ظهرت الحكومة المصرية أخيرا كمن يتعامل بالقطعة مع الأزمات الخارجية التي تواجهها، ما يشير إلى غياب الرؤية الشاملة في علاجها، وأن الأدوات التي تراها مناسبة قد تكون مضرة، وتتحرك سريعا عندما تزداد التأثيرات السلبية حدة على المصالح الحيوية، بما يستوجب تبني مواقف أكثر صرامة أحيانا.
تكشّف ذلك في موقفين، أحدهما عند التعامل مع ترتيبات إسرائيل بشأن محور فيلادلفيا في قطاع غزة وملحقات ذلك أمنيا، والآخر مع مذكرة تفاهم وقعتها إثيوبيا مع أرض الصومال تقترب بموجبها أديس أبابا من جنوب البحر الأحمر، وفي الحالتين خرجت مصر بتصريحات حادة للرد على ما رأته مساسا بمصالحها.
إذا كان الموقف الأول يكتنفه غموض ومراوغات وحسابات معقدة، فالموقف الثاني أكثر وضوحا لمنهج تتبعه مصر في التعاطي مع الأزمات الإقليمية، يعتمد على الانتظار والتريث والحذر إلى أن تبدأ التداعيات تدريجيا تظهر وكأنها جاءت فجأة، مع أن لها مقدمات ومعطيات وتصورات كانت بازغة، ثم تتحرك القاهرة حيالها عندما يبدأ العد التنازلي للدخول في مرحلة التنفيذ والاقتراب من مستوى الخطر.
◙ مصر تحتاج إلى مبادرة تنقلها لعقد صفقات مع قوى إقليمية ودولية لإخماد طوفان الأزمات المحيط بها، فالتهدئة المؤقتة أو التريث الزائد لن يكون مفيدا في المستقبل
دخلت مصر على خط الخلاف بين الصومال وإثيوبيا بسبب مذكرة التفاهم التي وقعتها الأخيرة مع أرض الصومال، مع أنها تعلم طموحات أديس أبابا في الحصول على منفذ بحري بعد انفصال إريتريا بذريعة أنها باتت دولة حبيسة، وكل العيون كانت متجهة إلى ميناء بربرة في إقليم أرض الصومال الذي يعيش منذ حوالي ثلاثة عقود حالة شبه مستقلة، ونسجت قيادته علاقات خارجية خاصة به.
استفاد التحرك المصري من أخطاء سنوات ماضية في الصبر أكثر من اللازم على إثيوبيا بشأن أزمة سد النهضة التي دخلت طريقا مسدودا، وقد يكون هذا التحرك رسالة ردع لمن يفكرون بالمساس بمصالحها في أي مكان أو أن القاهرة تراجع منهجها وقررت الاشتباك مع بعض القضايا التي لها علاقة مباشرة بمصالحها.
مهما كانت الدوافع التي أفضت إلى اختيار خطاب تصعيدي في الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، هناك طريقان سوف يفضي إليهما، الأول القوة وهو ما لا تحبذه القاهرة في حل الخلافات الإقليمية، وعبر مسؤولون كبار عن ذلك في قضايا عديدة، مثل ليبيا والسودان، وسد النهضة نفسه، والثاني التمهيد لإجراء مفاوضات بين أطراف الأزمة لتفكيكها وهو ما تستطيع المساهمة فيه انطلاقا من قناعة بأهمية الحلول السياسية.
دخلت العلاقة بين مصر وإثيوبيا مرحلة تحتاج إلى تحركات خلاّقة من جانب القاهرة، لأنها الأكثر تضررا من توجهات أديس أبابا، فهناك مقاربتان محددتان يمكن صياغتهما في هذا الإطار لفك شفرة خلافات يمكن أن تتزايد الفترة المقبلة مع تصاعد الطموحات الإثيوبية للتمدد في المنطقة، والرغبة في توظيف بعض التطورت الإقليمية لصالحها.
إما أن يحدث تفاهم واسع بين البلدين على جميع النقاط العالقة، وهو ما يحتاج إلى وساطة موثوق بها تنزع فتيل الخلافات المستمرة، أو مواصلة المواجهات الجزئية، تارة بسبب سد النهضة وأخرى بسبب أرض الصومال، وما يستجد من تطورات.
◙ تبدو كل الطرق المفيدة للمصالح المصرية تصب في خانة التوصل إلى حلول كاملة أو صفقة تنهي إشكاليات العلاقة المتوترة مع إثيوبيا
وهذه تحتاج إلى حلفاء لمصر يساعدونها على تحقيق أهدافها بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة، لأن الحلول المؤقتة أو ما يوصف بـ“بيْن بيْن” لن تكون مفيدة للطرفين، فعند أول محك أو اختبار مؤثر سوف ينشب خلاف جديد.
يؤكد المنهج المصري أن المواجهة كلية أم جزئية مرفوضة، وتزداد عوامل رفضها مع كثافة التحديات على الجبهات الإستراتيجية، فضلا عن حدة الأزمة الاقتصادية في الداخل، وتعلم إثيوبيا وغيرها من الجهات التي اشتبكت القاهرة معها سياسيا أنها غير مستعدة لتغليب الخشونة على الليونة، ما يفقد اللهجة التصعيدية في الخطاب المصري أهميتها وقدرتها على توصيل رسالة صحيحة بالردع في الحد الأدنى منها.
كما أن أصدقاء مصر، من العرب والعجم والأفارقة والقوى الدولية الكبرى، لا يوجد بينهم من يمكن القول إنه حليف حقيقي، يخوض معركة معها أو نيابة عنها، ضد إثيوبيا أو غيرها، فقد تكون مصر تملك القدرات العسكرية الكافية التي تمكنها من شن حرب وعرة، لكن هذه العملية بحاجة إلى من يوفر لها غطاء سياسيا إقليميا ودوليا، وهو ما يمكن القطع بأنه غير موجود أو محدود للغاية في الوقت الحالي.
يفتح التفكير في هذه النقطة والوصول إليها من قبل مصر وخصومها، المجال لبحث الطريق الصحيح في مثل هذه الأوضاع وهو العثور على جهة وساطة مؤتمنة تتكفل بتسوية الخلافات بين القاهرة وأديس أبابا، فالأخيرة ترى في سد النهضة وسيلة للتكاتف الوطني حول هدف يحظى بقبول في وقت تزداد فيه المطبات الداخلية صعوبة على الحكومة الإثيوبية، وتعتقد أن المنفذ البحري عن طريق إقليم أرض الصومال أو غيره مسألة حيوية ولها أيضا أهمية في ما يسمى “الكبرياء الوطني”.
لا تحبذ مصر فتح جبهات عدة والدخول في حروب قريبة منها، فما بالنا إذا كانت هذه مع إثيوبيا أو في جنوب البحر الأحمر الذي يعج بأساطيل دول كبرى، وتتحسب القاهرة من عواقب قاتمة لما يجري في هذه المنطقة على قناة السويس.
◙ مصر دخلت على خط الخلاف بين الصومال وإثيوبيا بسبب مذكرة التفاهم التي وقعتها الأخيرة مع أرض الصومال، مع أنها تعلم طموحات أديس أبابا في الحصول على منفذ بحري بعد انفصال إريتريا
ومهما كان الخطأ الذي ترى القاهرة أن أديس أبابا قد ارتكبته فهو ينطوي على تحولات إقليمية وخروج عن المألوف وما تم التوافق عليه صراحة أو ضمنيا خلال السنوات الماضية، فالرد الذي صاغته حكومة أرض الصومال على التصريحات المصرية العنيفة يحوي تحديا هادئا وربما مستفزا، وأنها ماضية في طريقها.
تبدو كل الطرق المفيدة للمصالح المصرية تصب في خانة التوصل إلى حلول كاملة أو صفقة تنهي إشكاليات العلاقة المتوترة مع إثيوبيا، حيث وصلت المعادلة إلى مستوى قريب من العناد، تظهر تجلياته كلما طفا توتر جديد أو جرى بعث توتر قديم.
ربما تكون هناك رواسب تاريخية تسهم بدور ملموس في ذلك، أو مستجدات وتغيرات ومصالح قوى أخرى لا تتوانى عن تغذية الخلافات ومعرفة المدى الذي يمكن أن يصل إليه كل طرف، وهي زاوية لا يصلح معها تصعيد سياسي أو تلويح بخشونة عسكرية لها تكاليف باهظة، بينما يصلح معها الحوار عبر وساطة لها خصوصية ومصالح لدى الدولتين.
تحتاج مصر إلى مبادرة تنقلها لعقد صفقات مع قوى إقليمية ودولية لإخماد طوفان الأزمات المحيط بها، فالتهدئة المؤقتة أو التريث الزائد بحجة عدم الوصول إلى مرحلة المساس بالمصالح العليا في الوقت الراهن لن يكون مفيدا في المستقبل، فتسارع التغيرات في المنطقة سوف يفجر قنابل عديدة في وقت متزامن، وقبل طرق هذه المرحلة توجد قواسم مشتركة يمكن أن تجدها القاهرة مع الأطراف الفاعلة في الجبهات الإستراتيجية المؤثرة على مصالحها.
العرب