مرة أخرى، استهداف اللاجئين السوريين في مصر للنيل من أم الدنيا

مرة أخرى، استهداف اللاجئين السوريين في مصر للنيل من أم الدنيا

لم أكن أتخيل بعد أربع سنوات وأربعة أشهر ويومين أنني سأعود لأتناول موضوعا مؤلما هو موضوع اللاجئين السوريين في مصر. الحادثة التي فجرت قضية اللاجئين السوريين منذ أكثر من أربع سنوات كان مسرحها مطعم في مدينة الإسكندرية يمتلكه لاجئ سوري نشب شجار بينه وبين امرأة مصرية.

ولم ينته الأمر حينها بإغلاق المطعم، إثر حملات تحريضية، بل نالت الحملات من السوريين المقيمين في مصر، وتطورت لتصل إلى إطلاق دعوات تطالب بترحيل السوريين.

الحادث عادي، لو كان بين طرفين مصريين لما تناقله أحد، حتى صفحات الحوادث، ولكن أراد البعض توظيفه للنيل من صورة مصر.

النفخ في فكرة “عبء اللاجئين”، كما حكاية “مسمار جحا” أصبح مشجبا تستخدمه أطراف سياسية تركز على الآثار السلبية وما يترتب على استضافة اللاجئين من تكاليف مادية وتتجاهل فضائل المهاجرين واللاجئين لإثارة المخاوف والقلاقل.

◙ مصر وأنت أم الدنيا، الشوام استجاروا بك فأجيريهم. بل سأحذر من مؤامرة يراد بها الإساءة إلى أم الدنيا وشعبها الطيب المعروف بانفتاحه وتقبله للآخر

لا أحد يستطيع أن ينكر أن استضافة اللاجئين تشكل ضغوطا اقتصادية واجتماعية على البلدان المستضيفة، خاصة إذا كانت هذه الدول فقيرة وتعاني من صعوبات اقتصادية، كما هو الحال في مصر، لكن الصورة العامة أكبر ولا تشكل النواحي السلبية منها إلا جزءاً بسيطا.

لا ننكر أن اللاجئين يشكلون عبئا على الاقتصاد المصري، خاصة في زيادة الضغط على الخدمات العامة والبنية التحتية، مثل التعليم والصحة والمياه والكهرباء والنقل والإسكان، والتي تعاني في الأصل من النقص والتردي. ويتسبب اللاجئون في زيادة المنافسة على فرص العمل والموارد الطبيعية، مثل الأراضي والمياه والطاقة، مع السكان المحليين، وخاصة في القطاعات غير الرسمية والمنخفضة الدخل، وزيادة الإنفاق الحكومي على الأمن والحماية والإغاثة. وغالبا ما يحدث هذا في ظل ضعف المساعدات الدولية والمحلية وارتفاع الدين العام.

إضافة إلى الضغوطات الاقتصادية، تترتب على ظاهرة اللاجئين اضطرابات وتوترات اجتماعية وسياسية، بسبب الاختلافات الثقافية واللغوية والتاريخية والدينية والعرقية.

لكن اللاجئين من ناحية أخرى يُحضرون معهم إلى الدول المضيفة منافع اقتصادية وإمكانات للتنمية، ومن ذلك على سبيل المثال المهارات الجديدة، ورفع مستوى استهلاك الغذاء والسلع الأخرى كمواد البناء، وهو ما يعزز في نهاية الأمر من نمو اقتصاد البلد المضيف. في المقابل، قد يستفيد المجتمع المضيف من برامج المساعدات التي تضم خدمات البنى التحتية والرفاه الاجتماعي التي تقدمها الوكالات والمنظمات التي ترعى اللاجئين.

يصعب حاليا في ظل غياب إطار عام شامل يستند إلى الأدوات التحليلية المناسبة توفير قاعدة لأدلة يمكن من خلالها تقييم “الربح” و”الخاسرة” الناجمين عن تواجد اللاجئين في مصر بشكل عام، وعن اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم حاليا ويبلغ عددهم 1.5 مليون مهاجر من أصل 9 ملايين لاجئ ومهاجر بشكل خاص.

وكما في حادثة الإسكندرية التي كان مسرحها مطعما، انتشرت مؤخرا حملة تنادي بمقاطعة المنتجات التي تقدمها محلات أطعمة سورية، وصلت إلى حد المطالبة بترحيل السوريين، دون أن يكون هناك سبب مقنع يدفع إلى ذلك. التغريدات التي انتشرت على موقع إكس في مصر طالبت بمقاطعة مطاعم السوريين بحجة وجود أغذية فاسدة يقدمونها للرواد، دون ذكر حادثة محدد.

◙ اللاجئون من ناحية أخرى يُحضرون معهم إلى الدول المضيفة منافع اقتصادية وإمكانات للتنمية، ومن ذلك على سبيل المثال المهارات الجديدة، ورفع مستوى استهلاك الغذاء والسلع

ويستبعد أن تكون الحملة التي قيل إنها وجدت صدى واسعا على منصات التواصل ذات علاقة بسياسات تنتهجها الحكومة المصرية تجاه اللاجئين، خاصة في ظل المساعي المبذولة لتنظيم أوضاعهم دون حديث عن ترحيلهم، بل تحاول الاستفادة من الأجانب بشكل عام ضمن خططها لجذب الاستثمارات.

وهو ما يؤكده أيضا إدخال القاهرة تعديلات على قانون تملّك الأجانب في الأراضي الصحراوية، وهناك نوايا لمعاملة الجنسيات العربية كما يعامل المصريون في المشروعات المقامة على هذه الأراضي، وليس من مصلحتها معاداة السوريين وهم أكثر الجاليات العربية مساهمة في الاقتصاد باعتراف جهات كثيرة.

قد يكون من الصعب حاليا تقييم الخسائر والأرباح الناجمة عن تواجد اللاجئين السوريين في مصر، ولكن ما هو مؤكد من خلال ما نشر من قصص تناقلتها وسائل إعلام عربية ومحلية تتحدث عن نجاح أبناء الجالية في إقامة مشاريع ناجحة، أن كفة الربح ترجح على كفة الخسارة، خاصة في قطاع الخدمات السياحية ومن بينها المطاعم. وهو ما يدفع للشك بأن الدوافع وراء الحملة الأخيرة سببها استياء البعض من استقطاب المطاعم السورية في مصر للرواد العرب والمحليين.

قصص نجاح السوريين لا تقتصر على مصر، هناك قصص تتحدث عن نجاح مماثل في دول أوروبية، خاصة في ألمانيا. في الحقيقة يمكن الرجوع 200 عام إلى الوراء لتقفي قصص نجاح مماثلة للمهاجرين السوريين، وهي هجرات شهدتها البلاد خلال الحكم العثماني هربا من الظلم والطغيان.

كنت مررت في مقال سابق على الدور الطليعي الذي لعبه “شوام” مصر أيام الحقبة العثمانية في تحديث المجتمع المصري، فقد أنشأوا دور الصحف، وحدّثوا الطباعة والنشر، وعملوا في المهن الحرة والمصارف. وكانت مصر حينها المكان الأكثر انفتاحا في الدولة العثمانية؛ فقد ضمت قائمة طويلة من الفنانين والأدباء والإعلاميين ورجال الأعمال الشوام، ولا ضير من التذكير ببعضهم:

المخرج يوسف شاهين، والده مهاجر من زحلة. عمر الشريف (ميشيل شلهوب) سليل عائلة دمشقية. ومن يذكر العصر الذهبي، يذكر المخرج هنري بركات، وأنور وجدي، والمنتجة آسيا وماري كويني، وبديعة مصابني، التي أسست مدرسة الرقص الشرقي.

◙ لا أحد يستطيع أن ينكر أن استضافة اللاجئين تشكل ضغوطا اقتصادية واجتماعية على البلدان المستضيفة، خاصة إذا كانت هذه الدول فقيرة وتعاني من صعوبات اقتصادية

ومن بيروت جاءها، جرجي زيدان، لدراسة الطب وفي جيبه ستة جنيهات اقترضها من جاره، لينتهي في عالم التأليف والصحافة؛ أدار مجلة “المقتطف”، ثم أنشأ مطبعة باسم “الهلال”، وبالاسم نفسه أصدر جرجي مجلة “الهلال” عام 1892، وكان يقوم بتحريرها لتصبح من أوسع المجلات انتشارا؛ كتب فيها عمالقة الفكر والأدب في مصر والعالم العربي.

يجب ألاّ نمرّ دون ذكر سليم تقلا، المولود في لبنان، والذي هاجر إلى مصر وهو في السادسة والعشرين من عمره، وفيها أنشأ مطبعة في شارع البورصة المتفرع عن ميدان القناصل (المنشية حاليا) بالإسكندرية، أسس مع أخيه بشارة تقلا في 27 ديسمبر 1875، أمّ الصحف العربية وتاجها، صحيفة “الأهرام”، ليصدر أول عدد منها في الخامس من شهر أغسطس – آب عام 1876.

الصحافة والفن ودور النشر ليست المجالات الوحيدة التي برع فيها المهاجرون الشوام إلى مصر في تلك الحقبة. دعونا نتحدث عن المال؛ في قلب ميدان الخازندار بمنطقة الموسكي في القاهرة وعلى مساحة 8530 مترا وارتفاع أربعة طوابق، تقف تحفة معمارية، بناء وتصميما وديكورات، هي المركز الرئيسي لشركة الصيدناوي للتجارة والأعمال، أسسها سليم وسمعان صيدناوي.

لن أختم كما اختتمت في المقال السابق: مصر وأنت أم الدنيا، الشوام استجاروا بك فأجيريهم. بل سأحذر من مؤامرة يراد بها الإساءة إلى أم الدنيا وشعبها الطيب المعروف بانفتاحه وتقبله للآخر.

العرب