم التلاعب بها وإفلاس شركاتها المنتجة وذات المردودية مقدمة لتسليمها للقطاع الخاص.

لكنّ السؤالين اللذين يفرضان نفسيهما هنا هما: ما الذي تقدر الدولة الغارقة في أزمتها المالية على تقديمه لإعادة تشغيل بعض الشركات التي أفلست وفقدت أسواقها في الداخل والخارج وتحولت إلى عبء مالي كبير، خصوصا بعد أن تم إغراقها بالموظفين والعمالة خلال السنوات الماضية؟ وهل المسألة مسألة مكابرة، أم أن الدولة يجب أن تضع يدها على القطاعات الحيوية وتترك التفاصيل الصغيرة للقطاع الخاص؟

الخصخصة الانتقائية لن تحل مشكلة دخول الدولة في قطاعات ليس من المنطقي أن تدخل فيها، أو أن تستمر في وضع اليد عليها رغم الخسارة؛ لنأخذ قطاع النقل مثالا، وسنلاحظ أن الناس يميلون إلى النقل الخاص رغم تواضع خدماته وغلاء أسعاره قياسا بالنقل العمومي.

والسبب ليس فقط لأن الأسطول تهالك وأن الفاسدين يريدون إفلاس القطاع الحيوي لوضع اليد عليه. هناك حقيقة أخرى تتمثل في أن القطاع الحكومي لا يعمل على تطوير الأسطول الذي يعرف نقصا كبيرا وتراجعا في الخدمات، وليست هناك رقابة على آليات العمل، والناس يهربون منه لغياب الالتزام بالوقت ولسيطرة النقابات التي توقف الأسطول أو جزءا منه لأي سبب، وتكتفي الدولة بالصمت.

ليست مهمة الدولة إعادة إنتاج الأزمة بتضخيم القطاع العام وتحويله إلى إسفنج يبتلع عائدات الضرائب سنويا وضخ الأموال لزيادة رواتب ومزايا لنقابات لا تتوقف عن المطلبية مستفيدة من تراجع هيبة الدولة. مهمة الدولة تقدير المصلحة الوطنية اقتصاديا وإعطاء دور فعال للقطاع الخاص، وهو قطاع منتج وذو مردودية فعلية على الاقتصاد بخلاف القطاع العام الذي تحولت شركاته الأصلية والمصادرة إلى عبء على الدولة.

◙ الحقيقة التي يراها الناس ويلمسونها تقول إن القطاع الخاص أكثر تنظيما وجدوى وأقل فسادا وتبديدا للأموال على عكس القطاع العام الذي يتأسس على فكرة “رزق البيليك”

الحفاظ على أملاك الدولة شيء مهم، فذاك عنصر قوتها وأحد أسباب اعتمادها على الذات. لكن هذا إذا كانت المؤسسة الحكومية في وضع سليم وقادرة على تحقيق مكاسب للدولة وللموظفين الذين يعملون فيها. إلّا أن الكثير من الشركات الحكومية تعيش الآن وضعا ماليا صعبا.

وبقطع النظر عن الذين يقفون وراء إفلاسها، فإن النتيجة أن الدولة ستجد نفسها مجبرة على إحياء جسد ميت، وضخ الأموال كأجور للموظفين ودفع معاليم التأمين وخلاص الديون، وهي بالملايين في الغالب، فقط حتى لا تترك بعض المؤسسات مغلقة، أو تسمح ببيعها للقطاع الخاص.

من حق الدولة أن تدافع عن شركاتها، وأن ترفض مسار الخصخصة إذا كان هذا توجها رسميا. لكن بالمنطق ما الذي يدفعها إلى أن تنفق الملايين من الدينارات على شركات لا توجد إلا بالاسم؟

إذا كان لديها مال وتريد أن تفتح شركة أو مؤسسة لتشغيل موظفين جدد، فيمكنها ذلك، على أن تبدأ من الصفر، وتفرض ضوابطها على الإدارة والموظفين وتفرض شعاراتها، خاصة ما تعلق بنظافة اليد ومنع المحسوبية في التوظيف.

في المقابل، فإن إحياء شركة ميتة سيكون بمثابة هدية للذين عملوا فيها وخربوها بالكسل والتواكل وشغّلوا فيها أبناءهم وأقاربهم ومعارفهم كما يحصل عادة في المؤسسات الحكومية، حيث يتم التوظيف بالواسطة والمحسوبية، واستجابة لهاتف من فلان أو رد جميل علان كان قد وظف أحد معارف من سيرد له الجميل بإغراق المؤسسة الخربانة بالموظفين.

كلما استعجلت الدولة التونسية ملفات التفويت أزالت عن نفسها عبئا ماليا وإداريا كبيرا، خاصة أنها تعيش أزمة مالية حقيقية، ولا تمتلك ترف الإنفاق على مؤسسات من الصعب إحياؤها بعد أن فقدت اسمها وسطا المنافسون على سوقها.

العرب