ليس يوماً بعد الحرب، بل خلالها: بلينكن يزور إسرائيل

ليس يوماً بعد الحرب، بل خلالها: بلينكن يزور إسرائيل

لن تنجح رحلة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في التغلب على جميع الخلافات الثنائية بين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن الحرب، لكن نجاحها يمكن قياسه من خلال كيفية تعاملها مع القضايا العاجلة قصيرة المدى وسط تأجيل المسائل الرئيسية المتعلقة بفترة ما بعد الحرب.

عندما يزور وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إسرائيل في 9 كانون الثاني/يناير، سيتضمن جدول أعماله المتنوع مناقشة الخلافات الواضحة بين البلدين حول جوانب معينة من الحرب ضد “حماس”. لكن هذه الخلافات التي تتعلق بمسائل قصيرة الأمد ليست عميقة أو كثيرة كما كانت في المراحل السابقة من الأزمة، ويبدو أن الحليفين يتشاركان وجهات نظر مماثلة حول ثلاث مسائل حاسمة وهي (1) حاجة إسرائيل إلى دخول مرحلة “أقل حدة” من الحرب (2) والسعي إلى استمرار العمل نحو جولة أخرى من مفاوضات تحرير الرهائن مع “حماس” (3) وضرورة إبعاد “حزب الله” عن حدود إسرائيل لتجنب نزاع إقليمي أوسع نطاقاً.

ويقيناً، لا يزال المسؤولون الأمريكيون يشعرون بالإحباط لأن القدس لم تضع استراتيجية “اليوم التالي” ولأن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش رفض مناشدات الأجهزة الأمنية للإفراج عن أموال للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة هناك. لكن في الوقت نفسه، تدرك إدارة بايدن جيداً أن الحرب لن تنتهي قريباً وتتفهم مدى معارضة الحكومة الإسرائيلية لتحديد أفق سياسي للفلسطينيين في هذه اللحظة. ولذلك، يبدو فريق بلينكن على استعداد لتأجيل القضايا طويلة الأمد إلى زيارة لاحقة والتركيز على المسائل قصيرة الأمد في الوقت الحالي، لا سيما نظرة إسرائيل إلى السلطة المدنية في شمال غزة مع انتقال القتال الرئيسي جنوباً.

الانتقال إلى حرب أقل حدة

ربما تكون رحلة بلينكن قد حققت أحد أهدافها حتى قبل وصوله. ففي الثامن من كانون الثاني/يناير، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانييل هاغاري، لصحيفة “نيويورك تايمز” إن إسرائيل ستخوض الحرب قريباً بعدد أقل من القوات البرية والغارات الجوية. ولم يكرر السياسيون الإسرائيليون هذه الرسالة لجمهورهم بعد، على الرغم من أنهم أوضحوها بشكل خاص في بيانات أولية للصحفيين. فضلاً عن ذلك، في حين استدعت إسرائيل 360 ألف جندي احتياطي في بداية الحرب، فقد تم تسريح أكثر من نصفهم في الشهر الماضي وبقي 170 ألف جندي في الخدمة ـ وهو عدد من المتوقع أن ينخفض إلى أقل من 100 ألف جندي قريباً.

ووفقاً لعدد من المسؤولين الإسرائيليين، يفضل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، التحوّل إلى ضربات أكثر توجيهاً لأسباب عسكرية. وربما تكون الصعوبات المتمثلة في الحفاظ على تعبئة كبيرة لجنود الاحتياط لما يقرب من مائة يوم منذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر قد لعبت دوراً في هذا القرار أيضاً. فإسرائيل لم تقم باستدعاء جنود الاحتياط لأكثر من ستين يوماً منذ حرب لبنان عام 1982، وقد لاحظ المسؤولون التأثير الاقتصادي السلبي للخدمة الاحتياطية المطوّلة.

ويقول آخرون إن هذا التحوّل هو نتيجة ضغوط الحلفاء مثل الولايات المتحدة. ففي زيارة قام بها بلينكن في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، أفادت بعض التقارير أنه أخبر الحاضرين في اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي أنهم يفتقرون إلى “الرصيد” الكافي لمواصلة القتال على هذا المستوى العالي لعدة أشهر.

ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين الانتقال إلى جهد أقل حدة وإنهاء النزاع. فقد أعلن هاليفي بشكل قاطع أن الحرب سوف تستمر “لعدة أشهر”، بينما أوضح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت مراراً وتكراراً أن الهدف ما زال القضاء على قدرات “حماس” العسكرية أو إضعافها وقتل أو اعتقال قادتها. وبما أن صالح العاروري هو القائد الوحيد الرفيع المستوى الذي قُتل حتى الآن، فمن المفترض أن يتطلب الهدف الثاني المزيد من الوقت. وينطوي هدف آخر قد يستغرق وقتاً طويلاً على تحرير حوالي 136 رهينة ما زالوا محتجزين في غزة.

هل تُعتبر محافظة شمال غزة حالة اختبار؟

وفقاً لهاغاري، قام الجيش الإسرائيلي بتفكيك هيكلية القيادة والتحكم لما يصل إلى اثنتي عشرة كتيبة تابعة لـ”حماس” تضم 14000 مقاتل في شمال غزة، إلا أنه يحتاج إلى المزيد من الوقت لفرض سيطرته الكاملة على نظام الأنفاق في الشمال الذي ما زال يضم بضعة آلاف من المقاتلين. وإلى أن يتم تحقيق هذا الهدف، لا يمكن القول بشكل قاطع أن إسرائيل تسيطر على شمال غزة – لكن المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي سيصل إلى هذا الهدف قريباً.

ولذلك، لدى بلينكن أسباب وجيهة لمطالبة إسرائيل بتفاصيل محددة بشأن خططها للجزء الشمالي من القطاع. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 250 ألفاً من سكان شمال غزة الذين يقدر عددهم بنحو 1.25 مليون نسمة لم يستجيبوا لطلبات إسرائيل المتكررة بالتوجه جنوباً والابتعاد عن الخطر (وتباينت أسبابهم، وفي بعض الحالات شملت الأمراض). وليس من السهل إيصال المساعدات الإنسانية من رفح إلى منطقة القتال شمالاً التي تم إخلاؤها جزئياً، كما أن معبر بيت حانون (إيرز) الإسرائيلي في الشمال مهيأ لحركة الأشخاص، وليس البضائع. فعندما زار مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إسرائيل الشهر الماضي، كان أحد أهدافه الرئيسية فتح معبر كرم أبو سالم جنوب إسرائيل من أجل تسريع عمليات التفتيش وزيادة تدفق المساعدات.

ومن غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل ستمنع سكان غزة من العودة إلى شمال القطاع لحين إطلاق سراح جميع الرهائن، لكن التقارير الإخباريةتشير إلى أن هذا هو الموقف الذي سيتم تقديمه إلى بلينكن. ونظراً لحجم الدمار في شمال غزة، درست إسرائيل إمكانية توفير مساكن جاهزة مؤقتة من الخارج لإيواء المدنيين، تماماً كما فعلت مع المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

أما السؤال الآخر المفتوح فهو مَن سيضمن النظام العام في شمال غزة ويقدّم الخدمات الأساسية حال انتهاء مرحلة القتال الرئيسية هناك. ووفقاً لإحدى الخطط التي صاغها غالانت وتم تسريبها مؤخراً إلى وسائل الإعلام، سيقدم الفلسطينيون خدمات مدنية هناك، في إشارة على ما يبدو إلى البيروقراطيين الوزاريين المحترفين والهيكليات غير المرتبطة بـ”حماس” على مستوى البلديات والأقضية. وفي الوقت الحالي، تدفع “السلطة الفلسطينية” رواتب الكثير من البيروقراطيين في غزة الذين قد يتولون هذا الدور. ومع ذلك، عندما واجه نتنياهو معارضة مجلس الوزراء اليميني المتشدد، صرح أنه لن يُسمح “للسلطة الفلسطينية” بالعودة إلى غزة.

الرهائن

من المؤكد أن بلينكن سينقل الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة “الأقل حدة” إلى القادة العرب خلال جولته الإقليمية. وقد أيد بعض هؤلاء الزعماء سراً فكرة قيام إسرائيل بسحق “حماس” خشية أن تشجع الحرب القائمة الإسلاميين العنيفين في بلدانهم. لكنهم قلقون أيضاً لجهة الأثر الذي تخلّفه التقارير الإعلامية بشأن الأزمة الإنسانية في غزة على الرأي العام، ويأملون على الأرجح أن تؤدي استراتيجية إسرائيل الجديدة إلى تخفيف هذه المشكلة جزئياً.

وشملت الدول السابقة في جولة بلينكن قطر ومصر، وكلاهما محاوران رئيسيان في مفاوضات تحرير الرهائن. ولم يذكر أي من البلدين مقتلالعاروري كسبب لتعليق تلك المحادثات، على الرغم من أن المسؤولين القطريين أخبروا مؤخراً وفداً من عائلات الرهائن أن هجوم بيروت الحساس للغاية الذي تم فيه استهداف العاروري يعقّد المفاوضات. وقبل مقتل العاروري مباشرةً، أشارت “حماس” إلى أن إنهاء الحرب لم يعد شرطاً مسبقاً لاستئناف المحادثات. ويبدو أن المفاوضات تركز الآن على تأمين إطلاق سراح الحالات الإنسانية – الأربعين أو أكثر من الرهائن المسنين أو الإناث أو المصابين – مقابل هدنة إنسانية لمدة أسبوعين على الأقل.

لبنان

من المرجح أن يكرر بلينكن موقف الإدارة الأمريكية، الثابت منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، بشأن قلقها من اتساع رقعة الحرب لتصبح إقليمية وتفضيلها عدم اتخاذ إسرائيل خطوات تصعيدية ضد “حزب الله” في لبنان أو الحوثيين في اليمن. لكن من وجهة نظر واشنطن، يختلف هذا التصعيد عن الانخراط في مناوشات حدودية مع “حزب الله” أو الدفاع عن النفس ضد رشقات الصواريخ/الطائرات المسيّرة الحوثية.

وبعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر مباشرةً، دعا غالانت، وعلى ما يبدو “هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي” بأكملها، إلى توجيه ضربة استباقية لـ”حزب الله”. وقد تم إحباط ذلك من خلال تطوّرين. أولاً، حذر قائدا الجيش الإسرائيلي السابقان، بيني غانتس وغادي أيزنكوت، من أنهما لن ينضما إلى حكومة الحرب الجديدة ما لم تركز إسرائيل جهودها على غزة. ثانياً، طمأنت إدارة بايدن إسرائيل بأن إيران ووكلائها لن يشنوا حرباً إقليمية، وتعهدت في الوقت نفسه بنشر حاملة طائرات في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​للحؤول دون انهيار بطاريات “القبة الحديدية” الإسرائيلية إذا استخدم “حزب الله” ترسانته الضخمة المكونة من 150 ألف صاروخ وقذيفة.

وقبل زيارة بلينكن مباشرةً، أرسلت الإدارة الأمريكية المبعوث الرئاسي للشؤون اللبنانية الإسرائيلية، آموس هوكستين، إلى القدس، جزئياً للسعي وراء حل دبلوماسي من شأنه إبقاء قوات الكوماندوز “الرضوان” النخبوية التابعة لـ “حزب الله” بعيداً عن الحدود الشمالية. ففي بداية الحرب، قامت إسرائيل بإجلاء 80 ألف مواطن من تلك الحدود خشية أن تسعى وحدات “الرضوان” إلى تكرار الفظائع التي ارتكبتها “حماس” في حال اتساع رقعة النزاع. وفي الأسبوع الماضي، تراجع “حزب الله” على ما يبدو بضعة كيلومترات وسط ضربات متواصلة للجيش الإسرائيلي.

وتصر إسرائيل أيضاً على أن يحترم لبنان “قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701″، الذي تم إقراره بعد حرب عام 2006 مع “حزب الله”، والذي ينص على عدم انتشار الحزب جنوب نهر الليطاني. ولم يقم الجيش اللبناني ولا “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) بتطبيق “القرار 1701” فعلياً. وفي أغلب الأحيان، لا ينتشر عناصرهما حتى على طول الحدود، ناهيك عن مواجهة “حزب الله”. ويبدو أن الحكومة اللبنانية طرحت تسوية تتنازل بموجبها إسرائيل عن بعض مناطقها الحدودية الثلاثة عشر المتنازع عليها مقابل إبعاد الحزب عن الحدود. لكن “حزب الله” لا يقبل بشرعية إسرائيل كدولة، وبالتالي، من غير الواضح ما إذا كان ترسيم الحدود وحده سيحل النزاع.

الضفة الغربية

يشعر بلينكن بالقلق أيضاً من عدم السماح لـ120 ألفاً من سكان الضفة الغربية باستئناف وظائفهم في إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، مما أدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادي في الضفة وفاقم التوترات مع السلطة الفلسطينية. ويتفق المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون على حدوث تحسّن في مجال رئيسي واحد. فبعد وقت قصير من بدء الحرب، أفادت التقارير أن بعض جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي وقفوا متفرجين بينما كان المتطرفون الإسرائيليون يشاركون في أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، إلا أن الجيش أبقى منذ ذلك الحين هذا العنف ضمن مستويات أدنى بكثير ومنع جنود الاحتياط من مرافقة المتطرفين أو مساعدتهم بأي شكل من الأشكال.

الخاتمة

في نهاية المطاف، لن تؤدي زيارة بلينكن إلى تسوية جميع الخلافات الثنائية بشأن الحرب. ولكن يمكن قياس نجاحها من خلال كيفية تعاملها مع المسائل العاجلة قصيرة الأمد بينما تؤجل في الوقت الحاضر المسائل الرئيسية لفترة ما بعد الحرب.

 

ديفيد ماكوفسكي