في المشهد الفلسطيني والإقليمي الذي أنتجته حرب غزة، تبدو إسرائيل قابضة على العديد من الأوراق الاستراتيجية التي تمكنها من مواصلة عملياتها العسكرية غير مكترثة بالجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، وغير عابئة بشبهات جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي تحيط بها، ومتجاهلة للمأساة متكاملة الأركان التي لحقت بأهل غزة وبالقطاع الذي لم يعد يصلح للحياة، ومروجة على لسان عديد المسؤولين الرسميين لسيناريوهات تهجير الفلسطينيين من غزة والتوسع في الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية وصولا إلى إلغاء كامل لفرص التسوية السلمية على أساس حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو / حزيران 1967.
فمن جهة أولى، تتحرك إسرائيل عملياتيا في قطاع غزة دون قيود تذكر. فهي تواصل ضرباتها الجوية في الشمال والوسط والجنوب من غير اعتبار لأرواح المدنيين الذين قتل منهم حتى لحظة كتابة هذه السطور أكثر من 22 ألفا، معظمهم من الأطفال والنساء، ومن غير اعتبار للمنشآت العامة والخاصة التي دمر ثلثاها وفقا لبيانات المنظمات الأممية، ومن غير اعتبار للخراب البيئي الذي أحدثته عشرات الآلاف من القنابل الإسرائيلية التي ألقيت على القطاع وللسموم التي خلفتها والأنقاض التي صارت تشغل الرقعة الأوسع من أرض غزة. تواصل إسرائيل أيضا عملياتها البرية التي أسفرت بالفعل عن اقتطاع أجزاء من القطاع واعتبارها مناطق عازلة يعتزم جيش الاحتلال السيطرة عليها وتوظيفها عسكريا، وعن فصل الشمال والوسط عن الجنوب الذي صارت أغلبية أهل غزة تتكدس به، وعن فرض حصار إجرامي على أكثر من مليونين من الأطفال والنساء والرجال الذين صارت كوارث نقص المياه والجوع وغياب العلاج تفتك بهم.
من جهة ثانية، تتحايل إسرائيل وبأساليب متنوعة على الضغوط الإقليمية والدولية الرامية إما لإنهاء الحرب أو لحماية المدنيين من الدماء والدمار والخراب أو لمنع خطط تل أبيب الأحادية بشأن غزة وبقية الأراضي المحتلة.
إقليميا، تضغط كل من مصر والأردن وقطر لإنهاء الحرب إن من خلال وقف فوري لإطلاق النار أو هدنة مؤقتة تتضمن صفقة تبادلية للرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين تتطور إلى هدنة طويلة المدى. تضغط القاهرة وعمان والدوحة أيضا لحماية المدنيين الفلسطينيين بالمطالبة بآلية دولية فورية وملزمة لإدخال المساعدات الإنسانية الشاملة إلى غزة وبإبعاد العمليات العسكرية والضربات الجوية الإسرائيلية عن مراكز إيواء المدنيين المتكدسين اليوم في مدينتي خان يونس ورفح الجنوبيتين. وإذا كان لمصر، وبجانب حرصها على أرواح المدنيين وإيقاف نزيف الدم الفلسطيني وحماية ما تبقى من منشآت عامة وخاصة في غزة، مصلحة وطنية حيوية في تحسين الأوضاع الإنسانية في القطاع للحيلولة دون تحول سيناريوهات التهجير القسري الكارثية إلى واقع يهدد سيناء ولأمن القومي المصري ويهدد بتصفية القضية الفلسطينية بإبعاد أهل غزة عن أرضهم؛ فإن الأردن يتحرك في ذات الاتجاه أيضا مدركا أن عدم التعامل الفوري مع أخطار جريمة التهجير القسري في غزة يهدد بامتدادها إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية ومن المنطقتين يرغب اليمين الإسرائيلي، خاصة قواه المتطرفة والدينية، في تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي الأردنية. من هنا تأتي مستويات التنسيق السياسي والدبلوماسي والأمني المرتفعة بين البلدين وتمسكهما بموقف علني موحد يقضي بعدم قبول لاجئ فلسطيني واحد لا من غزة ولا من الضفة والقدس، وربطهما بين ذلك وبين مقتضيات الأمن القومي من جهة ومقتضيات حماية القضية الفلسطينية من التصفية التامة التي يبتغيها اليمين الإسرائيلي بأطيافه المتنوعة من جهة أخرى. أما قطر، فتوظف أوراقها السياسية والدبلوماسية للتوسط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بحثا عن صفقة تبادلية جديدة للرهائن والأسرى ترتب هدنة مؤقتة وتسريع لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة وفتح لأبواب تفاوضية تحول دون استمرار الحرب.
الولايات المتحدة ومعها الحكومات الأوروبية لا تمارس ضغوطا حقيقية على إسرائيل لإنهاء الحرب وإيقاف العدوان المسبب للمأساة الإنسانية في غزة والانفتاح على وساطة ومفاوضات وتسوية سياسية
غير أن إسرائيل، ممثلة في حكومة حربها، تتحايل على الضغوط والمطالب الإقليمية تارة بإعلان استعدادها لإدخال المساعدات الإنسانية عبر معابر أخرى مع غزة غير معبر رفح المصري وتارة بالإفصاح عن قبولها للجهود المصرية والقطرية للوساطة ثم الانقلاب على الأمرين إن بتعويق وصول المساعدات إلى جل مناطق القطاع أو بإفشال جهود الوساطة بمواصلة العمليات العسكرية واغتيالات قادة حركة حماس. بل أن حكومة الحرب الإسرائيلية صعدت خلال الأيام الماضية من سياستها التصادمية مع مصر بحديث عن ضرورة سيطرتها على ممر فيلادلفيا في المنطقة الحدودية في مخالفة صريحة لاشتراطات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979 ولاتفاق فيلادلفيا 2005، وكذلك مع الأردن بالتورط في حماية المستوطنين المسلحين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتمكينهم من ارتكاب جرائم عنف يومية ضد الفلسطينيين وكذلك بعمليات عسكرية شبه يومية ضد مخيمات اللاجئين في الضفة والتي سقط جراءها عشرات الضحايا من المدنيين.
أما دوليا، ومع التسليم بكون الولايات المتحدة الأمريكية كالحليف والداعم الأكبر لإسرائيل لم تغير موقفها المؤيد للحرب في غزة ولم تغادر مساحة الاكتفاء بالمطالبة بترشيد العمليات العسكرية الإسرائيلية لحماية المدنيين والحيلولة دون التمدد الإقليمي للحرب، فإن تل أبيب تتعامل مع الضغوط الغربية المحدودة بأساليب احتواء متعددة.
من جهة، تتحدث حكومة الحرب عن مراحل متعاقبة في حربها وتعد بتراجع أعداد الضحايا من المدنيين كلما نجحت قواتها في تفكيك البنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية. تزعم إسرائيل أن هذا هو ما حققته في شمال غزة وتحققه راهنا في الوسط وأن تراجع أعداد الضحايا المدنيين مرتبط بذلك. غير أن الواقع يدلل على أن السبب الوحيد لتراجع أعداد الضحايا المدنيين في الشمال والوسط هو نزوح الأغلبية إلى الجنوب على وقع الدماء والدمار الناجمين عن العمليات العسكرية والجرائم البشعة للقوات الإسرائيلية، أي أن السبب الوحيد لتراجع أعداد الضحايا المدنيين هو حدوث جريمة التهجير القسري داخل القطاع من شماله ووسطه إلى جنوبه.
من جهة ثانية، تسجل الحكومة الإسرائيلية على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعلى ألسنة وزراء اليمين المتطرف والديني (بن غفير وسموتيرتيش) الرفض الصريح للأفكار الأمريكية والأوروبية بشأن مستقبل قطاع غزة بعد الحرب بما تتضمنه من عودة للسلطة الوطنية الفلسطينية إلى القطاع وربط المسارات بينه وبين الضفة الغربية والقدس الشرقية في سياق تسوية سلمية تضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وبما تتضمنه أيضا من تأييد أمريكي وأوروبي صريح للموقف المصري والأردني والفلسطيني الرافض لسيناريوهات التهجير القسري الإجرامية والرافض أيضا لكل حديث عن التهجير الطوعي (الناعم) لأهل غزة إلى خارجها. ترفض حكومة إسرائيل الأفكار الغربية وتشير إلى عزمها الاحتفاظ بوجود أمني طويل المدى في القطاع وإلى رغبتها في تكليف قوى فلسطينية محلية من إدارته، في استنساخ لما حاولته إسرائيل في الضفة وغزة منذ 1967 وحتى توقيع اتفاقية أوسلو في 1993 وفشلت به مثلما فشلت في الجنوب اللبناني في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. ترفض حكومة إسرائيل الممانعة الغربية لجرائم التهجير القسري لأهل غزة ولمواصلة الضغط عليهم بعمليات عسكرية وبأوضاع إنسانية مزرية لدفعهم في اتجاه الحدود المصرية، ويتحدث المتطرف بن غفير وهو وزير بها عن أن بلاده ليست نجمة إضافية في العلم الأمريكي وأنها لها القدرة على اتخاذ قراراتها باستقلالية وبمعزل عن المطالب والضغوط الأمريكية والدولية.
ولأن الولايات المتحدة ومعها الحكومات الأوروبية لا تمارس ضغوطا حقيقية على إسرائيل لإنهاء الحرب وإيقاف العدوان المسبب للمأساة الإنسانية في غزة والانفتاح على وساطة ومفاوضات وتسوية سياسية، بل تمزج بين رفض بعض الممارسات الإسرائيلية، وهي جرائم حرب صريحة، وبين مواصلة الدعم العسكري والمالي لحكومة نتنياهو، فإن تحايل تل أبيب وفاعليتها في إدارة المشهد المحلي والإقليمي الذي ترتبه الحرب وقدرتها على فرض تصوراتها على الأرض في غزة وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة تظل هي الأوراق الاستراتيجية الأهم في معادلة الصراع الدائر.
هذه الحقيقة الكبرى تستدعي من كافة القوى الفلسطينية، حركات مقاومة وسلطة، عملا وطنيا سريعا لبناء التوافق حول أولويات اليوم والغد. وتستدعي من كافة الأطراف العربية، خاصة مصر والأردن، انتباها مستمرا لتداعيات الحرب وأخطار جرائم التهجير القسري والناعم التي لن يبتعد عنها اليمين الإسرائيلي بسهولة.