استقبل العراقيون العام الجديد بتساؤلات كبيرة حول مصير بلادهم التي ما زالت تشهد إرباكاً مستمراً على الصعيدين الأمني والسياسي، مع عودة حلفاء طهران إلى التصعيد ضد الوجود الأميركي في البلاد، وتصاعد وتيرة دعوات إلى إنهاء دور التحالف الدولي في العراق وانسحاب القوات الأميركية بالكامل من البلد.
ورغم إعلان الجماعات الموالية لإيران، سواء السياسية أو المسلحة، إصرارها على حسم ملف إخراج القوات الأميركية من البلاد، فإن هذا الأمر يواجه عقبات سياسية وأمنية واقتصادية تعقد إمكانية حسمه.
ويبدو أنه لا بوادر أميركية على الانسحاب رغم تصاعد حدة الهجمات التي تشنها الميليشيات الموالية لإيران، خصوصاً بعد التهديدات الواسعة التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للميليشيات.
كردستان… مساحة توتر جديدة
ولم تتوقف حدود التوتر عند مساحة استهداف الوجود الأميركي في البلاد، حيث عاد التوتر مرة أخرى ليخيم على العلاقة بين إقليم كردستان وبغداد، إثر استهداف مقرات تابعة لقوات “البيشمركة” الكردية بطائرات مسيرة. وقال المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان، بيشوا هورماني، في بيان إن “الحكومة الاتحادية (في بغداد) تتحمل مسؤولية هذه الهجمات، لأن هذه الجماعات الخارجة عن القانون يتم تمويلها من قبل الحكومة الاتحادية، وتتحرك بعلمها وتنقل الأسلحة والصواريخ والطائرات المسيرة وتنفذ هجمات إرهابية على مؤسسات رسمية وعسكرية”.
ودفعت تلك تصريحات، المتحدث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي، إلى الرد في بيان وصف فيه تلك الاتهامات بـ”غير الواقعية”، معتبراً أنها “أكاذيب وتسهم في تعقيد المشهد السياسي والحكومي”.
في السياق ذاته، رأى رئيس المركز “العراقي- الأسترالي” أحمد الياسري أن القصف الأخير الذي استهدف محافظة أربيل يمثّل “تطوراً خطيراً”، مبيناً أنه “يكسر حالة التوازن بين المكونات العراقية”. وأضاف أنه “إذا لم تُضبط حالة التوازن، فذلك قد يعني أن واشنطن ستتدخل بشكل مباشر، خصوصاً وأن ضبط التوازن مع القوى الكردية والسنية في العراق، الذي لا تبدو بوادره محققة، يضمن حالة عدم انفلات الأوضاع وربما عودة نشاط تنظيم داعش”. ولفت إلى أن “استمرار الفصائل المسلحة الموالية لإيران في تهديد التوازن ستدفع واشنطن إلى اتخاذ اجراءات سياسية حازمة إزاء حكومة (محمد شياع) السوداني”.
“الإطار التنسيقي” يصعّد
ولطالما طالب تحالف “الفتح”، التكتل البرلماني المشكّل للحكومة، الذي يضم كتل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بخروج القوات الأميركية من البلاد، إذ أيّد عدد من قادة الكتلة العمليات العسكرية التي تستهدف الوجود الأميركي في البلاد.
وكان رئيس تحالف “نبني” هادي العامري، طالب في أكثر من مرة بتحديد جدول زمني لخروج القوات الأميركية من البلاد، لافتاً إلى أن وجود تلك القوات “يشكل عامل دمار لبلدنا، وقتل لأبنائنا”.
وكان القيادي في التحالف ذاته، علي حسين، قال في وقت سابق، إن “الطرق الدبلوماسية لإخراج القوات الأميركية من الأراضي العراقية، خطوات غير مجدية”، مبيناً أن “الطريقة المثلى لإخراج تلك القوات تتمثل باستمرار الضربات والاستهدافات لقواعدها التي توجد في العراق بطريقة غير شرعية”.
في المقابل، أشار نائب في البرلمان العراقي عن “الإطار التنسيقي” إلى أن استهداف القوات الأميركية “لن ينتهي إلا بخروجها من العراق”. وأشار النائب وعد القدو في تصريح صحافي، إلى أن “التصعيد دخل مرحلة جديدة، وهذا ما يفسره تنامي عدد الهجمات في الأسبوع الأخير، بنسبة تزيد بـ60 في المئة عن الفترة الماضية”.
امتداد للمشروع الإيراني
ولعل ما يعزز فرضية عدم تمكن هجمات حلفاء إيران من حمل واشنطن على الانسحاب، هو تغيير قواعد الاشتباك الأميركية، التي مرت بمراحل عدة، تمثلت المرحلة الأولى منها بالرد على تلك الميليشيات في سوريا، ومن ثم الرد على منفذي الهجمات مباشرة، إلى أن وصلت إلى حدود استهداف مقرات ومراكز استراتيجية لتلك الجماعات، كما حصل خلال الأسابيع الماضية من استهداف مقرات تابعة لميليشيات “كتائب حزب الله”.
ويرى رئيس المركز “العراقي- الأسترالي”، أن ما يجري في العراق يمثّل “امتداداً لمشروع طهران القديم في إزاحة الوجود الأميركي من البلاد”، مبيناً أن “عديداً من المعرقلات السياسية والأمنية أجلت إمكانية تنفيذه في السابق”.
ورغم إظهار حلفاء طهران حماسة شديدة في الفترة الأخيرة لإخراج القوات الأميركية من البلاد، فإن هذا الأمر ربما يشهد “معارضة سياسية واسعة”، حيث يبيّن الياسري أن كتلاً سياسية عدة “تتخوف من إحكام طهران سطوتها على البلاد بشكل مطلق في حال انسحاب القوات الأميركية”.
وأشار إلى أن ما يدفع التيارات الموالية لإيران إلى محاولة إخراج القوات الأميركية في هذا التوقيت يعود إلى شعورها بـ”تحقيق مكسب تاريخي في الانتخابات المحلية الأخيرة يمكنها من التفرد بالسلطة وإسقاط آخر العقبات في طريق الهيمنة الإيرانية المطلقة”.
و”رغم إدراك التيارات الولائية لخطر إخراج القوات الأميركية بفعل عدائي، وأنه ربما يثير إشكالات اقتصادية وسياسية واسعة للعراق”، عبّر الياسري عن اعتقاده بأن هذا الأمر “لن يوقف محاولاتها في هذا السياق، خصوصاً وأن تلك التيارات تعتقد أنه بالإمكان تطبيق انسحاب أميركي كما حصل في عام 2011”.
وفي مقابل محاولات حلفاء طهران دفع القوات الأميركية إلى خارج الجغرافيا العراقية، تبدو واشنطن عازمة على تعزيز تواجدها في المنطقة، إذ لفت الياسري إلى أن “ما يدحض احتمالات الانسحاب الأميركي هو إنشاء تحالف عسكري جديد في مواجهة جماعة الحوثي في اليمن”. وختم أن “أي انسحاب للقوات الأميركية من مناطق وجودها في الشرق الأوسط سينعكس سلباً على نفوذ واشنطن في المنطقة”، مردفاً أن ما يجري بات “يتجاوز حدود الثنائية الأميركية- الإيرانية في العراق، ويدخل ضمن التدافع والتنازع بين الطرفين في المنطقة ومعادلات التوازن الإقليمي”.
ورغم إبداء الجماعات الموالية لإيران خلال الفترة الأخيرة حماسة غير مسبوقة في التعاطي مع ملف اخراج القوات الأميركية من البلاد، فإن رئيس الحكومة محمد شياع السوداني لا يزال يدين أي نشاط مسلح خارج المؤسسة العسكرية، رغم عدم اتخاذه أي إجراءات إزاء الميليشيات الموالية لإيران، الداعم الأكبر للحكومة الحالية. وإضافة إلى ذلك، يرى مراقبون أن مخاوف صانعي القرار في بغداد من إمكانية أن يؤدي الانسحاب الأميركي من البلاد إلى انهيارات اقتصادية، يجعل الحكومة متحفظة على الدفع بهذا الاتجاه.
في السياق، يعتقد الباحث الأكاديمي، حميد حبيب، أن “وجود القوات الأميركية في العراق يمثل بالنسبة إلى واشنطن مسألة استراتيجية”، مبيناً أن هذا الأمر “يعرقل بشكل قاطع إمكانية إنهاء هذا الوجود العسكري”.
وأضاف أن “التصريحات الصادرة إزاء القوات الأميركية في البلاد لا يعدو سوى كونه محاولات دعائية من قبل الجماعات الموالية لإيران”، لافتاً إلى أن “أطرافاً رئيسة داخل الحكومة والبرلمان تعارض بشدة ملف إخراج القوات الأميركية من العراق، وتحديداً القيادات السياسية السنية والكردية”.
ويمثل وجود القوات الأميركية بالنسبة للقوى السياسية المعارضة للنفوذ الإيراني “نوعاً من الضمانة والحماية متعددة الأبعاد”، بحسب حبيب الذي تابع أن “تلك القوى لا ترغب بتكرار ما حصل بعد عام 2011، إذ إن انسحاب أميركا حينها، مكّن طهران من ملء مساحات النفوذ التي كانت تشغلها واشنطن”.
إلا أن حبيب لا يرجح أن تقدم واشنطن على تعزيز وجودها في العراق، خصوصاً أن أي قوات إضافية ستمثّل “استفزازاً للأطراف الموالية لإيران، فضلاً عن عدم الحاجة لتعزيز تلك القوات في الوقت الراهن”.
ولفت إلى أن ما يعطي انطباعاً بـ”عدم جدية” حلفاء إيران بإخراج القوات الأميركية من البلاد، هو كون “السمة البارزة للعمليات في العراق هي أنها لا تزال ضمن حدود مقبولة وليست شاملة من كلا الطرفين”.
وختم أن جزءاً كبيراً مما يجري في العراق يدخل ضمن مساحة “الكسب والترويج السياسي”، إذ إن عديداً من الفصائل الكبيرة ومنذ عودة موجة استهداف القوات الأميركية، تتخذ سياسية “النأي بالنفس عن الصراع الدائر وتكتفي فقط بالتصريحات السياسية”.
تكرار السيناريو الأفغاني
في المقابل، رأى أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن “السيناريو الجديد الذي ينتهجه حلفاء إيران في العراق من خلال استخدام الخزين الهائل من الصواريخ متوسطة المدى، يجعل من مجريات الصراع في العراق غير قابلة للتوقع، خصوصاً إذا ما تصاعدت حدة الهجمات في الفترة المقبلة”. وأضاف أن واشنطن باتت تواجه “حرباً معقدة في العراق”، خصوصاً مع “حرية الحركة التي تحظى بها الميليشيات الموالية لإيران وعدم قدرة الحكومة العراقية على التدخل”.
وتابع أن الظروف التي تواجه واشنطن في العراق ربما تدفع صانعي القرار في البيت الأبيض إلى “تكرار سيناريو الانسحاب من أفغانسان”، وهو “الهدف الرئيس للميليشيات من وراء الضربات المتكررة”.
وختم أن أي احتمالات لانسحاب أميركي من البلاد ستمثّل “ضربة كبيرة لنفوذ واشنطن في المنطقة”، لافتاً إلى أن الأجدى بالنسبة لصانعي القرار في الولايات المتحدة هو “الذهاب نحو خيارات سياسية أكثر جدوى، خصوصاً أن واشنطن كانت طرفاً في تمكين حلفاء طهران من السلطة”.