أكدت الأرقام التي أوردتها وزارة المرأة والأسرة والطفولة والمسنين أن خطر البيت أكبر من الشارع على الأطفال في تونس، ما مثل صدمة للمهتمين بشؤون حماية الطفولة في البلد. ويتعرض الأطفال في تونس لمختلف أشكال العنف في مختلف الفضاءات. ويؤكد خبراء علم الاجتماع على ضرورة إدماج الطفل في محيط بديل يساعده على مواجهة الواقع بما يفضي به مستقبلا إلى تأسيس أسرة مستقرة.
تونس – لم تفلح القوانين التونسية في حماية الطفل من العنف المسلط عليه حتى لو كان من داخل أسرته ومن المكان الذي من المفترض أن يكون مصدرا للأمان والحماية له بالدرجة الأولى وهو البيت.
وصدمت إحصائيات أوردتها آمال بلحاج موسى وزيرة المرأة والأسرة والطفولة والمسنين التونسية المهتمين بشؤون حماية الطفولة بعد أن أكدت الأرقام أن الخطر على الطفل في منزله قد يكون أكثر مما هو في الشارع.
وقالت بالحاج موسى لـ”العرب” إن المنزل سجل أعلى نسبة تهديد للأطفال بنسبة تقارب الـ60 في المئة من جملة 22690 إشعارا وردا على مندوبي حماية الطفولة، يليه الشارع بنسبة 18 في المئة ليتصدر بذلك المرتبة الثانية.
وأشارت الوزيرة إلى أن هذه الإحصائيات تتعلق بنشاط مندوبي حماية الطفولة لعام 2022.
وكانت بالحاج موسى قد أفادت خلال عرضها للبيانات الإحصائية المذكورة، بأن خطر البيت أكبر من الشارع على الأطفال في تونس. وأوضحت أن الشارع يأتي في المرتبة الثانية من حيث تسجيل حالات تهديد للأطفال وذلك بنسبة 18 في المئة تليه المؤسسات التربوية بنسبة 13 في المئة، فالمؤسسات الصحيّة بنسبة 4 في المئة ثم المؤسسات الأمنية والرعائية بنسبة 1 في المئة.
ولفتت بلحاج موسى في ذات السياق إلى أن حالات عجز الأبوين أو المسؤول عن الإحاطة بالطفل مثلت 6015 من جملة الإشعارات، واستأثرت حالات التقصير البيّن والمتواصل في التربية والرعاية بـ5934 إشعارا واعتياد سوء معاملة الطفل بـ5932 إشعارا.
ويتعرض غالبية الأطفال التونسيين للعنف وللعقوبات البدنية كوسيلة مباحة للتربية في جل الأسر التونسية. وما يثير الفزع أن ما يتعرضون له من عنف يتم داخل أكثر مكان يفترض أن يوفر لهم الحماية والأمان، وهو البيت.
وقال المختص في علم النفس أحمد الأبيض “إن الآباء يمارسون العنف على أطفالهم كنوع من التفريج عن أنفسهم وذلك لما يتعرضون له هم بدورهم من عنف خارج بيوتهم كالعنف من رؤسائهم في العمل أو من الإدارات التونسية التي يتعاملون معها يوميا، أو من ضغوط الحياة بشكل عام”.
وأشار المختص في تصريح لـ “العرب” إلى أن الآباء والأمهات ضحايا أشكال مختلفة من التسلط حيث لا يجدون القدرة على الثأر فيبحثون عن ضحية أقل منهم سلطة وتكون غالبا الأبناء.
واستشهد بمثل تونسي يقول “إلّي غلبوه أندادو يضرب أولادو” (أي أن من استقوى عليه الآخر يعنف أطفاله).
وأضاف الأبيض أن شخصية التونسي شخصية مستنفرة، وفق ما وصفها دكتور علم الاجتماع محمود الذوادي، لذلك نجد التونسي يخزن في لاوعيه جملة من الانطباعات وكل أحداث العنف التي مر بها والتي تبقى راسخة في ذهنه وتنعكس على محيطه.
وأوضح أن الغاية من الدراسة إظهار أن هناك أشكالا مختلفة من العنف تهدد الطفل وأنه من غير الطبيعي أن نلجأ إليها.
الآباء والأمهات ضحايا أشكال مختلفة من التسلط، وعندما لا يجدون القدرة على الثأر يبحثون عن ضحية أقل منهم سلطة
وقال الدكتور الصحبي بن منصور، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة، “إن العنف الذي يتعرض له الطفل في زماننا الراهن هو عنف مضاعف ومكثف… فالطفل الذي كان يؤدب سابقا بالعصا في المدرسة ويؤدب من والديه بالضرب في المنزل أصبح اليوم محميا بالقانون من مختلف أشكال الضرب… لقد اعتقدنا أننا لحقنا بركب الدول المتقدمة من خلال استنساخ أكثر القوانين تقدما، لكن غفلت دولتنا أو بالأحرى مسؤولوها عن زرع ثقافة احترام الطفل وثقافة رعايته… غير أن الإمكانيات المادية قد أعوزتنا كما عدمنا عقلية تقدير الطفولة”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن لمعرفة حجم العنف المسكوت عنه داخل المنازل يجب قياسه تقريبا بحجم العنف المسلط على أحد الزوجين. لأن العنف لا يصدر إلا عن شخص عدواني عاجز عن حل مشاكله بالحوار، ويمكن كذلك قياسه بنسب الطلاق سنويا.
وتابع “العنف كما نعلم من خلال ما نسمعه من القريب والبعيد هو عنف مادي ولكنه معنوي وهذا أخطره. علاوة على أن الإنترنت قد فتحت أبواب جهنم على الجيل الجديد، فكلما فتح الطفل هاتفه قابله العنف صوتا وصورة في الأغاني والأفلام والمسلسلات وربما تعرض له بعض المتنمرين المكشوفين أو المجهولين بالتهديد”.
وأوضح بن منصور أن الطفل يسحق في أسرته كما يسحق في الشارع. والسبب في السابق هو غلبة الجهل لكنه اليوم بسبب الضغط النفسي وانقطاع حبل السند التربوي الذي كان يورثه الوالدان للأبناء… “فاليوم وجد الكثير من الشركاء للوالدين من الذين فرضتهم وسائل التواصل الاجتماعي على أسرنا وهم شركاء شر وفساد وتعاسة..”.
وأضاف “اليوم تفشى العنف الذي يتعرض له الطفل في المدارس العمومية لأن المدرس محصن ولا يمكن لأي كان فصله، وهذا ما لا نجده في المدارس الخاصة بسبب هشاشة وضعية المدرس وإمكانية فصله عن العمل إذا اشتكى الولي من أي اعتداء على ابنه”.
وأردف “نعم تفشى العنف لأنه صار غير مادي يضر نفسية الطفل ويصيب شخصيته بخدوش لا ترى… إنه العنف اللفظي”. كما أن المار من أمام المدارس صار يصاب بالدهشة نتيجة ما يراه من كثرة العراك بين التلاميذ أو من اعتداء بعض المراهقين المنحرفين على عموم بعض التلاميذ. كل هذه الوضعيات تزداد تعكرا إذا أضيفت إليها حالة العنف الذي يتعرض له الطفل من أحد والديه.
وختم كلامه بأن إصلاح هذا الوضع يتطلب تكريس إستراتيجية وطنية تعنى بالجانب الأخلاقي وهو مبحث يشمل إلى جانب علماء الدين علماء الاجتماع والنفس والفلاسفة ورجال القانون وغيرهم، بهدف التربية على الحوار وبهدف إدماج الطفل في محيط قيمي بديل يساعده على مواجهة واقعه المر بثبات وعقلانية، بما يفضي به مستقبلا إلى تأسيس أسرة مستقرة يقل في داخلها معدل العنف المادي والمعنوي.
وكانت السلطات التونسية قد أطقلت مؤخرا حملة للتوعية بمخاطر العنف ضد الأطفال تحت شعار “يكبر وما ينساش” (يكبر ولا ينسى).
وقالت بالحاج موسى، في كلمة بمناسبة إطلاق الحملة، إنها “تستهدف شريحة واسعة من مختلف فئات المجتمع في تونس وخاصة الأولياء والأطفال والمهنيين المتعاملين مع الأطفال”.
وتهدف الحملة، وفق بلاغ للوزارة، إلى “خلق وعي مجتمعي للتصدي لجميع أشكال العنف المسلط على الطفل والتحسيس والتوعية والتثقيف بالجوانب القانونية والنفسية وآثار العنف على الأطفال والمجتمع”. كما أنها، بحسب المصدر، “تفتح المجال لتشريك الأطفال وحثهم على التعبير والإشعار بجميع حالات التهديد وأنواع العنف الذي يتعرضون إليه، وذلك من خلال إطلاعهم على مفهوم العنف والتهديد وآليات التبليغ وخدمات الحماية المتوفرة”.
وارتكزت هذه الحملة على بث ومضات تلفزيونية وإذاعية تشمل أيضا شبكات التواصل الاجتماعي وتنظيم لقاءات، فضلا عن حشد أكثر من 60 شخصية من بينها أئمة وفنانون ومثقفون ومؤثرون في هذا المجال. وجاء شعار هذه الحملة معاكسا للمقولة الشعبية المعروفة “يكبر وينسى” التي يتم تداولها لتبرير تعنيف القصر. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن 88 في المئة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين سنة و14 سنة تعرضوا لعقوبات بدنية كوسيلة للتربية.
وكشف تقرير رسمي سابق عن تلقي السلطات في العام 2022 نحو 20 ألف إشعار حول وضعيات أطفال مهددين بكافة أنواع العنف.
وجاء في “التقرير الإحصائي الخاص بالإشعارات حول وضعيات الطفولة المهددة”، الذي نشرته وزارة المرأة والأسرة أن السلطات تلقت أكثر من 20 ألف إشعار في العام 2022 مقارنة بنحو 17 ألف إشعار في العام 2021.
ويتصدر العنف المعنوي قائمة التهديدات الموجهة للأطفال بنسبة 42 في المئة من إجمالي الإشعارات التي توصلت بها السلطات.
وفي تعليقه على إطلاق حملة “يكبر وما ينساش”، يقول رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل معز الشريف إن “المبادرة جيدة لكنها جاءت متأخرة خاصة أن كل الإحصائيات الوطنية والدولية أظهرت وجود عنف مسلط بشكل مهول على الأطفال”.
وكانت منظمة الطفولة العالمية “يونيسف” قد عبّرت، في 2019 ، عن فزعها واستيائها الشديد من مشاهد العنف ضد الأطفال داخل الأسر التونسية بعد تداول مواقع التواصل الاجتماعي لصور لطفل مقيد القدمين بالفناء الخلفي لمنزل عائلته وممسكا بالأرض للحفاظ على توازنه بشكل واسع في تونس. وقالت “ترتكز تربية الأطفال وتعليمهم على الحنان وليس العنف”، مضيفة أن “العنف غير مقبول بأي شكل من الأشكال، لا شيء يبرر استخدام العنف بشكل عام بما في ذلك ضد الأطفال”.
العرب